وأول من سجَّل فيه منصور بن نقطة المتوفى في أوائل القرن السابع الهجري في قوله مخاطبا الخليفة الناصر العباسي ت622هـ /1225م:
يَا سَيِّدَ السَّادَاتْ
لَكْ في الكَرَم عَادَاتْ
أَناَ بُنَي إبِنِ نُقْطَةْ
وَأبي تَعِيْش أَنْتَ مَاتْ
ونظم الشعراء في هذا القالب سحورياتهم في رمضان كما هو معروف. وهذه الفنون الثلاثة جميعا عراقية: من العراق انتشرت إلى آفاق العالم الإسلامي. أمَّا (الزجل) وهو الوجه الشعبي للموشح الأندلسي الفصيح، وقد انتشر على يد الوزير ابن قزمان الأندلسي أبي بكر محمد بن عبد الملك الوزير المتوفى 508هـ، ومن بعده ابن أخيه محمد بن عيسى بن عبد الملك القرطبي المتوفى525هـ. وانتشر في الأندلس والمغرب وزحف إلى مصر حتى وصل العراق. وذكر أنَّ أشعار محمد بن عيسى كانت تعرف في بغداد مع كونها بيئة تنتشر فيها الفنون الشعرية لمحلية.
ومعروف أنَّ الزجل عالم واسع وبحر طام كانت له فروعه الخمسة التي اختص كل منها بموضوع، لكنها بادت حتى بقي الزجل وحده وكأنْ لم تكن له فروعه تلك.
المهم أنَّ انتشار الفنون الشعرية الشعبية العراقية والأندلسية سجلت لنا نوعين من القوالب، أولهما الرباعي البغدادي، والثاني المتعدد القوافي والوزن وهو الزجل ذو الطابع الأندلسي. ومع هذين الفنين ينبغي أنْ نذكر الشعر البدوي الذي ذكره ابن خلدون في المقدمة، وذَكَرَ الحجازي)
من فنونه صفيُّ الدين الحلي قبله في (العاطل الحالي) فإنَّه عُرِف في الأندلس أيضا وذكر من أنواعه الأصمعيات والبدوي والحواني وعروض البلد.
ويكمل الأستاذ الشيبي فيقول (وبعد أنْ تفرعت الفنون الشعرية الشعبية وانتشرت في البلاد العربية، وجدناها تحذو حذو وأحد من هذه الأصناف الثلاثة، فأما الصنف الرباعي العراقي ومنه:
العَتَابة والإبوذية والمربَّع وما إلى ذلك، وأما الصنف الأندلسي الملون، ومنه الزجل الحالي في بلاد الشام ومصر والمغرب، والحميني اليماني القديم، والبدوي الذي يحاول الاقتراب من شكل القصيدة وإنْ كان الغالب عليه أنْ يكون للأشطر الأولى قافية وللأشطر الثانية قافية.
ورغم إهمال الكتاب والنقاد للآداب العامية وعدم الإلتفات إلى تدوينها والعناية بها على وجه مشابه لما فعلوه مع الفصيح إلا أنَّ جملة من المؤرخين تصدوا إلى جمع ما نالته أيديهم ووصل
إلى أسماعهم من الأشعار العامية وربما أعجبوا بها وكتبوا بها أيضا كما فعل صفي الدين الحلي الذي يعتبر كتابه (العاطـل الحالي) أكبر هذه المحاولات، إلا أنَّ صفي الدين الحلي لا يقدم مادة وفيرة في هذا المجال، وقد اهتم في كتابه المذكور وخاصة في قسم الزجل منه بتتبع الناحية اللغوية وما يلتزم من شروط العامية ومدى تطبيق الزجالين لهذه الشروط التي افترض أنهم
الزموا أنفسهم بها. أمَّا ابن حجة الحموي مؤلف كتاب (بلوغ الأمل في فن الزجل) فلا يضيف شيئا فيما يتصل بشأن هذا الفن وتاريخه في عصوره الأولى وإنَّما يعتمد على ما قاله صفي الدين الحلي قبله الاعتماد كله. ويتتبع أخطاء الزجالين اللغوية وعيوبِهم التي سبق أنْ عالجها صفي الدين الحلي بما لا يقدم جديدا.
وابن حجة وإنْ كان أشار إلى بعض معاصريه من الزجالين او
مِمَّن سبقَهُم بقليل فساق لنا بعض أزجالهم، إلا انه في اختيار هذه الأزجال كان خاضعا للذوق العام الذي سيطر على النظم المعرب من لزوم ما لا يلزم وتورية وجناس وتوليد لحيل لفظية فيما يقرأ. وليس من شك أنَّ عددا من أئمة الزجل في تلك العصور وهم مثقفون ينظمون أيضا بالفصحى كانوا يَرَوْنَ أنَّ آية الإبداع إنما هي في التلاعب اللفظي والمعنوي. على حين أنَّ عددا آخر كان بغير شك يجنح إلى البساطة ويؤثر السهولة والانطلاق).
