وخير الأصحاب من يفدي صاحبه بنفسه وهذا ما كان من أمير المؤمنين علي عليه السلام حينما فدى رسول الله صلى الله عليه وآله بنفسه ليلة الهجرة فنال مدح الله له حيث قال تعالى :
(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ )(207) البقرة
بل من أسعد الناس مصداقا لحديث رسول الله الذي بدأنا به الموضوع ..
وقال صلى الله عليه وآله: ( أسعد الناس من خالط كرام الناس ).
هناك الكثير من الناس يعتقد بأن الجمال هو جمال المظهر الخارجي ،،
وهو مفهوم خاطئ إن الجمال هو جمال الروح والنفس الطيبة فجمال الروح يعكس على الجمال الخارجي ،،
ربما في بعض الأحيان يكون جمال المظهر الخارجي له تأثير على النفوس ولكن يظل جمال الروح ..
هو العامل الأساسي والمؤثر في نفوس الآخرين فجمال الروح ،،
هو جمال النفس الطيبة والأسلوب المهذب والأعمال الحسنة والأخلاق الجيدة والتواضع وأن يحب المرء لأخيه مايحب لنفسه وجذب الآخرين بالكلمات الجميلة والمعسولة والكثير ...
غير ذلك والإنسان الذي يتصف بهذه الصفة يكسب محبة الآخرين ومعاملتهم الحسنة ..
ويكون له مركز مرموق وفعال في المجتمع ويستحق المدح والحب من أهله وذويه وكانت حياته طيبة وكريمة وشهد له الناس في حياته وبعد مماته بالخير والصلاح ،،
بعكس ذلك الإنسان الغير سوي القديد المتكبر الذي يستحق الكره والبغض وكانت حياته كريهة مملة وشهد عليه في حياته وبعد مماته بالشر والفساد،،
وحكمة الإمام علي عليه السلام تشهد على ذلك ( خالطوا الناس مخالطة إن متم معها بكوا عليكم وإن عشتم حنوا إليكم )
التعايش مع الآخرين ...
قال تعالى :{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ} البقرة
إن الإنسان اجتماعي بطبعه فلا بد له من المخالطة وفي هذه الأزمنة التي تشابكت فيها الأمور وتقاربت المسافات ،،
وتداخلت المصالح وأصبح العالم كقرية واحدة ، فالمسلمون والمؤمنون جزء من هذا العالم لا بد لهم من المخالطة والمعاشرة مع الآخرين ..
وحينئذ يدور الأمر بين الانعزال عن العالم والانكفاء على الذات أو الاجتماع والتعايش معهم بخلق حسن ومعاشرة طيبة .
ولا شك أن الأمر الثاني أفضل وأحسن من الأمر الأول بكثير .
والإسلام دستور الحياة للإنسانية اختاره الله لها وهو أعلم بمصلحة الإنسان من نفسه ويضع الحلول لكل مناحي الحياة ومنها في جانب الاشتراك في الوطن مع الآخرين ،،
ولأجل ذلك أخذ على الإنسان العهد والميثاق على أن يلتزم بالأسس الأولية الضرورية التي يحتاجها في تكوين المجتمع الصالح ويعيش هذا الإنسان مع الآخرين بوئام وانسجام .
الآية المباركة نموذج من النماذج التي يعرضها القرآن الكريم في هذا الجانب وهي :
1-العبادة لله وحده لا شريك له . وهذا عنصر عقائدي لا يمكن التخلف عنه .
2-بر الوالدين والإحسان إليهم ، برين كانا أم فاجرين .
3-الإحسان إلى ذوي القربة .
4-الإحسان إلى اليتامى .
5-الإحسان إلى المساكين . وفي الثلاثة الأخيرة الإحسان إلى ذوي القربى واليتامى والمساكين وإن كان في بعض الحالات قد يكون مستحباً إلا أنه في أكثر الحالات يكون واجباً . وأخذ العهد والميثاق إنما يتناسب مع الواجب لأهميته والحاجة الملزمة إليه .
6-القول الحسن إلى الناس جميعاً .
7-إقامة الصلاة .
8-إيتاء الزكاة .
وذكر بني إسرائيل في الآية وأخذ العهد والميثاق عليهم لم يكن من باب الاختصاص وأن غيرهم غير مطالبين بمواد هذا الميثاق .
ومع أن بني إسرائيل التزموا بهذه المواد وأعطوا العهد والميثاق لله سبحانه إلا أنهم نكثوا أيمانهم إلا قليلاً منهم .
وإذا كان بنو إسرائيل مع الله هكذا فهل يفوا بالعهود والمواثيق مع الفلسطينيين أو مع غيرهم .
أهمية القول الحسن للناس ..
إن القول الحسن للناس أحد مواد هذا العهد والميثاق الذي أخذه الله على عباده وذكر بني إسرائيل من باب المثال لا الاختصاص .
فإن قوله تعالى : { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً } جاء متوسطا بين أمور واجبة عقائدية أو فقهية أو أخلاقية مما يؤكد على أهميته وأثره في حياة الناس كل الناس .
