الغيبة واحدة من اهم الحلقات المهمة في المعتقد الشيعي الانتظاري والتي تعتبر مرتكزا مهما انبنت عليه قضية الامام المهدي عليه السلام ، ونحن قد انزلنا في واحة المهدي في الفكر المعاصر علة الغيبة في حلقات ، فمن خلال الروايات الشريفة التي صدرت عن المعصومين عليهم السلام تعطي فلسفة عميقة لمفهوم الغيبة والان في هذه السطور نعطي بعدا اخر للغيبة نسلط الضوء في رؤية تحليلية للسؤال المهم والذي يطرح نفسه وسط اسئلة كثيرة وهو لماذا كانت الغيبة على مرحلتين ، ولماذا لم تكن غيبة واحدة .
بدءا نقول ان القضية المهدوية لها امتداد طولي ينتهي بقاعدة المنتظرين ويتصل بالمعصوم عليه السلام ليشكل نسقا تصاعديا يصل الى حكمة الباري عزوجل التي نطق بها لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله ولسان المعصومين باعتبارهم هم الخلفاء الذين يمثلونه في الارض .
هذه الحكمة الالهية تمتلك ابعادا كبيرة ربما وجوانبا لايمكن استيعابها الا بالاتصال بالمعصوم عليه السلام لتشكل المرتكز الحقيقي للمعرفة المهدوية ، وأي فصل بين المعصوم وبين المعرفة يؤدي الى نقص المعرفة المهدوية بابعاد مهمة وخطيرة تجعل القضية المهدوية قضية سطحية ومهمشة .
ومن أهم الامور المفصلية في القضية المهدوية هي قضية غيبة الامام المهدي عليه السلام وفلسفتها العميقة التي غابت عن عقول الذين ابتعدوا عن الفكر المعصومي وانساقوا وراء الفكر الانساني الوضعي .
واستكمالا لفلسفة وعلة الغيبة نطرح الاجابة على السؤال المطروح حول جعل الغيبة على مرحلتين وفق البيان النقطي التالي :
اولا: من المعروف ان الامة المؤمنة بقضية الامام المهدي كانت تعيش مع الامام المعصوم بشكل مباشر تقريبا فهي لم تفارق المعصوم طيلة فترة حياتها فكانت تجاهد معه ، وتتعلم منه سب الجهاد الفكري والسياسي وكانت تعلم بوجوده قلبا نابضا بينها ليجعل من ذلك الدم الانتظاري ساريا في كل اجزاء بدنها ، كانت تراه ويراها وكان يلقنها كل الدروس فوجدت الاطمئنان والسكينة والتوازن في العمل الانتظاري ، ولكن بسبب الظروف الموضوعية التي مرت بها الامة المنتظرة في زمن الامامين العسكريين ابي الحسن الهادي وابي محمد العسكري عليهما السلام كان لابد من تحضير النفسية لاستقبال امر غياب الامام المهدي عليه السلام ، لقد كان الامام المهدي مهددا بالقتل فكان لابد من غيابه لان له سنة قرآنية تتمثل في النبي موسى عليه السلام ، وبما انه خات الاوصياء وهو القائد الموكل باقامة الدولة العالمية الموعودة وباعتباره الامام الذي يغذي الوجود بلطف الله عزوجل اقتضت الحكمة الالهية بمغيبه ، هذه الغيبة لم تكون معهودة لدى الامة بل أن الامة في تلك الفترة محرم عليهم ذكر اسمه وحتى ولادته لم تكن معروفة الا لدى القليل ، فكانت الامة تتسائل عن وجوده وعن اسمه ومن هنا اقتضت الحكمة ان يكون للامام عليه السلام غيبة جزئية يظهر فيها لخواص شيعته لكي يتعرفون عليه وبالتالي تتخلص الامة من الصدمة النفسية التي تتعرض لها فلو كان غياب الامام المهدي عليه السلام دفعة واحدة لكانت الامة تتعرض الى الانهيار وبالتالي تضيع جهود الائمة عليهم السلام في بناء ذلك المجتمع الذي حمل لواء فكرة الامام المهدي وضحى ما ضحى من اجلها .
فكان مقتضى وجود غيبة صغرى هو لتخفيف اثر الصدمة النفسية لدى الامة ومن ثم التعود عليها ومن ثم جعلها امرا طبيعيا تعودت عليه الامة حين الغيبة التامة وهذا ما حصل فعلا ، فبضل هذا التخطيط المعصومي حفظ كيان الامة وحفظ البناء واصبح اكثر قوة وتماسكا واصبح موقنا بالغيبة وومشستوعبا لها حتى انه دافع عنها بكل قوة واقتدار.
ثانيا :الغيبة الصغرى اكدت وجود الامام المهدي عليه السلام واكدت ولادته من خلال ما قام به السفراء من عرض البعض من الاصحاب على الامام المهدي ورؤيته وبالتالي اطمأنت الامة الى حاضرها ومستقبلها في العمل الانتظاري لعلمها بولادة القائد في زمانها وبحضوره بينها ، وهذا يصعب الامر يصعب كثيرا فيما لو كانت الغيبة على مرحلة واحدة وهي الغيبة التامة .
