دجلة تتدافع أمواجه.. تتألق تحت أشعة شمس الغروب.. القباب والمنائر تغمرها غلالة ذهبية.. فبدت شفّافة موحية.. حتّى أشجار النخيل التي تنهض على ضفاف النهر بدت هي الأخرى كرموشِ حسناء ساحرة..
القصور المرمرية الأنيقة.. تتناثر فوق الشطآن كلالئ منثورة، وما يزال قصر الذهب بقبته الخضراء يهيمن على بغداد أجمل مدن الشرق.. وما يزال الفارس يشير برمحه الطويل إلى المَدَيات البعيدة.. حيث تشتعل الثورات(1).
انزلق القارب الصغير في المياه الباردة.. وراح ينساب مع تموجات النهر.. من بعيد بدا قصر ( الخلد ) متألقاً.. ما يزال فتيّاً رغم عقد من السنين.
جلس الفتى في قاربه يراقب الامتداد الرشيق لجبهة النهر حيث تغتسل بعض الأغصان المتدلّية.
غابت الشمس، توارت خلف ذُرى النخيل.. فبدت متّقدة بلون يشبه توهجات الجمر في المواقد الشتائية.
هبّت نسمة عليلة بدّدت شيئاً من حرّ آب. في دجلة لا يشعر المرء بلهيب آب، فالضفاف الخضراء والمياه الباردة القادمة من أقاصي الشمال، تبعث في النفس شعوراً بالحيوية..
غابت الشمس.. وانتشرت ظلمة خفيفة.. ومن بَعيد كان صوت الأذان ينساب كانسياب المياه..
ضرب الفتى بمجدافه المياه، فاتّجه القارب صوب قصر ( الخُلد ).. وشيئاً فشيئاً تناهت له أصوات الموسيقى والغناء، وكان صوت الأذان يتلاشى في أُذنيه حتّى اختفى تماماً...
توقف القارب في الرمال الناعمة وبدا الشاطئ صفحة ملساء.. قفز الفتى الذي لم يبلغ العشرين بعد.. قفز إلى الشاطئ الرملي، وربط القارب بجذور شجرة معمَّرة.. وراح يشقّ طريقه بين أشجار النخيل..
تعالت أصوات الموسيقى، وارتفع غناء الجواري.. بدا القصر في تلك الليلة صَدَفة جميلة تتألق في الضوء.
مئات القناديل تضيء في الشرفات، والجواري في ثيابهن المزركشة.. شعر الفتى أنّه قد يعيش في عالم آخر.. منذ مدّة وهو يترقّب هذه اللحظة.. لقد سمع منذ أسابيع عن عزم الحاكم ( المهدي )(2) على تزويج ابنه هارون من ابنة عمّه المدلّلة ( زُبَيدة ) أثرى فتيات بغداد.. وسيّدة بني العبّاس الأولى..
اقترب الفتى أكثر.. كان يتلصّص حذراً.. منتظراً فرصة مناسبة ليزجّ بنفسه مع جموع المدعوّين.. سوف تشفع له ثيابه الفاخرة التي جلبها له أبوه التاجر من الهند..
صدحت الموسيقى.. وظهرت عشرات الجواري.. الفتيات الجميلات يخطرن كالظباء.. يَرفَلْن بالحُلل الحريرية المزركشة بالذهب.. فتيات من بلدان عديدة.. فتيان من أرمينيا ومن الهند، والمغرب وإيران.
أروقة القصر مزيّنة بالسجاد الأرمني.. والبُسط الفارسية..
وجاء سِرب من الجواري يَحملنَ أطباقاً من الذهب ملأى بالفضة وأطباقاً من فضة ملأى بالذهب.. وجاء سرب آخر من الجواري يحملن أنواع الحلل.. وسرب من الفتيات يحملن صناديق تزخر بالمجوهرات.. وتلاهُنّ فتيات يحملن آنية العطر.. وأخيراً جاءت حسناوات يحملن أطباق الطعام.. وآنية الخمر.
شعر الفتى لوهلة أنّه في الجنّة.. تذكّر صديقه الفقير الذي مات في ( الوباء )(3) قبل أيّام.. وفي غمرة ذهوله ظهرت ( العروس ).. ظهرت ( زبيدة ) كأجمل ما تكون، تنوء بحلل الذهب، ورأى لأول مرّة تلك الحُلّة العجيبة التي طالما سمع عنها في الأحاديث والحكايات.. رأى شيئاً أُسطورياً..
كيف يُصاغ الثوب كلّه من الذهب فلا يدخل فيه من الغَزْل سوى القليل القليل من الحرير.
كان منظر اللآلئ وهي تُطرّز ثوب الذهب كنجوم في بركة تغمرها أضواء الشمس..
كانت زبيدة تخطر في مشيتها تحفّها عشرات الصبايا.. وقد استقرّ فوق رأسها تاج ملكي مرصّع بالجواهر النادرة..
وانسلّ الفتى.. عاد من حيث أتى.. عاد قبل أن يدركه الصباح.. وقبل أن تسكت ( شهرزاد ) عن الكلام المباح!
ألفى قاربه في مكانه لَكأنه ينتظر.. شعر الفتى أنّه كان في عالم الأطياف.. وأنّه قد استيقظ ليجد نفسه في قاربه يجذف باتجاه الجانب الشرقي حيث تنهض أكواخ الفقراء. طفحت في أعماقه دهشة كفقاعات مليئة بالهواء سرعان ما تنفجر وتتبدد.. سمع نفسه يقول:
ـ بغداد، يا مدينةً عجيبة.. كيف أمكنكِ أن تحتضني كل هذا الترف والبذخ إلى جانب البؤس ؟!
كيف لدِجلتك أن تبقى هادئة وهي تمرّ بالقصور مقابل الأكواخ ؟! بغداد أنت حكاية عجيبة! الويل لك يا بغداد!!
فجأة ظهر في قلب الظلمة قارب مليء بوجوه قاسية.. رجال يحملون الرماح. بدا أحدهم بطوله الفارع ووجهه القاسي وشواربه المفتولة كائناً مخيفاً كالذي يتحدّث عنه تجّار البحار..
قفز بعض الرجال إلى قاربه.. واستسلم الفتى.. عرف أن هؤلاء من حرس القصر.. وأنّه قد ارتكب جرماً بالاقتراب من قصر ( الخلد ).
وصل القاربان الى مرفأ صغيراً عند جسر الرُّصافة. نزل الرجال.. ونزل الفتى. اتّجهوا إلى باب الطاق.. وعبروا الخندق.. واجتازوا المَسناة.. فاستقبلهم حرس الطاقات في باب البصرة. وفي ضوء الشماعل تأمّل الفتى رجال الشرطة..
أدرك أنهم سوف يذهبون به إلى سجن ( المِطْبَق )، فشعر بدوار يعصف برأسه المُثقَل بالهموم.
2- العَودة إلى المدينة
قصر الذهب تضيء أروقتَه القناديل.. انتصف الليل وخفّت حركة الحرّاس وخَبَت بعضُ المشاعل.. أوَت جواري القصر إلى مخادعهنّ الوثيرة. ( الخليفة ) يتقلب فوق سريره بين الوسائد.. تفوح من فمه رائحة الخمر.. من يراه في تلك اللحظات يحسبه نشواناً في خيالات الأحلام.. يقظته حلم لذيذ، ونومه أطياف ملوّنة.
