حيث أتى باسم إن وليكم مفردا و بقوله
«الذين آمنوا» و هو خبر بالعطف بصيغة الجمع، هذا.
قوله تعالى: «إنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا» قال الراغب في المفردات: الولاء بفتح الواو و التوالي أن يحصل شيئان فصاعدا حصولا ليس بينهما ما ليس منهما، و يستعار ذلك للقرب من حيث المكان و من حيث النسبة و من حيث الصداقة و النصرة و الاعتقاد، و الولاية النصرة، و الولاية تولي الأمر، و قيل: الولاية و الولاية بالفتح و الكسر واحدة نحو الدلالة و الدلالة و حقيقته تولي الأمر، و الولي و المولى يستعملان في ذلك، كل واحد منهما يقال في معنى الفاعل أي الموالي بكسر اللام و معنى المفعول أي الموالى بفتح اللام يقال للمؤمن: هو ولي الله عز و جل و لم يرد مولاه، و قد يقال: الله ولي المؤمنين و مولاهم.
قال: و قولهم: تولى إذا عدي بنفسه اقتضى معنى الولاية و حصوله في أقرب المواضع منه يقال: وليت سمعي كذا، و وليت عيني كذا، و وليت وجهي كذا أقبلت به عليه قال الله عز و جل: «فلنولينك قبلة ترضاها، فول وجهك شطر المسجد الحرام، و حيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره» و إذا عدي بعن لفظا أو تقديرا اقتضى معنى الإعراض و ترك قربه.
انتهى.
و الظاهر أن القرب الكذائي المعبر عنه بالولاية، أول ما اعتبره الإنسان إنما اعتبره في الأجسام و أمكنتها و أزمنتها ثم استعير لأقسام القرب المعنوية بالعكس مما ذكره لأن هذا هو المحصل من البحث في حالات الإنسان الأولية فالنظر في أمر المحسوسات و الاشتغال بأمرها أقدم في عيشة الإنسان من التفكر في المعقولات و المعاني و أنحاء اعتبارها و التصرف فيها.
و إذا فرضت الولاية - و هي القرب الخاص - في الأمور المعنوية كان لازمها أن للولي ممن وليه ما ليس لغيره إلا بواسطته فكل ما كان من التصرف في شئون من وليه مما يجوز أن يخلفه فيه غيره فإنما يخلفه الولي لا غيره كولي الميت، فإن التركة التي كان للميت أن يتصرف فيها بالملك فإن لوارثه الولي أن يتصرف فيها بولاية الوراثة، و ولي الصغير يتصرف بولايته في شئون الصغير المالية بتدبير أمره، و ولي النصرة له أن يتصرف في أمر المنصور من حيث تقويته في الدفاع، و الله سبحانه ولي عباده يدبر أمرهم في الدنيا و الآخرة لا ولي غيره، و هو ولي المؤمنين في تدبير أمر دينهم بالهداية و الدعوة و التوفيق و النصرة و غير ذلك، و النبي ولي المؤمنين من حيث إن له أن يحكم فيهم و لهم و عليهم بالتشريع و القضاء، و الحاكم ولي الناس بالحكم فيهم على مقدار سعة حكومته، و على هذا القياس سائر موارد الولاية كولاية العتق و الحلف و الجوار و الطلاق و ابن العم، و ولاية الحب و ولاية العهد و هكذا، و قوله: «يولون الأدبار» أي يجعلون أدبارهم تلي جهة الحرب و تدبر أمرها، و قوله «توليتم» أي توليتم عن قبوله أي اتخذتم أنفسكم تلي جهة خلاف جهته بالإعراض عنه أو اتخذتم وجوهكم تلي خلاف جهته بالإعراض عنه فالمحصل من معنى الولاية في موارد استعمالها هو نحو من القرب يوجب نوعا من حق التصرف و مالكية التدبير.
و قد اشتمل قوله تعالى: «إنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا» «إلخ» من السياق على ما يدل على وحدة ما في معنى الولاية المذكورة فيه حيث تضمن العد في قوله: «الله و رسوله و الذين آمنوا» و أسند الجميع إلى قوله: «وليكم» و ظاهره كون الولاية في الجميع بمعنى واحد.
و يؤيد ذلك أيضا قوله في الآية التالية: «فإن حزب الله هم الغالبون» حيث يشعر أو يدل على كون المتولين جميعا حزبا لله لكونهم تحت ولايته فولاية الرسول و الذين آمنوا إنما هو من سنخ ولاية الله.
و قد ذكر الله سبحانه لنفسه من الولاية، الولاية التكوينية التي تصحح له التصرف في كل شيء و تدبير أمر الخلق بما شاء، و كيف شاء قال تعالى: «أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي»: «الشورى: 9» و قال: «ما لكم من دونه من ولي و لا شفيع أ فلا تتذكرون»: «السجدة: 4» و قال: «أنت وليي في الدنيا و الآخرة»: «يوسف: 110» و قال: «فما له من ولي من بعده»: «الشورى: 44» و في معنى هذه الآيات قوله: «و نحن أقرب إليه من حبل الوريد»: «ق: 16»، و قوله: «و اعلموا أن الله يحول بين المرء و قلبه»: «الأنفال: 24».