ثالثا : أن التخطيط المعصومي اكد دور النواب في حياة الامة واصبح هذا الجهاز جزءا من حياتها وفق موازين خاصة واسس جعلها الامام عليه السلام ، هؤلاء النواب الخاصون حازوا على ثقة الامام المهدي عليه السلام مما انعكس على نفسية الامة في الاطمئنان الى القيادة الوسطية التي تربطها بامام زمانها فلم تكن تعيش عيش الجاهلية ولم تصل الى مرحلة الغربة التامة .
رابعا: الملاحظ من الغيبة الصغرى وجود المدعون للوساطة بين الامة والامام المهدي عليه السلام وخصوصا أن هؤلاء المدعون يمتلكون صفاتا خطيرة ، فقد كان الحلاج متصوفا وقدم ادبيات جديدة في العشق والفناء والتجلي والحلول، وكان الشلمغاني عالما فقد درس الفقه وباحث حتى وصل الى مرحلة علمية متقدمة والف في زمن استقامته كتبا اعتمدها علماؤنا حتى بعد انحراف وكفره عملا بقاعدة (خذوا ما رووا وذروا ما رأوا ) وكان غيرهم ممن مشى الى بيت الله الحرام حاجا اربعين مرة ، فكانوا هؤلاء على درجة عالية من الخطورة بحيث ان دور السفير في ردعهم لم يكن كافيا ، فكان لابد من تدخل الامام المهدي عليه السلام في ردعهم ولعنهم لكي ينهي دورهم الخطير خصوصا ان الشلمغاني جعل له اتباع وهو عشيرته بني بسطام ولم يرجعوا الا بالتهديد من قبل الامام المهدي بعزلهم جميعا واعلان البراءة منهم اذا بقوا على خط الشلمغاني .
وخروج التوقيعات الكثيرة بهذا الشأن من الامام المهدي عليه السلام على أيدي السفراء كان له الدور الكبير في انهاء هذه الظاهرة الخطيرة التي ربما كانت تؤدي الى هدم جزء كبير من بناء الامة وتأخير الظهور بدرجة كبيرة ومن خلال البيان الختامي للسفير الرابع علي بن محمد السمري يتبين ان قضية الادعاء والسفارة واردة ولابد من الالتفات اليها والتعامل معها بصورة واعية .
ولولا وجود غيبة صغرى لما حسمت هذه الامور في ذلك الوقت او في الاوقات المستقبلية .
خامسا : ان وجود غيبة صغرى تعني وجود الامام المهدي كما اشرنا سابقا لظهوره للبعض ولظهور توقيعاته المباركة وهذا الظهور الجزئي جعل لدى الامة دلالة يقينية مما جعلها قوية وواثقة من مواجهة كل التحديات والاشكاليات المستقبلية التي يوردها المخالفون والمغرضون والمنكرون لوجود الامام المهدي عليه السلام وبدون هذه الغيبة الممهدة للغيبة التامة لكان هناك مشقة بالغة في هذا الامر.
سادسا : ان وجود غيبة صغرى وبما تحمل من قضية ارتكازية واطمئنانية تشكل حافزا كبيرا للعطاء والسير الانتظاري والثقافي والعقائدي الكبير لمواجهة كافة التحديات ، فكانت الغيبة الصغرى المرتكز الذي انطلق منه العطاء للامة المنتظرة الذي هو واحد من اهم الامور الممهدة لظهور الامام المهدي عليه السلام .
سابعا : ان الغيبة الصغرى هي النقطة الرئيسية التي انطلق فيها بداية تشكيل الجهاز الظاهري للامام المهدي المتمثل بالنيابة الخاصة الذي حفظ كيان الامة وصانها من الانحراف لاسيما انها مقبلة على غيبة تامة .
ثامنا : لو تفحصنا بدقة التوقيعات الصادرة من الامام عليه السلام في الغيبة الصغرى لوجدناها تمثل تراثا كبيرا ومهما يستطيع من خلاله ومن خلال تراث المعصومين عليهم السلام في حفظ التشريع الاسلامي الحقيقي بكافة متغيرات زمانه ، ورغم ان هذا التراث قد فقد منه الكثير الكثير بسبب الظروف الموضوعية الاقسية التي عاشتها الامة المنتظرة ، فقد ورد ان احد الوكلاء كان يصل اليه في كل شهر توقيعا وكان في الاهواز وهذا الوكيل كان معمرا بحيث عاصر الغيبة الصغرى كلها وكما اشير اليه في رواية ، فمعنى انه احد الوكلاء ومعنى انه يصله في كل شهر توقيع ياترى كم كانت التوفيعات الصادرة في زمن الغيبة الصغرى !!! ؟؟ ولو وقرنت بما وصل الينا الان ربما تصل نسبة ما وصل الينا من توقيعات لاتصل الى 5% ورغم هذا فقد كان تراث الامام وتراث ابائه يكفي لحفظ التشريع الاسلامي واستطاع هذا التراث ان يحفظ الكثير الكثير من القضايا الكلية التي تستطيع ان تفك كل غموض حاضرا ومستقبلا . ولولا وجود غيبة صغرى لما استطاع العلماء الحصول على هذا التراث خصوصا ونحن نعلم ام اخر المعصومين هو الامام المهدي عليه السلام فبقربه منا يجعل التراث اكثر يقينية ممن كان قبل اكثر من مئات السنين .