ولكن ما بال وجهه يبدو كدراً.. حاجباه ينعقدان.. ولونه مخطوف، ما تزال الكوابيس تطارده ؟! وفي كل مرّة كان يرى خزائن والده في القَبو ملأى بالجماجم.. جماجم أبناء العمومة. فجأة انتفض النائم مذعوراً.. استوى على فراشه وجبينُه يتصبب عرقاً.
تلفّت حوالَيه قبل أن يتأكد من أنّه زعيم البلاد وخليفة العباد.. الذي تُجبى إليه الأموال من المشارق والمغارب..
كانت حسناء الروم تغطّ في نوم عميق.. غادرَ ( الخليفة ) فراشه..
وقف ( الخليفة ) في شرفة القصر يحدّق في الظلام.. وراح يردد بصوت شجيّ:
ـ ( فهَل عسَيتُم إن تَولَّيتُم أن تُفسدوا في الأرضِ وتُقطِّعوا أرحامَكم... ).
كان ( الربيع ين يونس )(5) ( وزير الخليفة ) غارقاً في الملاءات في تلك الليلة عندما هب على دويّ طرقات غليظة.. أدرك أنّهم رُسل ( الخليفة ). ارتدى ثيابه على عجل، وانطلق مع الحرّاس إلى قصر ( الذهب ).
ألفى الخليفة يذرع البهو، ويردد بصوت جميل آية من كتاب الله، هتف ( الخليفة ).
ـ علَيَّ بموسى بن جعفر..
لم يكن هناك مجال للتأخير، فالأوامر واضحة وقويّة. انطلق الوزير يحفّه حرّاس غلاظ إلى سكّة المطبق. هناك وإلى يمين الطريق المؤدية إلى بوابة البصرة يقع السجن الرهيب.. زنازين صغيرة في أعماق الأرض تشبه القبور، حَفَرها ( المنصور ) لكل من يعارض ( سلطان الله في الأرض )(6)! لكل من يعارض ( الخليفة )!
لم تُفلح المشاعل في تبديد الظلمات المتراكمة في ( المطبق )، وبدا الهواء المرطوب داخل السجن خانقاً...
اتّجه الوزير بخطىً واسعة إلى زنزانة يعرفها تماماً.. هنا ينزل الرجل المَدنيّ موسى بن جعفر...
كان الرجل المدنيّ ما يزال ساجداً كثوبٍ مطروح.. وقف الوزير مشدوهاً.. ومرّت لحظات صمت رهيب... فهذا الرجل الحجازيّ لا يعبأ بمَن حوله وبما حوله.. لم يسمعه أحدٌ يتضجّر من ظُلمة السجن.. من الزنازين الخانقة.. من القيود القاسية.
همس الوزير باحترام جمّ:
ـ يا أبا الحسن!
رفع الرجل الذي أطلّ على الأربعين رأسَه، تألقت عيناه تحت وهج المشاعل.. وبدا وجهه الأسمر مضيئاً بنور شفّاف..
العينان تُخفيان حزناً عميقاً... والشفتان تكمن وراءهما ابتسامة ملائكية.. والأنف الأشمّ يعكس كبرياء الإنسان الذي لا يسجد لغير الله..
شعر الوزير برهبة تستوعب وجوده.. وتساءل في نفسه عن سرّ هذا الرجل الغريب!
نهض أبو الحسن.. ابتسم الوزير وهو يزفّ له بشرى الحرّية:
ـ لقد استدعاني الخليفة وسمعتُه يقرأ آيةً من كتاب الله..
الوجه الأسمر يطفح بالطمأنينة.. تنعكس فوق ملامحه عوالم السلام..
فكّ الحارس قيداً يربط قدم السجين بصخرة قاسية..
في بوابة المطبق الصخرية.. رأى الفتى رجلاً يطلّ على الأربعين، وجهه الأسمر يطفح طمأنينة.. وجسمه النحيف يشبه نخلة مَيساء..
فاحت رائحة طيّبة.. لكأنّ الربيع قد حلّ في ( المطبق ) يمنح المقهورين الأمل.
توقّف الرجل المدني وقد مرّ بالفتى.. تأمل في وجهه قليلاً وهمس:
ـ زكاة السلطان الإحسان إلى الإخوان.
غادر الرجل المدني ( المطبق )، لاحت له السماء وقد تناثرت آلاف النجوم كلالئ منثورة فوق عباءة كُحْليّةِ اللون.
تمتم الرجل المدني وهو يتطلع إلى السماء المرصّعة بالنجوم.
ـ يا مَن لا يعتدي على أهل مملكتِه!
رجف قلب الوزير، تذكّر دسائسه للإطاحة بالوزير السابق ( يعقوب بن داود )(7)، ها هو الآن في ظلمات المطبق سيبقى فيها حتّى ينتقل إلى ظلمات القبر.
* * *
نهض ( الخليفة ) احتفاءً بالرجل المدني.. عانقه وقبّله وأخذ بعَضُده ليجلسه إلى جانبه..
مرّت لحظات صمت قطعها ( الخليفة ) قائلاً:
ـ يا أبا الحسن.. رأيتُ جدَّك أمير المؤمنين عليّاً.. كان حزيناً، قال لي: يا محمد! (فهَل عسَيتُم إن تولّيتُم إنْ تُفسِدوا في الأرضِ وتُقطِّعُوا أرحامَكم)..
ـ وها أنا أريد أن أصل رحمي.. أريد أن أردّك إلى أهلك.. ولكني أخشاك يا موسى.. أخشى أن تخرج علَيّ أو على أحد من ولدي!
أجاب الرجل المدني:
ـ واللهِ ما فعلتُ ذلك، ولا هو من شأني.
أجاب ( الخليفة ) وقد خامره شعور بالارتياح:
ـ صدقت.
والتفت إلى وزيره وقال:
ـ يا ربيع، أعطِه ثلاثة آلاف دينار، وردّه إلى أهله.
انتهى اللقاء.. ونهض الرجل المدني يودّع القصر والسجن، ويودّع بغداد..
في قلبه شوق للقاء الأحبّة.. هناك في مدينة جدّه أولاد وبنات ينتظرون.. يترقّبون عودة أبيهم...
كانت النجوم تشتدّ سطوعاً في الهزيع الأخير من الليل، لم تَغفُ بغداد بعد.. فبعض الكُوى والنوافذ ما تزال تتدفق نوراً.. وتتناهى لمن يمرّ على بعض بيوتها أصوات موسيقى وغناء..
كان الربيع يدرك تقلّبات ( الخليفة ).. يعرف نزواته ويسبر مدى حقده على أبناء عليّ.. لهذا هيأ لوازم السفر للرجل المدني الذي غادر أسوار بغداد في طريق العودة إلى أرض الوطن..