لكن ذوق ابن حجة وقف به عند الفريق الأول ولم يُعْنَ بالثاني فحرمنا من ثمار شهية كانت اقرب للتعبير عن روح الجماعة ومشاعر الجماهير البسيطة، كما يقول الشيخ جلال الحنفي في تقديمه لكتاب (مباحث في الأدب الشعبي).
وفي العصر الحديث نجد عددا من المؤلفات بهذه الفنون العامية ولكنها لم تركز على الجوانب النقدية إلا بشكل عابر ولا ترينا نقاط القوة والضعف لدى شعراء هذا النوع من الأدب. فكثير
منها يُعْنَى أولا وأخيرا بجمع تلك الآثار محاولا نسبتها إلى قائليها. ومن ذلك ما قام به الأستاذ الفاضل علي الخاقاني الذي أصدر أعداد من (مجلة الأدب الشعبي) ضمت بين دفتيها آلافا من الإبوذية والدارمي والموال والميمر والقصائد لشعراء معروفين. ووثقت بذلك الكثير من الإنتاج الأدبي ونسَبَتهُ إلى قائليه مع شروح لبعض الشعراء وتعليقات على القصائد وذكر أوزانها او البحور التي تنظم عليها. وكذلك فعل الأب انستاس الكرملي في كتابه (مجموعة من الأغاني العامية العراقية) في جزأين جمع فيه العديد من أنواع الشعر الشعبي الذي حققه وشرحه وضبط ألفاظه الأستاذ عامر رشيد السامرائي. والأستاذ خليل رشيد الذي ألف كتاب (الأدب الشعبي) وتطرق فيه إلى علم اللغة ونشأتها وبروز اللهجة العامية ودافع ببسالة عن الشعر الشعبي واستعرض بلاغة الشعراء الشعبيين وفضل الكثير من أبياتهم على نظرائهم من شعراء الفصيح.
أمَّا الأستاذ عامر رشيد السامرائي الذي مر ذكره فقد جمع عددا كبيرا من الإبوذيات والمواليات في كتابه (مباحث في الأدب الشعبي) واستشهد بها على البلاغة في الشعر الشعبي وكيف يجب أنْ تكون عليه وركز على فكرة الشاعر وبعد مراميه وما يضع من صور بلاغية في أبياته التي بدونها لا يعتبر شاعرا شعبيا وإنْ كَتَبَ بلهجة عامية. وقام بشرح المفردات واعتنى عناية خاصة بمعانيها وبيان الجناسات المختلفة لأبيات الإبوذية والموال. واهتم كثيرا ببناء المفردات التي تستخدم في الشعر الشعبي باعتبارها وحدة بناء البيت واعتبر الكلمات السوقية من ناحية ورداءة الأسلوب وبعده عن التعمق في التفكير والبناء المتين للجملة والكلمة في داخلها خللا يخرج الشاعر وإنتاجه من ساحة الشعر الشعبي إلى الشعر العامي.
وقد أصدرت وزارة الثقافة والفنون العراقية سلسلة من الكتب التي تعنى بالفنون الشعرية غير المعربة ضمن (السلسة الفلكلورية) كان من بينها كتاب (العتابة والحُماق) بقلم الدكتور رضا محسن القرشي الذي تناول بالبحث والتدقيق تاريخ نشوء الشعر الشعبي خصوصا هذين الفنين وأدرج أبياتا كثيرة تنسب للشاعر عبد الله الفاضل وأخرى لغيره من الشعراء وأبياتا لم يسمِ قائليها. وتطرق إلى وزن العتابة والقصة فيها وحكايات شعبية عنها وفي نهاية بحثه ذكر نصوصا منها وشرحها وعلق عليها قبل أنْ ينتقل إلى فن الحماق.
كما قامت المؤسسة العربية للدراسات والنشر بإصدار كتاب بعنوان (أنماط تراثية شعبية فلكلورية) وهي مجموعة دراسات نقدية وتعليقات في التراث والفلكلور والغزل في الشعر
الشعبي تطرق فيها المؤلف جاسم محمد شواي إلى الغزل في الفصيح والموشح في القرن السادس الهجري في العراق . وناقش القصيدة الحديثة والعمودية في اللهجة العامية والمجاراة في الموال والميمر والدارمي وغيرها من الفنون وجمع الكثير من الأبيات والقصائد وتحدث عن بعض
الكتب التي ناقشت الأوزان الشعبية.