وقد جاء في تفسير هذه الآية المباركة ( والمعنى قولوا للناس قولا حَسَناً وهو كناية عن حسن المعاشرة مع الناس ، كافرهم ، ومؤمنهم ... )
التعايش في القرآن الكريم ..
وهذا يعني أن القرآن الكريم هو أول من طرح التعايش بين الناس جميعاً على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وأعراقهم ولغاتهم وألوانهم وبلدانهم وطبقاتهم الاجتماعية ،
وأن هذه الاختلافات لا تدعو إلى عدم التعايش وعدم العشرة الحسنة بل تبقى هذه الاختلافات على حالها ،رافدا من روافد المعرفة قال تعالى :{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} الحجرات
ويبقى التعايش وحسن المعاشرة على حاله يستفيد من تعدد الثقافات والمعرفة ...
إن هذا المبدأ القرآني هو في الحقيقة مبدأ عالمي لم يقتصره القرآن على خصوص المسلمين أو المؤمنين بل عداه إلى كل الناس على وجه الأرض { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً } كما أن هذا يدل على عظمة الإسلام وقوته وشموله وعالميته ،
وقد أكد في هذه الآية على حسن المعاملة لكل الناس حيث جاء فيها كلمة { حُسْناً } وهو مصدر جيء به للمبالغة مثل ما تقول ( زيد عدل ) ومثل قوله تعالى :{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ....} العنكبوت
أي ووصينا الإنسان بوالديه توصية حسنة أو ذات حسن أي أمرناه أن يحسن لوالديه .
موقف أهل البيت عليهم السلام من التعايش ..
أئمة أهل البيت عليهم السلام هم عد ل القرآن الكريم بنص حديث الثقلين المتواتر وأنهم مع القرآن لا يفترقان ، وهم أحق من طبق القرآن كما أنهم هم القوّام به وأعرف بعمومياته وخصوصياته وناسخه ومنسوخه من غيرهم .
وأحاديثهم المتعددة قد أكدت التعايش وحسن المعاشرة مع الآخرين التي ترمي إليه الآية المباركة ليس بين المسلمين فحسب بل مع كل الناس
وإليك بعض هذه الأحاديث المفسرة للآية والمتطابقة معها :
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثٍ ..... ( وَ خَالِطُوا النَّاسَ وَ أْتُوهُمْ وَ أَعِينُوهُمْ وَ لَا تُجَانِبُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً }
حسن المعاشرة نعمة من الله ..
إن نعم الله كثيرة على العبد ظاهرة وباطنة ومن تلك النعم هي حسن المعاشرة مع الآخرين والتعايش معهم والقول الحسن لهم وهذا ما جاء في كتاب مِصْبَاح الشَّرِيعَةِ،،
قَالَ الصَّادِقُ عليه السلام : ( حُسْنُ الْمُعَاشَرَةِ مَعَ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي غَيْرِ مَعْصِيَتِهِ مِنْ مَزِيدِ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ عَبْدِهِ )
ويواصل هذا الكلام وأن حسن التعايش والمعاشرة كما أنها نعمة من الله على عبده ، أيضا تنم عن حسن السر من العبد مع مولاه ويوجد اتصال وثيق بين الخضوع لله في السر وبين حسن المعاشرة مع الآخرين ..
فيقول الإمام عليه السلام حسب الكلام المنسوب إليه : ( وَمَنْ كَانَ خَاضِعاً لِلَّهِ تَعَالَى فِي السِّرِّ كَانَ حَسَنَ الْمُعَاشَرَةِ فِي الْعَلَانِيَةِ )
ويواصل كلامه وأن المعاشرة يجب أن تكون لله لا لغيره وأن تكون للآخرة لا للدنيا بقوله :
( فَعَاشِرِ الْخَلْقَ لِلَّهِ تَعَالَى وَ لَا تُعَاشِرْهُمْ لِنَصِيبِكَ لِأَمْرِ الدُّنْيَا وَ لِطَلَبِ الْجَاهِ وَ الرِّيَاءِ وَ السُّمْعَةِ وَ لَا تَسْقُطَنَّ بِسَبَبِهَا عَنْ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ مِنْ بَابِ الْمُمَاثَلَةِ وَ الشُّهْرَةِ فَإِنَّهُمْ لَا يُغْنُونَ عَنْكَ شَيْئاً وَ تَفُوتُكَ الْآخِرَةُ بِلَا فَائِدَةٍ )
وبصدد طرح مشروع المجتمع الصالح وتوحيده كما تقدم عن الإمام زين العابدين والرضا عليهما السلام فيقول :
( فَاجْعَلْ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْكَ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ وَ الْأَصْغَرَ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ وَ الْمِثْلَ بِمَنْزِلَةِ الْأَخِ وَ لَا تَدَعْ مَا تَعْلَمُ يَقِيناً مِنْ نَفْسِكَ بِمَا تَشُكُّ فِيهِ مِنْ غَيْرِكَ )
وبصدد الحديث عن من يريد هداية الناس ويتحمل المسئولية للمؤسسة الدينية يقول : ( وَ كُنْ رَفِيقاً فِي أَمْرِكَ بِالْمَعْرُوفِ وَ شَفِيقاً فِي نَهْيِكَ عَنِ الْمُنْكَرِ .