إنّ من يريد العودة إلى المدينة عليه أن يطوي المسافات ويجتاز محطّات عديدة.. عليه أن يتجه أولاً إلى الفرات قريباً من قرى ( نينوى ) ثم يعبر النهر متّجهاً إلى ( العُذَيب ) ومنها إلى القادسية ثمّ إلى ( الرُّهَيمية ) ومنها إلى ( البيضة ) ومنها إلى عيون (شُراف) وإلى ( بطن العَقَبة ) فإلى ( زُبالة ). وفي زُبالة كان رجل من أهلها ينتظر.. يترقب يوماً يعود فيه الغريب إلى أهله..
منذ الصباح و ( أبو خالد ) يترقّب المسافرين القادمين. لقد انصرمت الشهور والأيّام وما يزال أبو خالد يترقب يوماً يعود فيه ( أبو الحسن ).
الشمس تسافر في بحر السماء.. وما يزال طريق القوافل مقفراً.. لا ناقة ولا جمل..
أبو خالد ما يزال يترقب.. ينتظر.. الشمس تجنح نحو الغروب تبهت أشعتها.. وأصعب شيء أن ينتظر المرء، لَكأنّ الزمن يتوقف.. فتصبح الساعة عاماً واللحظات شهوراً.
أصبح فؤاده خالياً.. بدأت الوساوس تطفو في قلبه كشياطين أيقظها الظلام.. وتساءل في نفسه: أيعود حقاً ؟! الشمس على وشك أن تغيب ولا شيء في الأفق..
غاصت الشمس في الأُفق لم يبق منها سوى ثلمة ضئيلة.. اهتزّ إيمانه كشُجيرة تحرّكها ريحٌ باردة.. فجأة ظهرت في الأفق نقطة.. وشيئاً فشيئاً كانت تكبر وتكبر.. قفز قلبه.. استيقظ في قلبه فرح طفولي، لعلّ في القادمين موسى.. أجل إنه موسى.. يتقدم ( القطار ) يمتطي حيواناً ينحطّ عن خُيَلاء الخيل ويرتفع عن ذلة الحمير..
قال ابن النبيّ صلّى الله عليه وآله وهو يحاور رجلاً اهتزَّ إيمانه قبل الغروب:
ـ لا تشكّنّ.. وَدّ الشيطانُ أنّك شككت.
تمتم أبو خالد.
ـ الحمد لله الذي خلّصك منهم..
همس ابن النبيّ صلّى الله عليه وآله وهو ينظر إلى الأفق البعيد.. إلى الجهة التي تهب منها ريح الشمال:
ـ إنّ لي عودة لا أتخلّص منها.
وأمضى العائد إلى ربوع وطنه ليلته قبل أن يستأنف رحلته إلى المدينة التي أضاءت الدنيا.
3- بشائر في آفاق خانقة
مثلما تدلهمّ السُّحب في السماء، اكفهرّت الأجواء في المدينة المضيئة.. وبدا مسجد النبيّ كوكباً تحاصرة آلاف الغيوم.. رجال الشرطة يجوبون الأزقة، وهمسات عن موت ( الخليفة ) في بغداد في ظروف غامضة.. وها هو ابنه يتربّع على دَست الحكم فترتجف المدن. والذين يعرفون بواطن الأمور ربّما دُهشوا لمرأى ( الخليفة الجديد )، ما أكثر شَبهَه بيزيد.. طيشه، غلظته قسوته خروجه على التقاليد والأديان والأخلاق.. وأعجب شيء فيه أنّه يحمل اسم ( موسى ) وهو في جوهره فرعون، وأنّه يُلقَّب بـ (الهادي)(8) وهو نقيض لذلك.
بدت الأجواء خانقة.. وأصعب شيء أن يعيش الإنسان مقهوراً.. فالحياة تكمن في الحرّية.. وعندما يشعر المرء أنّه فقد حرّيته تصبح حياته عبءً ثقيلاً.. إنه مستعد لأن يفقد رأسه من أجل نسمة حرّة تُنعش قلبه..
ليس هناك ما هو أفظع من قهر الأحرار، فقلوبهم التي تنبض بسلام، أو تتدفق رحمة.. تصبح في لحظةِ إذلالٍ براكينَ وشواظَّ من نار ونحاس..
وما الثورات التي تندلع كحرائق مجنونة إلاّ غضب مقدس يختار فيه الأحرار الفناءَ من أجل الكرامة..
أطلّ ( الهادي ) بوجهه القاسي.. بطيشه بحقده بكلّ عنجهيّته، فكشّرت شرطته في المدن الخائفة عن أنياب، أين منها أنياب الذئاب!
اتّبع ( العُمريُّ )(9) وقد اصبح الحاكم بأمره في ( المدينة ) سياسةَ الإذلال لأبناء عليّ عليه السّلام..
بدأت النار تستعر تحت الرماد.. القلوب الحُرّة تكتوي بالآلام.. تتّقد وقد أزفت لحظة الانفجار..
مثلما تتحشّد الغيوم في السماء.. مثلما يصبح الفضاء مشحوناً بالبرق والرعود.. كانت نُذُر الثورة تتجمع.. والتاريخ يشير إلى بقعة بين مكّة والمدينة.. هناك سيحطّم الإنسان نفسه من أجل كرامته.. سيمزّق جسده من أجل أن تبقى روحه بيضاء.. سيقدّم الإنسان جزءه المادّي من أجل أن يبقى إنساناً.. الله وحده يراقب الأعماق.. وحده يدرك ماذا يدور في رأس ( الحسين )(10) الجديد وهو يتجه إلى قصر الحاكم..
حشود العلويين تتجه إلى ميعادها اليومي أمام ( الأمير ) حاكم المدينة..
ها هو يتصفّح عشرات الوجوه.. عشرات الأسماء الحَسَن.. يحيى.. الحسين.. إدريس.. و.. و.. يُريهم أنه هو الحاكم.. بيده الأمر وبيده النهي وهو على كلّ شيء قدير!
صرخ ( الحائك ) في يوم الجمعة، والشمسُ في كبِد السماء:
ـ اين الحَسَن ؟
والتفت إلى الحسين ويحيى باستعلاء:
ـ لَتأتيانّي به أو لأحبسنّكما.. لقد تغيّب عن العرض ثلاثة أيّام.
قال يحيى:
ـ لقد ألهَبتْه سياطُكم.. وطوافكم به المدينة.. واتّهامكم له بشرب الخمر.
قال الحائك:
ـ إن هذا يُغضب الأمير!
ابتسم يحيى(11) ساخراً، وانفجر ( الأمير ) يهدد ويتوعد:
ـ لَسوف أُحرق بيوتكم.. وأُهرق الدماء.. إذا لم يأت الحسن..
لم يعد هناك من طريق آخر.. وعندما يُخيَّر الحرّ أيَّ الطريقين يسلك: طريق الحياة الذليلة أم طريق الفناء، لن يتردد في الاختيار.. سوف يختار ( كربلاء ). وهكذا دوّت لحظة الانفجار.. لقد اختار الحسين طريق الثورة.. ها هو يصغي إلى صهيلٍ قادم من بعيد.. الحسين يمنح ابن اخيه اسمه وقلبه وجواده.. يمنحه سيفاً.. والقدر يمنح الثائر الجديد بقعة في الصحراء بين مكّة والمدينة..