كما قدم الأستاذ ماجد شبر دراسة لكيفية قراءة الشعر الشعبي موضحا الفروق بين الفصحى واللهجة العامية وتطرق إلى أنواع الشعر الشعبي المعروفة جميعها إضافة إلى فنون أقل انتشارا او في الحقيقة أصبحت طي النسيان كالقوما والريحاني والكان وكان التي لا ينظم عليها أحد الآن. وجمع نماذجا لكل فن منها مع شرح للمفردات العامية وأنهى كتابه بقصائد مختارة مشهورة من الشعر الشعبي العراقي.
وفي (كتاب الفلكلور في بغداد) الصادر عام 1963 تحدث الدكتور أكرم فاضل مدير الفنون والثقافة سابقا عن الفنون الشعبية وتاريخ الفلكلور وعناصره وعرَّج على الأمثال وأفرد فصلا للشعر البغدادي نشر فيه جملة من الزهيري والعتابة وبعض المقاطع القصيرة لشعراء شعبيين.
ومن الكتب المهمة التي تعتبر بحق إضافة نوعية للشعر الشعبي العراقي كتاب (العروض في الشعر الشعبي العراقي) لمؤلفه الأستاذ والشاعر ربيع الشمري الذي لم يترك شاردة ولا واردة إلا ذكرها وفصلها بأسلوب تعليمي رائع وبالأمثلة الموثقة بأسماء الشعراء فكانت إضافته هذه شعلة في سماء الشعر الشعبي أنارت الطريق لمن يحاول استقصاء العروض في هذا الفن الرائع.
كما أضاف احمد الهاشمي صاحب كتاب (ميزان الذهب) الذي يشرح فيه البحور والأوزان الفصيحة في نهاية كتابه مقالة عن الفنون الشعرية غير المعربة وافرد فصلا لفنون الشعر
الجارية على السنة العامة تحدث فيها عن أوزان الزجل والمواليا والكان وكان والقوما.
أمَّا الأستاذ البناء مجيد لطيف القيسي فقد جمع أوزان الشعر الشعبي العراقي في كتابه (أوزان الشعر الشعبي) وقال إنها ثمانية وثلاثون نوعا ثم قام بنظمها في رباعيات شعبية وجعل كل واحدة منها بوزن خاص واستثنى الموال لأنه سباعي كما يذكر. ويقول لم أقرأ او أسمع بأحد قد سبقني في نظم رباعيات الشعر الشعبي بأوزانه. وقد جمع من منوعات الشعبي الشيء الكثير ليسوقها أمثلة على الأوزان التي يذكرها.
وقدم الأستاذ علي الفتال دراسة بعنوان (عبود الكرخي رائد الشعر العامي)، دراسة ونصوص تحدث بها عن أهمية اللغة العامية وأهمية الأدب العامي وعلاقته بالمجتمع ليقول: (وهكذا ولد الشعر العامي ليقف بين الشعر الفصيح والشعر الريفي (الحسچه) كظاهرة تتطلبها الحياة الجديدة في المدينة لأنَّ أكثر جمهور المدينة مثلما هو بعيد عن لغة الشعر الفصيح فهو بعيد كذلك عن لغة شعر الريف او الحسچه). ويَعْتَبِر الشعر العامي ممثلا بالكرخي هو القاسم المشترك بين هذين اللونين من الشعر الفصيح والريفي، بل محصلة طبيعية لهما بفعل الوتائر لمتسارعة لتطور الإنسان فكريا وتقنيا.
ثم يعرج على قصائد الكرخي ليقدم منها أمثلة كثيرة ويشرح مفرداتها ويتطرق إلى حياته الاجتماعية والسياسية أيضا، ويعرض أمثلة من شعره يبين فيها صلابة الشاعر وتصديه للظواهر الاجتماعية والدعوة إلى وحدة الصف وغير ذلك.
كما أصدر الشاعر كاظم السلامي عددا من الكتب تتناول مواضيع عديدة من الشعر الشعبي العراقي منها الدارمي بين الفراتين وروائع الدارمي ولقاء القمم والجناس والدارمي سفير لمحبين إضافة إلى (صور بلاغية في الشعر الشعبي العراقي) التي تضمنت أبيات إبوذية نظمها الشاعر نفسه بعضها مولد من أبيات فصيحة وقام بالتعليق عليها مبينا معانيها وشارحا جناساتها.