و ربما لحق بهذا الباب ولاية النصرة التي ذكرها لنفسه في قوله: «ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا و أن الكافرين لا مولى لهم»: «سورة محمد - 11، و قوله: «فإن الله هو مولاه»: «التحريم: 4»، و في معنى ذلك قوله: «و كان حقا علينا نصر المؤمنين»: «الروم: 47». و ذكر تعالى أيضا لنفسه الولاية على المؤمنين فيما يرجع إلى أمر دينهم من تشريع الشريعة و الهداية و الإرشاد و التوفيق و نحو ذلك كقوله تعالى: «الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور»: البقرة: 275، و قوله: «و الله ولي المؤمنين»: «آل عمران: 68» و قوله: «و الله ولي المتقين»: «الجاثية: 19»، و في هذا المعنى قوله تعالى: «و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم و من يعص الله و رسوله فقد ضل ضلالا مبينا»: «الأحزاب: 36».
فهذا ما ذكره الله تعالى من ولاية نفسه في كلامه، و يرجع محصلها إلى ولاية التكوين و ولاية التشريع، و إن شئت سميتهما بالولاية الحقيقية و الولاية الاعتبارية.
و قد ذكر الله سبحانه لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) من الولاية التي تخصه الولاية التشريعية و هي القيام بالتشريع و الدعوة و تربية الأمة و الحكم فيهم و القضاء في أمرهم، قال تعالى: «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم»: «الأحزاب: 6»، و في معناه قوله تعالى: «إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله»: «النساء: 150»، و قوله: «و إنك لتهدي إلى صراط مستقيم»: الشورى: 52»، و قوله: «رسولا منهم يتلوا عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة»: «الجمعة: 2»، و قوله: «لتبين للناس ما نزل إليهم»: «النحل: 44» و قوله: «أطيعوا الله و أطيعوا الرسول»: «النساء: 59»، و قوله: «و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم»: «الأحزاب: 36»، و قوله: «و أن احكم بينهم بما أنزل الله و لا تتبع أهواءهم و احذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك»: «المائدة: 49»، و قد تقدم أن الله لم يذكر ولاية النصرة عليه للأمة.
و يجمع الجميع أن له (صلى الله عليه وآله وسلم) الولاية على الأمة في سوقهم إلى الله و الحكم فيهم و القضاء عليهم في جميع شئونهم فله عليهم الإطاعة المطلقة فترجع ولايته (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ولاية الله سبحانه بالولاية التشريعية، و نعني بذلك أن له (صلى الله عليه وآله وسلم) التقدم عليهم بافتراض الطاعة لأن طاعته طاعة الله، فولايته ولاية الله كما يدل عليه بعض الآيات السابقة كقوله: «أطيعوا الله و أطيعوا الرسول» الآية و قوله: «و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمرا» الآية و غير ذلك.
و هذا المعنى من الولاية لله و رسوله هو الذي تذكره الآية للذين آمنوا بعطفه على الله و رسوله في قوله: «إنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا» على ما عرفت من دلالة السياق على كون هذه الولاية ولاية واحدة هي لله سبحانه بالأصالة و لرسوله و الذين آمنوا بالتبع و بإذن منه تعالى.
و لو كانت الولاية المنسوبة إلى الله تعالى في الآية غير المنسوبة إلى الذين آمنوا - و المقام مقام الالتباس - كان الأنسب أن تفرد ولاية أخرى للمؤمنين بالذكر رفعا للالتباس كما وقع نظيره في نظيرها، قال تعالى: «قل أذن خير لكم يؤمن بالله و يؤمن للمؤمنين»: «التوبة. 61»، فكرر لفظ الإيمان لما كان في كل من الموضعين لمعنى غير الآخر، و قد تقدم نظيره في قوله تعالى: «أطيعوا الله و أطيعوا الرسول: النساء - 59»، في الجزء السابق على هذا الجزء من الكتاب.
على أن لفظ «وليكم» أتي به مفردا و قد نسب إلى الذين آمنوا و هو جمع، و قد وجهه المفسرون بكون الولاية ذات معنى واحد هو لله سبحانه على الأصالة و لغيره بالتبع.
و قد تبين من جميع ما مر أن القصر في قوله: «إنما وليكم الله» «إلخ»، لقصر الإفراد كان المخاطبين يظنون أن الولاية عامة للمذكورين في الآية و غيرهم فأفرد المذكورون للقصر، و يمكن بوجه أن يحمل على قصر القلب.
قوله تعالى: «الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون» بيان للذين آمنوا المذكور سابقا، و قوله: «و هم راكعون» حال من فاعل «يؤتون» و هو العامل فيه.
و الركوع هو الهيأة المخصوصة في الإنسان، و منه الشيخ الراكع، و يطلق في عرف الشرع على الهيأة المخصوصة في العبادة، قال تعالى: «الراكعون الساجدون»: «التوبة: 121» و هو ممثل للخضوع و التذلل لله، غير أنه لم يشرع في الإسلام في غير حال الصلاة بخلاف السجدة.