شبّت نار الثورة في منتصف الليل.. تألقت المدينة المضيئة.. محمّد صلّى الله عليه وآله يمنح أسباطه خيلاً وبيارق.. وأمانيَّ خضراء. فرّ الوالي.. عادت شرطته فئراناً مذعورة تبحث عن جحور آمنة.
هبّ الوالي مذعوراً.. أيقظه الأذان.. كلمات بثّت في قلبه الذعر. كلمات تنساب كلحن يدور في الفضاء في غبش الفجر:
ـ حيَّ على خيرِ العمل..
لقد مر أكثر من قرن على اندثارها.. وها هي تعود تبشّر بفجر جديد. واستيقظ أهل المدينة على دويّ الكلمات الثائرة.. لقد نهض الحسين.. تحطّمت قضبان السجون.. وتنفّس المقهورون في ذلك اليوم الربيعي نسماتِ الحرّية..
كلمات الحسين تدوّي في جنبات المسجد النبوّي:
ـ أُبايعكم على كتاب الله..
وسُنّة نبيه..
وعلى أن يطاع الله..
وأدعوكم إلى الرضا من آل محمد.. وعلى أن نعمل فيكم بكتاب الله والعدل..
الكلمات تطوف منازل المدينة كفَراشات تبشّر بالربيع..
الحسين ومعه عُدّة أهل بدر في طريقه إلى مكّة وقد أطلّ موسم الحج الأكبر..
قافلة الحسين تطوي الصحراء وتهوي في بطون الأودية.. لم يبق بينها وبين مكّة سوى ستة أميال.. أرهَفَت النُّوق إلى أصواتٍ قادمة من بعيد.. سنابك خيل مجنونة تدكّ الأرض..
بدت السماء في ظلمة الوادي مرصعة بآلاف النجوم.. أحدقت الجيوش بالقافلة.. آلاف الذئاب فوق ذرى التلال تريد الانقضاض على الفجر الوليد..
تساءل ( العباسي ):
ـ هل لهذا الوادي اسم ؟
ـ نعم اسمه فَخّ(13).
ردّد القائل ( العباسي ) بشيء من الدهشة:
ـ فَخّ ؟!
ـ أجل.. فَخّ..
هيمن صمت مدهش على الوادي تخلّله رُغاء نُوق أضناها السفر في الصحارى.
كذئاب مجنونة كانت الجيوش تنتظر مولد الفجر لتنهشه.. النجوم تشتد سطوعاً.. وقد أطلّت لحظة الفَلَق.. انبثق عمود الفجر كشلال من نور فضيّ.. فاندلعت آلاف السيوف كأفاعٍ منتفخة بالسم..
اليوم هو يوم التروية.. الحسين يقاتل.. يدفع غائلة العدوان، وأمواج الذئاب تتجه إلى عمق الوادي حيث حطّت القافلة رحلها.. في بقعة بكى فيها آخر الأنبياء..
لم يكن أمام الحسين سوى طريقين: الموت، أو الذل. ولم يتردد في الاختيار..
لم تكن الشمس لتشرق حتّى كانت أرض الوادي تهتزّ لهول معركة رهيبة.
ها هو الحسين يقاتل ليقول: من الممكن تحطيم المؤمن ولكن من المستحيل هزيمته..
أشرقت الشمس حمراء كعين تنتحب، وإذا الأرض مضمّخة بالدماء.
عشرات السيوف المغروسة في التراب، آلاف السهام المحطمة.. وعشرات الشهداء.. وعشرات الذئاب تعوي.. تحتفل بنصر ( الخليفة )..
عشرات الرؤوس ترتفع فوق ذرى الرماح.. وعشرات الرؤوس تلتف حول رقابها حبال قاسية كأفاعٍ خرافية، ورأس الحسين فوق رمح طويل يتقدّم القافلة.. كربلاء تتألق من جديد.
والوادي يضجّ بصوت رهيب.. عشرات الأجساد المضمخة بالدماء بلا رؤوس.. ما خلا ريحاً خفيفة تدور في جنبات الوادي.. تُوَلْول كأمرأة ثكلى.
وهناك في ذرى التلال وقف يحيى وإدريس وراشد يتطلعون إلى ساحة المعركة.. غضب يتفجر في القلوب.. وعيون تتطلّع نحو الأفق البعيد..
يمّم إدريس وراشد وجههما شطر المغرب.. ومضى يحيى إلى الأرض التي تشرق منها الشمس.. وشيئاً فشيئاً غابا في الآفاق.. حيث تُلامس زُرقةُ السماء سُمرَة الصحراء.. فيما ظلّت الريح تولول وحدها في الوادي المخضب بالدماء.. دماء الأبرياء..
عيون المدينة تترقب قافلة عجيبة.. رؤوس على ذرى الرماح.. يتقدمها رأس الحسين بن علي.. لكأن التاريخ يعيد نفسه من جديد. تساءل رجل من بغداد:
ـ رأس من هذا ؟
ـ رأس الحسين.
ـ الحسين ؟! ابن من ؟!
ـ إبن عليّ.
ـ إبن عليّ ؟!
قال الذي عنده علم الكتاب:
ـ أجل.. إنّا لله وإنا إليه راجعون.. مضى واللهِ مسلماً صالحاً صوّاماً.. آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر.. ما كان في أهل بيته مثله.
نهض الرجل الأسمر وعيناه تفيضان من الدمع حزناً.
وفي تلك الليلة شَبّت الحرائق في منازل الثائرين.. ألسنة الحرائق المجنونة تلتهم البيوت.. المصاحف، والنخيل.. وغفت المدينة ودخان الحرائق يدور في الأزقة.. فتدمع العيون.. لم يعد هناك كرامة للإنسان..
غادرت القافلة مدينة الرسول في طريقها إلى بغداد.. عشرات الأسرى.. وعشرات الرؤوس تقطع الفيافي إلى بغداد..
( تمّوز ) يُلهب الصحراء.. يُحيلها إلى جمر متوقد.. الظمأ والحبال والسلاسل.. والصحراء تجعل من رحلة الأسرى إلى بغداد.. عذابات وآلاماً. أليس هناك في أعماق الكائن البشري بقايا للإنسان ؟! كيف استحال ( العباسي ) إلى وحش كاسر لا يرى شيئاً غير نفسه ؟!
5- ليلة حمراء
بغداد لاهية.. في سكرة.. غافلة عما يجري.. في منتصف الليل ولجت قافلة الأسرى.. تَقدمها عشرات الرؤوس فوق ذرى الرماح..
دخلت القافلة بغداد من باب الكوفة.. اجتازت ( الطاقات ) وقد اصطفّ عشرات الحراس وتوهجت عشرات المشاعل. ساقَ جنودٌ غلاظ الأسرى باتجاه اليمين تحت ضوء قمر شاحب.. بدت السكك المؤدّية إلى الدواوين والقصور كدهاليز مظلمة.. اجتاز الجنود سكّة النساء، وتوقفوا أمام جدار صخري قاس.. انفتحت بوابة حديدية كبيرة وظهر حرّاس غلاظ يحملون المشاعل.. أدرك الأسرى أنّهم قد وصلوا ( المِطْبَق ) ذلك السجن الرهيب الذي طالما سمعوا عنه الحكايات الرهيبة..
