كعصفورٍ أنيق حطّ على غصني النحيل ، أنشدَ حزنَه بترفٍ ثم رحل ، بعد أن تركَ لي نافذتين إحداهما أخشى الاقتراب منها حتى لا أتورّط بفتنة حضوره أكثر ، أغلقتُها بينما أبقيتُ الأخرى مشرعة يتلصّصُ منها الحنين بين فينة وأخرى .
مضتْ سنتان على آخر رسالةٍ أهملتُها في البريد ، تركتُها مستلقية تقرضُ أطرافها الحيرة ، أقلّبُ أحرفها حتى كلّتْ ، وتبدّد عطرها الذي كان يحاولُ إيقاظ جهةٍ من القلب باتت مُهمَلة .
نفضتُ الغبار عنها اليوم وفككتُ أقفالها ، بدتْ صفراء كأنها أرضٌ فطّرَ تربتها الجفاف ، لكنّ عطراً مندسّاً بين سطورها يقاوم التبدّد ، أغراني على وصلِ أطرافها المبتورة منذ زمن ، في آخرها كتبَ رقماً لهاتفه الجديد ، أطرقُ أزراره متى ما دعاني الحنين ، دوّنته في قصاصةٍ سأحرّضُ بها نفسي إلى الحديث معه ، كنتُ كورقة فارغة في يدٍ ترتجف ، حين أنهيتُ آخر رقمٍ كان قلبي يركلُ خفقاته نحو صدري الذي وضعتُ كفي لأتحسسَ اضطرابه الشديد .
أجابني بـ : ( مرحباً ) بصوتٍ خامرهُ هدوءٌ معتاد ، ميّزتُ راءَهُ الثقيلة فسكنني اليقين ، ها هو لم تغيّرهُ السنون ، ذاتُ المسافة تفصلنا غير أن الزمن بيننا قد امتدّ أكثر ، أعادها ثانية فأغلقتُ الخط ؛ لم أستطع ترتيبَ أنفاسي التي تبعثرت مع كل نبرةٍ في صوته ، كانت تهرولُ نحو أيامه التي غادرتني فجأة ، ولم أتهيأ للفاجعة بعد ، استلقيتُ أحتضنُ دواراً اجتاحني فلم أفلتْ منه إلا على صوتِ إعادتهِ للاتصال ، تركتُهُ يومضُ بين يديّ قليلا ، لكنّ حنيناً كان يجذبني بقوّة حتى ارتطمتُ بجدارٍ أشبهُ بالزجاج الذي لا يُخفي ما وراءه ، فأجبتُه بصوتٍ خفيض جداً ، خبأتُ فيه ارتباكي ، يبدو أنه لم يميّز صوتي ، فغرزَ في قلبي أوّلَ شظيّةٍ دون أن يعلم : ( أنتِ جُمان ؟! )
ألجمتْني المفاجأة ثم أجبتُه بصوتٍ متكسّر : ( أنا سَما يا خالد !! ) .
كانَ كمَن غاصَ في الأرض وهو يستعيدُ صوتي ، حاولتُ شرخَ السكوت الذي تكوّنَ بيننا ولو بسؤالٍ باهت ، صوتُ طفلٍ صغير يلهو بالقربِ منه ، سألتُه من يكون ، ويبدو أنّ الصمت هو الأليَق بأسئلة الغياب ، فبعضها يكون الردّ عنها أشبهُ بغصّة لا تريد المرور بسلام ، لم يدمْ ذاك السكوتُ طويلاً ، فالإجابات قد يرتّبها القدر بلطفٍ شديد ، ( بابا ... ) .
كرهتُها من فمِ ذلك الطفل حين سمعتُها ؛ لأنه بها غرز شظيّة أخرى في قلبي دون حذر ، وبقيتُ بعدها أعيشُ تفاصيلَ متخيّلة أرسمُها كيفما شاءَ قلبي ، فإذا هزمني الحزنُ بترتُها ثم جثوتُ أبكي ككلّ النساء بعد نوبةِ فقد .
أغلقتُ الخطّ دون إذنٍ بالانسحاب ، وأنا أستعيدُ حوارنا الأخير قبل ثلاثِ سنواتٍ انصرمتْ .
ما اتعس هذه الفئة ( الغارقون في الوهم )
يرسمون في مخيلتهم اشياء ويتعلقون
بآمال هي اوهن من نسج العنكبوت كل ذلك
لأن قلوبهم تخشى العيش بلا حُب
تمضي الأيام وتصفعهم الأقدار فتبين لهم
مدى سذاجة قلوبهم..
اخي الفاضل علاء قصة مؤثرة حقاً سلمت
وشكراً جزيلاً لك.. تحياتي