وَ لَا تَدَعِ النَّصِيحَةَ فِي كُلِّ حَالٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً }
وقال الإمام الصادق (ع) : (ليس منا من لم يحسن صحبة من صحبه، ومرافقة من رافقه، ومخالطة من خالطه، ومجاورة من جاوره، ومجاملة من جامله، وممالحة من مالحه)
قول الامام علي عليه السلام : (طوبى لمن يألف الناس ويألفونه على طاعة الله) ولكثرة اهتمام الإسلام بالتحابب والتآخي اعتبر الذين يألفون الناس ويكسبون مودتهم، ويعاشرونهم بالإحسان، أحبّ الناس إلى الله وأكثرهم فضلاً، فقال الرسول الأعظم (إن أحبكم إلى الله الذين يألفون ويؤلفون، وإن أبغضكم إلى الله المشاؤون بالنميمة المفرّقون بين الأخوان)
, إن الإنسان أصلاً مدني بِـطبعه وله الحق أن يأنس مع من يُريد ومن حقه ان يستغني ويكتفي بافراد قلائل فـهذه حالته الطبيعية..
يُذكر لنا عن أهل البيت عليهم السلام : ( ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف )
فالإنسان الذي لايألف الأخرين ويعيش حالة منزوية منطوية ..هو عادة يُتهم بالمرض النفسي وبالعقد ...
الكثير يجهل معالم و معنى كلِـمة صديق ومن هو الصديق ..,!؟
وأنا بتصوري أنه لا تتضح لنا هذه المعالم إلا بأن نولي قضية اتخاذ الصديق اهتماماً يليق
..فلا ندع للزمن أختيار صديقنا ..
بل نختاره بما يُناسب ديننا وعقائدنا وعقولنا وعواطفنا ...
والكثير مِن مما هو كفيل بإيصالنا للصديق الحق ..
وعن ما ذكرتي حول سمو علاقة الصداقة وأنها تصل إلى الأخوة ..
بل ياعزيزتي يُـذكر أنها قد تبلغ أكثر مِـن الأخوة..
فالعلاقة بين الأخوة قد تكون مُـجرد أداء لإسقاط الحق الشرعي للأخ
كلامي هذا لا يعني التقليل من شأن علاقة الأخ بالأخ .. لا أبداً ..!
لكني أقصد بأن الإنسان قد يرتبط بصديقه أكثر من أرتباطه بأخيه
لكن علينا أنتقاء هذا الصديق بعناية ..
يذكر لنا الشيخ المـُـربي الفاضل حبيب الكاظمي :
من معايير اختيار الصديق ..
هو اختيار الشخص الأرقى والأعلى منا ! في صفاته وكمالاته .. فقد جاء في الحديث : (إصحب من تتزين به ولا يتزين بك)! ..
وذلك من أجل اكتساب الملكات الحسنة منه بما ينفع العبد في الدنيا و الآخرة .. وقد قال المسيح (ع) ( جالسوا من يذكركم الله َ رؤيتـُه ، ويزيدكم في علمكم منطقـُه)
هذا لا يعـني أننا نقول بأن مُــصادقة من هم في مُـستوانا خطأ , بل هي جيدة لكنها قد لاتؤثر في مجرى حياتك للأفضل .
و ما أجمل قول الأمام علي (ع) في هذا المجال : ( صحبة الولي اللبيب حياة الروح....)
قال الأمير (عليه السلام) : ( كتابك أبلغ ما ينطق عنك(
والصداقة تنمو برعايتها وسقايتها بماء الحبّ والإخلاص ، فأخبر من تحبّه بذلك كما وردت الروايات في ذلك ،
بل قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « من كان لأخيه المسلم في قلبه مودّة ، ولم يعلمه فقد خانه ».
ترك خيانة الصديق ،،
فإنّ علاقة الصداقة من العلائق المقدّسة ، والخيانة تضرم النار فيها وتحرقها وتفنيها ، والخيانة في عالم الصداقة تعني أن يبطن الصديق لصديقه عكس ما يظهره ، ففي الوجه كالمرآة ، ولكن في الخلف خنجر قتّال ..
قال الإمام الصادق عليه السلام) : المسلم أخ المسلم ، لا يظلمه ولا يخذله ولا يغشّه ولا يغتابه ولا يخونه ولا يكذبه )
فالصديق حقّاً من يصدق معك في كلّ الحالات ، في الغيبة والحضور ، في الظاهر والباطن ، سرّاً وعلناً ، في السرّاء والضرّاء ، في الفقر والغنى ..
قال (عليه السلام) : (لا تغشش الناس فتبقى بغير صديق )
يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « من أشار على أخيه بأمر يعلم أنّ الرشد في غيره فقد خانه » وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « من الخيانة أن تحدّث بسرّ أخيك »
فإذا أيضاً من أداب الصداقةِ ومقوماتها و عامل لدوامها كتم أسرار الصديق فمن الواجب علينا أن لا نفشي سراً لإخواننّا .