اقتِيد الأسرى إلى زاوية في باحة السجن.. تناهت إلى أسماعهم كلمات مقتضبة غير مفهومة، ومنّى بعضهم نفسه بالحرّية.. ونظر بعضهم إلى السماء المرصعة بالنجوم.. وتعالت همسات تضرّع وتمتمات مبهمة لا يُسمع منها سوى: الله.. يا ألله..
وشيئاً فشيئاً هيمن صمت ثقيل.. ملأ باحة ( المطبق ) حيث تتوهج المشاعل بالكآبة والحزن. ورغم حرارة الصيف فقد كانت تهب من ناحية دجلة نسائم طيبة تبعث في الروح قدراً من الأمل بغدٍ أفضل..
النجوم تشتد سطوعاً في السماء، وبدا القمر أكثر شحوباً.. لم تبق سوى سويعات ويطلع الفجر..
نام بعض الأسرى خاصة الشيوخ منهم، وظلّ بعض الشبّان يحدّثون في صفحة السماء.. وربّما تهامس بعضهم في شأن ما.. فيما فضّل آخرون الصمت، تطوف في رؤوسهم صور الأحبّة والديار وتشتعل في أذهانهم ذكريات قديمة.. وبين الفَينة والأخرى يأتي صوت لنباح كلاب بعيدة..
الليل في قصر ( الذهب ) أضواء حمراء.. وقناديل.. وشُرُف مفتوحة تلعب بستائرها نسائم ( دجلة )..
الليل في أروقة القصر المنيف.. فتياتٌ حِسان يرفلنَ بحُلل الحرير.. تتألق فيها اللآلئ ويبرق فيها الذهب..
الليل في البلاط ( خليفة ) في عنفوان الشباب.. تبرق عيناه بحمّى الشهوات..
الليل لحظات سُكْر وغناء.. وآنية ملأى بالخمر المعتّقة.. جاءت ( غادر )(14) بقدّها الممشوق.. بوجهها الذي يطفح سحراً وجمالاً.. لم يملك ( الخليفة ) الشاب إلاّ أن يهبّ مفتوناً.. وهبّ الندماء.. إجلالاً لموكب السحر والجمال.. اتّخذت ( غادر ) مجلسها قريباً من ( الخليفة ) المفتون.. وحولها وصائفها، استخرجت عوداً من خشب الأبنوس من بين طيات الحرير، وبرفق وضعته في حِجرها وانحنت عليه.. وانساب الصوت الإنساني الناعم مع أنغام العود ليطوّح بعقل ( الخليفة ) بعيداً.. وليقضي على ما استبقته الخمرة من قدر ضئيل من الإدراك..
( الخليفة ) الشاب يحلّق بعيداً في عوالم زاخرة باللذائذ..
لم يملك نفسه.. لم يستطع التحمّل أكثر من هذا. ( غادر ) تطوّح به بعيداً في وادٍ غارق باللذة.. فجأة برقت عيناه المنطفئتان بسبب السكر.. شق حلّته.. كفّت ( غادر ) عن الغناء.. توقّف العود عن بث الأنغام الساحرة.. اشتعلت في رأس الأفعى آلاف الأفكار.. تصوّر نفسه ميتاً.. وهارون يستولي على كل شيء.. حتّى محظيّته (غادر).. هارون يعبّ أقداح اللذة. أما هو فيتشرب الموت والفَناء، صرخ بقسوة:
ـ كلاّ!
ارتجف القصر.. وظهر رجال غلاظ..
صاح ( الخليفة ) من وراء الستائر:
ـ علَيّ به.. علَيّ بهارون.
أسرع الرجال الغلاظ إلى سجن خاص.. حيث يقضي هارون لياليه في ظلال قاتمة من خلافة أخيه..
جاء هارون وقد ذهبت به الظنون.. حياته ومصيره في كفّ عفريت من الإنس..
وقف هارون يتحاشى نظرات أخيه.. ويتلقّى كلماته الجارحة..
ووقف القاضي يسطّر عباراتِ أغرب عهد في التاريخ.. من أجل أن لا يحظى هارون بمَحظيّة أخيه..
أُعيد هارون إلى سجنه واستأنف ( الخليفة ) ليلته الحالمة المترعة باللذّة وقد شعر بأنه قد أزاح عبئاً ثقيلاً عن كاهله.. دجلة ما يزال يجري في الظلام، تتدافع مياهه المتألقة تحت ضوء القمر..
و ( الخليفة ) ما يزال سادراً في غيّه.. وشيئاً فشيئاً تبرق عيناه.. تضّج فيهما شهوات آثمة.
6- احتفال دمويّ
تنفّسَ الصبح.. وسيقَ الذين أُسروا زُمَراً، وشاهد بعضهم بغداد لأول مرّة وآخر مرّة.
سار موكب الأسرى يحفّه حرّاس غلاظ.. اجتازوا باتجاه اليسار السكك التي مرّوا بها ليلة أمس.. سكة ( النساء ) وسكة ( سرجيس ) وسكة ( عطية ).. سكة (غَزوان).. حتّى إذا وصل الموكب طاقات ( باب الكوفة ) انحرف باتجاه اليمين في طريق مرصوفة بالحجارة تؤدي إلى القبة الخضراء..
من بعيد لاح تمثال الفارس فوق القبّة، ما يزال يحمل رمحه الطويل فيشير هذه المرّة صوب ( مدينة الرسول ).. الرمح العباسي يحدد جهة الخطر!
موكب الأسرى يقترب من القصر وعلى بعد عشرات الخطى توقّف ريثما يحصل على الإذن.. أدرك بعضهم من خلال حركة الحرّاس أن ( الخليفة ) غير موجود..
مرّت ساعة حسبها الأسرى عاماً.. فجأة ظهر العشرات من رجال الشرطة من طريق جانبية بدوا مثل زوبعة سوداء، بعضهم يشهرون السيوف، وآخرون بأيديهم أقواس موتورة.. وبدا ( الخليفة ) الشاب بشفته المشقوقة مُصعِّراً خدّه للسماء يكاد ينفجر غروراً.. يحسب أنّه سوف يخرق الأرض وأنّه يبلغ الجبال طولا..
توقف ( الخليفة ) الذي لم يكمل السادسة والعشرين من عمره بعد.. ألقى نظرة حارقة أودَعَها كلَّ عُقده النفسية الدنيئة، بَدَت عيناه جمرتين تتوقدان حقداً..
راح يتصفح وجوه الأسرى.. ويمسح بسكين في يده على أنوفهم! وغاظه أنّه لا يجد في عيونهم ذلة الانكسار.. الأُنوف ترتفع إباءً والجباه تتألق ثورة.. لم يكن هناك سوى شحوب السهر وعذابات الطريق..
استدار كزوبعة مجنونة واتجه صوب بوابة القصر.. تحرك موكب الأسرى بصمت إلى داخل القصر.. هيمن سكوت موحش وانبعثت من مكان ما رائحة دم.. كل شيء كان يوحي بوقوع مذبحة وشيكة..
تقدّم بعض الحرّاس وحلّوا عن الأسرى قيودهم والحبال.. ( الخليفة ) ما يزال يلهب أسراه بنظرات حاقدة.. وفي يده سكين تبعث بريقاً مخيفاً..