كما أنَّ الكاتب منصور الحلو قدم كتابا تحت عنوان (صور عراقية ملونة) وهو دراسة في الشعر الشعبي العراقي جمع فيه جملة من أبيات الموال والدارمي وقام بشرحها والتعليق عليها واهتم بتوضيح معاني كلماتها.
وتحدث عبد المولى الطريحي عن حياة (فدعة الشاعرة او خنساء خزاعة) كما أطلق عليها في كتاب أسماه باسمها ووسمه بدراسة تحليلية قصصية عن حياة الشاعرة العربية الخالدة التي طبقت شهرتها الأفاق مع مجموعة من شعرها الحماسي البليغ الرائع.
ولدار البيان مساهمات في رفد الأدب الشعبي العراقي من ذلك كتاب (منتخبات الإبوذية الكبرى في الغزل والنسيب) الذي شارك فيه جميع كبار الشعراء الشعبيين في العراق خلال ثلاثة قرون كما يقول مؤلفه الذي جمعه وقدمه السيد علي الخاقاني. وكذلك كتاب (الإبوذيات العراقية في الغزل والنسيب) الذي أصدرته دار البيان وضم بين دفتيه مجموعة من الإبوذيات لشعراء معروفين وآخرين مجهولين كثير منها في مجاراة أبيات القريض او مولدة منها.
وأصدر الشاعر والباحث السيد علي الخاقاني أيضا كتاب (شاعرات في ثورة العشرين) ومعه الهوسات في ثورة
العشرين تطرق فيه إلى أكثر الهوسات والنعي وأنواع الشعر على لسان نساء العراق وهن يشاركن الرجال في الدفاع عن حياض الوطن ويشددن على أيديهم بما تصدح به حناجرهن
فتزيدهم عزما وإصرارا على القتال والاستشهاد في سوح الجهاد في أعظم ثورة شهدها الشرق الأوسط بل العالم الثالث كله على سلطات الاحتلال. وبين فيه بلاغة النساء وأنهن لَسْن بأقل شأواً من الرجال في البلاغة لا بل يفقن الكثير منهم في هذا المجال.
وقد أغنى الأستاذ السيد علي الخاقاني المكتبة العراقية بمؤلفاته الرائعة وجهده الكبير وعلى مدى سنين طويلة بما لذ وطاب مما استطاع جمعه من أفواه الحفّاظ والشعراء الذي لولا جهده وجهد من سعى سعيه لضاع الكثير من تراثنا الأدبي الشعبي. إضافة إلى ما نشرته دار البيان من دواوين لشعراء شعبيين كبار كديوان الفتلاوي وديوان الحاج زاير وفدعة الشاعرة للشاعر والباحث الحاج عبد الحسن المفوعر السوداني ودراسات عديدة عن الشعر الشعبي.
وساهمت (مجلة التراث الشعبي) الشهرية التي تعنى بشؤون الثقافة والفلكلور بنشر العديد من المواضيع المتصلة بالشعر والأدب الشعبي العراقي بأقلام أساتذة مرموقين في الكثير من
أعدادها. وأصدرت مطبعة أهل البيت في كربلاء المقدسة ديوان الشاعر الشعبي الكبير حسين الكربلائي باسم (ديوان حسين الكربلائي نابغة الأدب الشعبي العراقي) وهو كتاب بأجزاء
يتضمن شرحا لحياته وشعره. وأصدر الشاعر حسن جار مسعود الجبوري كتاب (أزهار المسعودي) جمع فيه الكثير من أبيات الزهيري مع عدد من القصص الشعبية المعززة بتلك
الأبيات في الكثير من شؤون الحياة اليومية وشرح الكثير منها مع بيان معاني كلماتها وجناساتها.
كما صدر أخيرا كتاب (شذرات من الشعر الشعبي في سوق الشيوخ) جمعه وقدم له فرقد الحسيني ثبت فيه أكثر من مائة من شعراء سوق الشيوخ المعاصرين ونماذج من أشعارهم وإبوذياتهم مع رواية أكثر من خمسين قصة شعبية مرفقة بأبيات قيلت فيها.
كان هذا استعراضا لما تمكنت من الإطلاع عليه فيما ألّف في الشعر الشعبي العراقي ولابد أنَّ القراء الأفاضل يعرفون وكذلك السادة المؤلفون مصادر أخرى لم يتم التطرق إليها لأنَّ
الموضوع لا يتسع لأكثر من ذلك.
****************
بقلم د.هاشم الفريجي
من كتاب نقد الشعر الشعبي العراقي
(الابوذية اولا) للكاتب نفسه
يجوز النقل والاقتباس بشرط
الاشارة الى الكاتب والمصدر
يتبع ...