وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً(115)
سبب النّزول
لقد قلنا في سبب نزول الآية السابقة: إِنّ بشير بن الأبيرق كان قد سرق من أحد المسلمين، وأتهم إِنساناً بريئاً بهذه السرقة، واستطاع بالأجواء المزيفة التي اختلقها أمام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبريء نفسه، ولكن حين نزلت تلك الآيات افتضح أمره، فبدلا من أن يختار طريق التوبة بعد فضيحته، سار في طريق الكفر وارتد عن الإِسلام بصورة علنية رسمية.
فنزلت الآية الأخيرة متضمنة إِشارة إِلى هذا الموضوع، بالإِضافة إِلى بيانها لحكم إِسلامي عام وكلي.
التّفسير
حين يرتكب الإِنسان خطأ ويدرك هذا الخطأ، فليس أمامه سوى طريقين:
أحدهما: طريق العودة والتوبة التي أشارت الآيات السابقة إِلى أثرها في
[452]
غسل الذنوب عن الإِنسان.
والطّريق الثّاني: هو أن يسلك الإِنسان سبيل العناد، وقد أشارت الآية الأخيرة إِلى الآثار والعواقب السيئة لهذا الطريق، حيث أعلنت أنّ من يواجه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بالعناد والمخالفة بعد وضوح الحق له، ويسير في طريق غير طريق المؤمنين فإِنّ الله سوف لن يهديه إِلى غير هذا الطريق، وسيرسله الله في يوم القيامة إِلى جهنم، وما أسوأ هذا المكان الذي ينتظره! فتقول الآية: (
ومن يشاقق الرّسول من بعدما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً).
ويجب الإِنتباه إِلى أنّ عبارة (
يشاقق) مأخوذة من مادة «شقاق» بمعنى المخالفة الصريحة المقرونة بالحقد والضغينة وتؤكّد جملة (
من بعدما تبيّن له الهدى) هذا المعنى أيضاً، وفي الحقيقة فإِنّ من يكون هذا شأنه فلن يلقى مصيراً خيراً ممّا ذكرته الآية له، مصير ينطوي على نهاية مشؤومة له في هذه الدنيا وعاقبة سيئة أليمة في الدار الآخرة، فهو في الدنيا ـ كما تقول الآية ـ يستمر منجرفاً في الطريق الأعوج الذي اختاره، فتتوسع بذلك زاوية انحرافه عن جادة الحق والصواب، وهذا الطريق هو الذي اختاره لنفسه والبناء الذي وضع أساسه بيده، ولهذا لم يكن قد وقع عليهم أي ظلم من الخارج.
وأمّا بالنسبة لقول الآية: (
نُوله ما تولى) فهو إِشارة إِلى حرمان هؤلاء من التوفيق المعنوي، لتمييز الحقّ، ومواصلتهم السير في طريق الضلالة، وقد بيّنا تفاصيل هذا الموضوع لدى الحديث عن تفسير الهداية والضلالة في الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا.
وحين تقول الآية: (
نصله جهنم) فهي تشير إِلى مصير هؤلاء يوم القيامة.
وهناك تفسير آخر حول جملة (
نوله ما تولى) وهو أن هؤلاء وأمثالهم، يوكل أمرهم إِلى الآلهة المصطنعة التي انتخبوها لأنفسهم.
[453]
حجية الإِجماع:
يعتبر الإِجماع أحد الأدلة الفقهية الأربعة، وهو بمعنى اتفاق علماء ومفكري الإِسلام حول مسألة فقهية. وذكروا في علم أصول الفقه أدلة مختلفة لإِثبات حجية الإِجماع، ومن ضمنها الآية الأخيرة التي مرّ البحث في تفسيرها، إِذ يعتبرها البعض دليلا على حجية الإِجماع لأنّها تقول أنّ من يختار طريقاً غير طريق المؤمنين سيكون له مصير مشؤوم أسود في الدنيا والآخرة.
وبناء على هذه الآية، فإِنّ أي طريق يختاره المؤمنون ـ في أي مسألة كانت ـ يجب على الجميع السير في هذا الطريق.
والحقيقة أنّ هذه الآية لا صلة لها بمسألة حجية الإِجماع، لا من قريب ولا من بعيد (وطبيعي إِنّنا نقبل حجّية الإِجماع الذي يكشف لنا عن قول المعصوم، ولكننا نعتبر حجية السنة وقول المعصوم دليلا لحجية هذا الإِجماع، وليس الآية المذكورة).
والسبب في عدم قبولنا دلالة هذه الآية على حجية الإِجماع، هو أنّها تعين أوّلا: عقوبات للأشخاص الذين يخالفون النّبي صراحة وعن علم وإِدراك، ويختارون طريقاً غير طريق المؤمنين، فهذان العنصران يشكّلان باتحادهما العلّة لذلك المصير المشؤوم، مع التأكيد بأن هذا المصير إِنّما يتحقق لدى اختيار الشخص للعنصرين المذكورين عن علم ودراية. وليس لهذا الموضوع أية صلة بمسألة حجية الإِجماع، ولا يدل بوحده على هذه الحجية.
والأمر الثّاني: هو أنّ المقصود بعبارة (
سبيل المؤمنين) الواردة في الآية، هو طريق التوحيد والخضوع لله وحده، وهو مبدأ الإِسلام، وليس معناه الفتاوى الفقهية أو الأحكام الفرعية، وهذه الحقيقة يثبتها ظاهر الآية بالإِضافة إِلى ما قيل في سبب نزولها.
والحقيقة هي أنّ السير في طريق غير طريق المؤمنين لا يتجاوز عن كونه
[454]
مخالفة للنّبي، وكلا العنصرين يعودان إِلى موضوع واحد.
وينقل أنّه حين كان أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) في الكوفة، جاءه جمع من الناس وطلبوا منه أن يعين لهم إِماماً لصلاة الجماعة (لكي يصلوا خلفه صلاة التراويح جماعة، حيث كان عمر بن الخطاب في زمانه قد أمر بأن تصلّى هذه الصّلاة جماعة) وما كان من الإِمام غير أن يمتنع عمّا طلبوا منه، ونهى عن إِقامة جماعة كتلك (لأن الجماعة لم تشرع في النوافل) لكن هذه الجماعة التي سمعت الحكم الصريح الحازم من الإِمام علي(عليه السلام) أصرّت على عنادها، وأخذت بالصراخ والعويل، داعية الناس إِلى الإِحتجاج على حكم الإِمام.
فجاءت جماعة أُخرى إِلى الإِمام علي(عليه السلام) واخبرته بما أخذ يفعله اُولئك القوم وبعصيانهم لأمره، فطلب أن يتركوا وشأنهم ليختاروا من شاؤوا ليصلّي بهم تلك الجماعة غير الشرعية(1) ثمّ تلى الإِمام هذه الآية الأخيرة، وفي هذا الخبر دليل آخر على التّفسير الذي تحدثنا عنه بالنسبة لهذه الآية