وقف جلاّد فارع الطول على مقربة من ( الخليفة ). بدا بحلّته السوداء شبحاً رهيباً.. بيده سيف برّاق.. وقف كتمثال. لا يَطرف له جفن.. كان ينظر إلى ( الخليفة ) وينتظر.. ينتظر لحظة الانقضاض.
دخل طابور يحمل رؤوس الشهداء على ذرى الرماح، وكان رأس الحسين فوق رمح طويل..
مرّت لحظات صمت رهيب.. لوّح ( الخليفة ) المفتون بالسكّين إيذاناً ببدء المذبحة.. تحرّك التمثال الرهيب.. برق سيفه القاسي.. تقدم اثنان من الشرطة ليقودا أوّلَ أسير إلى نهايته الدامية.. مدّ الأسير رقبته.. كان يتمتم بصوت خافت وقد علت وجهَه صفرة الموت..
مرّ الزمن كئيباً.. وسيف الجلاّد يرتفع ويهوي.. وتتساقط رؤوس الثوّار.. وفي كل مرّة ينبعث صوت مخيف.. صوت ارتطام السيف بالعنق صوت مخنوق.. يتألف من حرفين كأنه يحكي تمزّق اللحم وتهشم العظام الآدمية، وفي كل مرّة ينبعث ذات الصوت المخنوق قائلاً: رض...
تساقطت عشرات الرؤوس.. وكان بين الأسرى شيخ طاعن في السن انهكته الأيّام وعصفت به السنون.. كان يتحاشى الشرطة، وفي كلّ مرّة كان يتأخر.. وكان بعض الشبّان يساعدونه لعلّ ذاك القلب القاسي يكف عن مسلسل القتل.. لعلّ الإنسان يستيقظ في أعماقه المظلمة!!
خيّم سكون مدهش.. لم يبقَ سوى الشيخ.. لعلّه كان يتمنى أن يموت بين أحبّته.. في مرابع صباه.. لعلّه كان يحلم بلقاء الأحباب.. لعلّه يريد أن يوصي أبناءه.. لهذا هتف (بالخليفة) المفتون:
ـ لا تقتلني يا أمير المؤمنين! لا تقتلني أنا مولاك!
صرخ ( الخليفة ) المفتون:
ـ مولايَ يخرج علَيّ ؟!
هبّ من مكانه وراح يسدّد طعناته بقسوة.. كانت السكين تغوص في جسد الشيخ، مزّقت صدره.. غاصت في قلبه.. هوى الشيخ عند قدمَي ( الخليفة ).. تكوّم فوق أرضية البلاط.. وشيئاً فشيئاً خمدت الروح وانطفأت العينان.. وجثم حزن ثقيل فوق المكان كغراب في مساء خريفي..
انتهت الحفلة.. جاء رجال غلاظ يحملون الأجساد وآخرون يحملون الرؤوس.. وآخرون يغسلون أرضية البلاط المرصوفة بالصخور القاسية.. وهكذا عاد البلاط أنيقاً كما كان.. فيما ظلّت رائحة الدم تدور في أروقة القصر المنيف..
7- مناجاة موسويّة
المدينة خائفة تترقب، لقد هوى الفارس شهيداً في ( فخ ) وقد أسفر ( الخليفة ) عن وجهه.. كشّر عن أنيابه يريد أن ينقضّ دون رحمة، لم يعد هناك حياء.. فالعالم مستباح أمام خيول الغازي.. ريح السَّموم تعصف بالمدينة تشوي الوجوه..
لم تهدأ الريح إلاّ في المساء.. نسائم قادمة من البحر تحاول أن تخفف من حرارة الجوّ الخانقة..
وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال:
ـ يا موسى، إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك، فاخرج إنّي لك من الناصحين..
أجاب الذي عنده علم الكتاب:
ـ إنّ معيَ ربّي سيهديني.
قال رجل خائف:
ـ غيّبْ وجهك يا ابن رسول الله مدّة... إن هذا الطاغية لن يتورع عن قتل الناس جميعاً بعد ما قُتل الحسين.
دمعت عينا ابن النبيّ صلّى الله عليه وآله وغمغم بحزن:
ـ كان واللهِ صوّاماً قوّاماً، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر.
ونظر إلى السماء المرصّعة بالنجوم من خلال كوّة في الجدار.. وراح يتأمل الأغوار السحيقة.. والتفت.. التفت إلى الخائفين وقد ارتسمت ابتسامة أمل على مُحيّاه وقال:
زعم الفرزدقُ أنْ سيقُتلُ مِربَعاْ
أبشِرْ بطولِ سلامةٍ يا مربعُ
نهض ابن النبيّ، شمّر عن ساعدَيه... وطوى الأردان عن مرفقيه، وانثالت المياه تغمر الوجه الأسمر واليدين.. ووقف الرجل الأسمر في المحراب.. كما وقف موسى بن عمران يتأمل البحر الهائج.. وقد بدت في الأفق البعيد مركبة فرعون وجنوده.
الدعاء معراج الإنسان المؤمن.. سلاح الأنبياء.. واحة وارفة الظلال في صحراء الحياة.. مركبة فضائية يبحر فيها المقهورون إلى عوالم زاخرة بالنور والطمأنينة والسلام..
وفي عالم مترع بالخوف.. وفي فضاء مخنوق برائحة الدم جلس وارث محمد يتمتم بكلمات تقطر حبّاً لخالق السماوات والأرضين.. وأصغى الخائفون إلى صوتٍ فيه بَحّةُ حزن.. صوت يشبه صوت انهمار المطر.
تجمعت في سماء الروح غيوم وغيوم.. إدلَهَمّ الفضاء.. ودفء الكلمات يجعل الجوّ مشحوناً.. مخزوناً بالبرق وبالرعود.. الكلمات الدافئة المترعة بحزن سماوي تسافر في الفضاء.. تخترق جدران الزمن:
كم من عدوّ انتضى علَيّ سيفَ عداوتِه... وداف لي قواتلَ سمومه.. وأضمر أن يسومَني المكروه..
فنظرتَ إلى ضعفي عن احتمال الفوادح.. وعجزي عن الانتصار.. فأيّدتني بقوّتك، وشددتَ أزري بنصرك... فلك الحمد يا ربّ.. مِن مقتدر لا يُغلَب..
صلِّ على محمّد وآل محمّد.. واجعلني لأنعُمِك من الشاكرين.. ولآلائك من الذاكرين ).
هناك في حفر الظلام أشباح تترصد.. تنصب الأفخاخ.. وتترصد الضحايا هناك عناكب تنسج بيوتاً واهنة وتنتظر.. وهناك ابتسامات، ولكنها في الحقيقة أنياب مكشِّرة تنزّ صديداً:
ـ ( الهي..
وكم من باغٍ بغاني بمكائده، ونصب لي أشراك مصائده...
أركستَه لأمّ رأسه، وأثنيت بنيانه من أساسه.. ورميته بحجره، وأرديته في حفرته..
فلك الحمد يا ربّ مِن مقتدر لا يُغلَب.. صلّ على محمّد وآل محمّد.. ).
والحسد تلك العقدة الدفينة والنار المجنونة التي قذفت بالإنسان من روابي الجنّة إلى كوكب الحوادث..