و لكونه مشتملا على الخضوع و التذلل ربما استعير لمطلق التذلل و الخضوع أو الفقر و الإعسار الذي لا يخلو عادة عن التذلل للغير.
قوله تعالى: «و من يتول الله و رسوله و الذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون»، التولي هو الأخذ وليا، و «الذين آمنوا» مفيد للعهد و المراد به المذكور في الآية السابقة: «و الذين آمنوا الذين»، «إلخ»، و قوله: «فإن حزب الله هم الغالبون» واقع موقع الجزاء و ليس به بل هو من قبيل وضع الكبرى موضع النتيجة للدلالة على علة الحكم، و التقدير: و من يتول فهو غالب لأنه من حزب الله و حزب الله هم الغالبون، فهو من قبيل الكناية عن أنهم حزب الله.
و الحزب على ما ذكره الراغب جماعة فيها غلظ، و قد ذكر الله سبحانه حزبه في موضع آخر من كلامه قريب المضمون من هذا الموضع، و وسمهم بالفلاح فقال: «لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله و رسوله و لو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان و أيدهم بروح منه - إلى أن قال: - أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون»: «المجادلة - 22».
و الفلاح الظفر و إدراك البغية التي هي الغلبة و الاستيلاء على المراد، و هذه الغلبة و الفلاح هي التي وعدها الله المؤمنين في أحسن ما وعدهم به و بشرهم بنيله، قال تعالى: «قد أفلح المؤمنون»: «المؤمنون: 1»، و الآيات في ذلك كثيرة، و قد أطلق اللفظ في جميعها، فالمراد الغلبة المطلقة و الفلاح المطلق أي الظفر بالسعادة و الفوز بالحق و الغلبة على الشقاء، و إدحاض الباطل في الدنيا و الآخرة، أما في الدنيا فبالحياة الطيبة التي توجد في مجتمع صالح من أولياء الله في أرض مطهرة من أولياء الشيطان على تقوى و ورع، و أما في الآخرة ففي جوار رب العالمين.
بحث روائي
في الكافي، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن زرارة و الفضيل بن يسار، و بكير بن أعين، و محمد بن مسلم، و بريد بن معاوية، و أبي الجارود، جميعا عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أمر الله عز و جل رسوله بولاية علي و أنزل عليه: «إنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا - الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون» و فرض من ولاية أولي الأمر فلم يدروا ما هي؟ فأمر الله محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يفسر لهم الولاية كما فسر الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج. فلما أتاه ذلك من الله ضاق بذلك صدر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و تخوف أن يرتدوا عن دينهم و أن يكذبوه، فضاق صدره و راجع ربه عز و جل فأوحى الله عز و جل إليه: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك - و إن لم تفعل فما بلغت رسالته و الله يعصمك من الناس»، فصدع بأمر الله عز ذكره، فقام بولاية علي (عليه السلام) يوم غدير خم فنادى: الصلاة جامعة، و أمر الناس أن يبلغ الشاهد الغائب. قال عمر بن أذينة: قالوا جميعا غير أبي الجارود: قال أبو جعفر (عليه السلام): و كانت الفريضة الأخرى، و كانت الولاية آخر الفرائض فأنزل الله عز و جل: «اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي»، قال أبو جعفر (عليه السلام): يقول الله عز و جل: لا أنزل عليكم بعد هذه فريضة قد أكملت لكم الفرائض.
و في البرهان، و غاية المرام، عن الصدوق بإسناده عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله عز و جل: «إنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا»، قال: إن رهطا من اليهود أسلموا منهم عبد الله بن سلام و أسد و ثعلبة و ابن يامين و ابن صوريا فأتوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: يا نبي الله إن موسى أوصى إلى يوشع بن نون، فمن وصيك يا رسول الله؟ و من ولينا بعدك؟ فنزلت هذه الآية: «إنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا - الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون». قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قوموا فقاموا و أتوا المسجد فإذا سائل خارج فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): يا سائل هل أعطاك أحد شيئا؟ قال: نعم هذا الخاتم قال: من أعطاكه؟ قال: أعطانيه ذلك الرجل الذي يصلي قال على أي حال أعطاك؟ قال: كان راكعا فكبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و كبر أهل المسجد. فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): علي وليكم بعدي قالوا: رضينا بالله ربا، و بمحمد نبيا، و بعلي بن أبي طالب وليا فأنزل الله عز و جل: «و من يتول الله و رسوله و الذين آمنوا - فإن حزب الله هم الغالبون» الحديث.
و في تفسير القمي، قال: حدثني أبي، عن صفوان: عن أبان بن عثمان، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام): بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جالس و عنده قوم من اليهود فيهم عبد الله بن سلام إذ نزلت عليه هذه الآية فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المسجد فاستقبله سائل فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): هل أعطاك أحد شيئا؟ قال: نعم ذلك المصلي، فجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإذا هو علي (عليه السلام):. أقول: و رواه العياشي في تفسيره عنه (عليه السلام).
يتبع...