والحسد ذلك الوحش الكاسر الذي مزّق أواصر الإخاء البشري ليحيل قوافل بشرية إلى قطعان من الذئاب الشرسة تطارد إنسانية الكائن البشري فيفرّ إلى الله:
ـ ( الهي..
وكم من حاسد شَرقَ بحسده.. وشجا بغيظِه، وسَلَقني بحدّ لسانه، ووخزني بمُؤق عينه، وجعل عِرضي غرضاً لمراميه، وقلّدني خِلالاً لم تَزَل فيه.. فناديتُك يا ربّ مستجيراً بك، واثقاً بسرعة إجابتك، متوكّلاً على ما لم أزل أعرفه من حسن دفاعك..
عالماً أنه لم يُضطهد مَن أوى إلى ظل كَنَفك.
فلك الحمد يا رب.. ).
السجون تضجّ بالمقهورين.. لا يُسمع فيها سوى أنّات المعذَّبين، وصليل السلاسل والحديد.. وخطى السجّانين الثقيلة:
ـ ( إلهي وسيدي..
وكم مِن عبد أمسى وأصبح مغلولاً مكبَّلاً بالحديد بأيدي العداة لا يرحمونه، فقيداً من بلده وولْده وأهله، منقطعاً عن إخوانه، يتوقع كل ساعة بأية قتلة يُقتل..
وأنا في عافية من ذلك، فلك الحمد يا ربّ ).
وهناك في لجّة البحر.. عندما تثور الأمواج وتعصف الريح.. فتجري السفن في موج كالجبال.. هناك يتجلى الله بنوره.. عندما تتمزق الحجب في اللحظات التي يقف فيها المسافر على حافات الغرق والانزلاق في لُجّة المياه والقرار:
ـ ( إلهي..
وكم من عبد أمسى وأصبح في ظلمات البحر وعواصف الرياح والأهوال والأمواج، يتوقع الغرق والهلاك لا يقدر على حيلة..
وأنا في عافية من ذلك..
فلك الحمد ياربّ ).
وفي حنايا الصحراء.. وفي مَفاوز التلال، يعيش المشرّدون بعيداً عن الأهل والأحبّة والديار.. يواجهون رياح السموم وقسوة الصحراء والرمال:
ـ ( إلهي..
وكم من عبد أمسى شريداً.. طريداً.. متحيراً.. جائعاً.. خائفاً.. حاسراً في الصحاري والبراري، أحرقه الحرّ والبرد..
فلك الحمد يا رب..
وأسألك يا إلهي
باسمك الذي وضعتَه على السماء فاستقلّت..
وعلى الجبال فرست.
وعلى الأرض فاستقرت.
وعلى الليل فأظلم.
وعلى النهار فاستنار.. )(15).
ها هو موسى بن عمران يقف على حافات المياه يتأمل الامواج.. وقد تناهت إلى أذنيه سنابك خيل الفرعون ودويّ مركباته... وها هو يصغي إلى استغاثة قومه قائلين: أُوذينا من قبلِ أن تأتيَنا ومن بعدِ ما جئتَنا..
إنّا لمدرَكون..
قال لهم موسى: إنّ معي ربي سيهدين..
ورفع موسى عصاه عالياً في الهواء ثمّ أهوى بها فوق البحر.. فانشقّ وكان كلُّ فِرقٍ كالطود العظيم.. وأصبح البحر طريقاً للمقهورين والمعذبين.. ومقبرة لفرعون وجنوده.
لقد استجاب الله دعوة العبد الصالح موسى.. ها هو فرعون.. يغوص في لجّة القرار يشرب الماء المالح.. يغرق.. يختنق.. ويموت ليعود إلى شاطئ البحر جثة هامدة.. تسفي عليها الرياح.
وفي بغداد.. كانت ( الخيزران ) حانقة.. تبرق عيناها حقداً على ابنها المتفرعن يريد تحطيمها.. وقتل أخيه هارون..
في الليل حاكت الخيزران خيوط المؤامرة.. تبادلت النظرات مع آل برمك، وكلمات مقتضبة بالفارسية.
( الخليفة ) نائم يغط في سُكره.. وانسلّت الطبّاخة السوداء وحولها الجواري.. يمرقن في الظلام.. كأشباح تحمل أطباق الموت.. ( الخليفة المفتون ) نائم.. غارق في سكرته.. أطبقت أشباح الموت.. جثمت طباخة القصر بجثتها الهائلة فوق وجه الفرعون.. وأنشبت الجواري أظفارهنّ.. وتمّ كل شيء في غمرة الظلام. ( الخليفة ) يغرق.. يختنق.. ويموت.. وينتهي.
وجاءت ( الخيزران ) تتأمل جثة ( الفرعون ).. وانتزع ابن برمك خاتم الخلافة من يده.. ليبشّر به ( هارون ).
8- زفاف ( الخليفة ) السجين!
الظلام ما يزال يغمر بغداد.. القصر غارق في ظلمة مخيفة، وكانت هناك عيون تبرق في الظلام.. وأصوات تشبه فحيح الأفاعي.. في قلب الظلام انطلق ( ابن برمك ) و (ابن ذكوان) إلى السجن، فهناك رجل يُدعى هارون.. يترقّب أمرَين: إقصاءه عن ولاية العهد، أو القتل.. فقد سوّلت ( للخليفة ) نفسُه قتلَ أخيه..
دخل الرجلان السجن.. واتّجه ابن برمك إلى حجرة صغيرة، كان هارون يغطّ في النوم.. هزّ ابن برمك النائم ليزف له الحلم:
ـ قم يا أمير المؤمنين!
هبّ النائم مرعوباً.. قال بلهجة فيها خوف ورعب:
ـ كم تروّعني إعجاباً منك بخلافتي.. وأنت تعلم حالي عند هذا الرجل.
ابتسم ابن برمك ساخراً:
ـ لقد مات هذا الرجل.. انظر هذا خاتَمه.
وأردف وهو يشير إلى الباب:
ـ وبالباب وزيره.
ـ الحرّاني ؟!
ـ نعم.. لقد أحضرتُه إليك..
صفّق هارون وقفز من فراشه يكاد يطير.. نعم.. إن ما يراه حقيقة. إنه ليس في حلم.. بل أجمل من الحلم.. لقد انتهت أيّام القلق.. وولّت أيّام الرعب.. عانق هارون شيخ البرامكة..
نظر هارون إلى ابن برمك نظرات فيها تساؤل.. تُرى كيف مات ( الخليفة ) الشاب؟!
غمغم ابن برمك وهو يرمق هارون بنظرات غامضة:
ـ اخبرتْني أمّك الخيزران..
سكت هارون وقد ومضت في ذهنه ما حدث قبل أسابيع.. تذكّر لهجة أخيه الحانقة وهو يخاطب أمه: أما لكِ مغزل تشتغلين فيه ؟ لئن وقف ببابك أمير أو قائد لأضربنّ عنقه!
ومضت في ذاكرة هارون أشياء كثيرة..
تمتم ابن برمك:
ـ لقد كان مريضاً.
قال هارون بلهجة فيها استسلام:
ـ أجل.. كان مريضاً.
قال ابن برمك وهو يحاول أن يجسّ نبض ( الخليفة ) الشاب:
ـ وعندي خبر آخر سمعتُه وأنا في الطريق.
تطلّع هارون مستفهماً!
ـ سمعتُ أن ( مراجل ) قد أنجبت صبياً.
سكت هنيهة وأردف:
ـ إنها ليلة عجيبة! مات فيها خليفة، ونهض فيها خليفة.. ووُلد فيها خليفة!
غمرت فرحة عارمة وجه هارون.. لقد انفتحت أمامه الدنيا بكل عوالمها اللذيذة ومتعها..
هتف ابن برمك:
ـ بغداد تنتظر ( الخليفة )!
بدت بغداد في ذلك الصباح حسناء فارسية ترتدي أجمل زينتها في يوم النيروز..
أهالي بغداد يتطلعون إلى قدوم ( الخليفة هارون ).. الشاب الفارع الطول المشرق الوجه.. زوج زبيدة السيّدة العباسية الثرية..
انطلقت زغاريد النسوة من شرفات القصور، وعلت هتافات الرجال في الشوارع بحياة هارون..
وتألق قصر ( الخُلد ) برجال البلاد، وبدا ابن برمك رجلَ البلاط الأول.. ألبسه هارون خاتم الوزارة وخاطبه بودّ:
ـ يا أبتي!.. أنت أجلستني هذا المجلس ببركة رأيك وحسن تدبيرك، وقد قلّدتك أمر الرعية، وأخرجته من عنقي إليك، فاحكم بما ترى.
وأردف وهو يمنحه صلاحيات مطلقة:
ـ إستعملْ من شئت، واعزل من رأيت، فإني غير ناظر معك في شيء!
وأدرك الحاضرون أن ( الخليفة ) الفعلي سيكون يحيى.. يحيى البرمكي (16)..
وربتَ هارون على كتف الفضل بن يحيى أخيه في الرضاعة.. وابتسم لجعفر.. جعفر بن يحيى.. وابتسم الحظّ لأبناء برمك.. فهارون سيكون وسيلتهم إلى سلّم المجد..
الله وحده الذي يراقب الأعماق.. وحده الذي يعلم ما يدور في رأس ( الخليفة ) الجديد وهو يتجه إلى ( الجامع ) ليصلّي أول صلاته كخليفة.. تُرى ماذا سيفعل هارون مع الدين ؟ هل سيذهب إليه ويجثو عنده ؟ أم يحاول أن يجرّ الدين إليه بعدما دانت له الدنيا ؟!
مياه دجلة تتألق تحت ضوء البدر.. وقد بدا قصر الخلد في غمرة الظلام حسناء غانية..
هارون ( الملك الرشيد ) غارق في وسائده الحريرية.. يرفل بحلّة مزركشة.. تبرق في عينيه الشهوة، وقد برقت في ذهنه أطياف ( غادر ) تلك الحسناء التي تذوب رقّة وجمالاً، لَكَم تمنّاها من قبل! بصوتها الجميل وغنائها العذب..
إشتعل في ذهنه طيف لأخيه.. لاح وجهه القاسي بشفته المشقوقة.. طرد عن ذهنه الطيف كما يطرد ذبابة في الصيف.. وأضاء خيالَه طيفُ ( غادر ) بقِوامها الممشوق.. سوف تأتي..
ولاحت من بعيد.. ها هي قادمة تحفّها الجواري.. تنساب في مشيتها كغزال طروب.
انحنت الحسناء ( لخليفة العصر ).. جلست قربه في وداعة وخفضت عينيها تنتظر سبب إرساله وراءها في هذه الساعة من الليل.
راح هارون يتفرّسها بنظرات ملتهمة.. قال دون مقدّمة:
ـ لقد أرسلتُ وراءكِ.. من أجل أن تكوني لي!
رفعت الحسناء رأسها ونظرت إلى شباب هارون:
ـ ولكن..
ـ ولكن ماذا ؟
ـ والعهود التي أعطيتَ أخاك ؟
ـ أُكفّر عنها.
ـ والحجّ راجلاً ؟
ـ سأحجّ ماشياً هذا العام.. من أجلِكِ..
سكتت قليلاً وهمست بدلال:
ـ أتفعل ذلك من أجلي ؟!
قال هارون وقد أسكره الصوت الرخيم:
ـ أجل، من أجل ( غادر ).. تهون المصاعب.
ونظر إلى عينيها العسليّتَين:
ـ ما هو رأيك ؟
ـ...
هتف هارون وهو يكاد يطير نشواناً:
ـ أين القاضي ؟!
سرعان ما حضر ( فقيه الأرض ) و ( قاضي القضاة ).. من أجل أن يصنع لشهوة (الخليفة) ثوباً من الدِّين.. وتمّ كل شيء..
صفّق ( خليفة المسلمين ) وهو يرسل نظراته إلى أبي يوسف:
ـ أعطُوه مئة ألف درهم!
وكاد أن يسيل لعاب القاضي وهو يحمل صرار الفضة.. عَرَقَ الفقراء القادم من ربوع مصر وتخوم خراسان.
أُسدلت الستائر وقد سقطت التفاحة الشهية في قبضة هارون.
( غادر ) تضع رأسها في حجر هارون.. تغفو سكرى وهارون يتأمل نشواناً وجهها المشرق وشبابها، وقبل أن يشرق الصباح، سكتت شهرزاد عن الكلام المباح.
انسلّ هارون من بين الوسائد بعد أن أراح رأس محظيته فوق وسادة حريرية.. ارتدى حُلّة جديدة يغلب عليها السواد، واكتسى وجهه الثلجي قدراً من الصرامة والقسوة.. أصبح وجهه مخيفاً.. لو رأته ( زبيدة ) لأنكرته ولفرّت منه ( غادر ) و ( ماردة ) و ( هيلانة ) و ( خالصة ) ولأنكرته حتى أُمّه ( الخيزران ).
قطع هارون الرواق بخطىً واسعة، كان ( مسرور ) واقفاً في وسط البلاط كتمثال، بدا بطوله الفارع جنّياً خرج توّاً من البحر.. سيفه العريض العاري يشبه قدَراً صارماً
صفّق هارون بكفّيه.. انتبه المارد.. وانطلق إلى بوابة البلاط..
دخل ثلاثة رجال ملثّمون.. جمعهم المكان فقط، لا أحد يعرف الآخر، ولا يودّ أن يعرفه.. كانوا يرتدون أزياء مختلفة تماماً، كان الأول يرتدي ثياباً تشبه ثياب الملاّحين، والآخر يرتدي حلّة لا يرتديها سوى التجار، أما الثالث فقد بدا رجلاً حجازياً قادماً من مكة أو المدينة..
شيء واحد يجمعهم هو بريق العيون.. كانت عيونهم نفّاذة يموج فيها بريق زجاجي.. أشبه ما تكون بعيون رجال على وشك تنفيذ مؤامرة دنيئة..
اجتمع ( الخليفة ) مع الثلاثة على انفراد.. الصمت يهيمن فوق المكان.. ما خلا همسات تشبه فحيح الأفاعي.. مرّت ساعة قبل أن ينصرف الرجال الملثمون.. أخذوا معهم صراراً ملأى بمسكوكات فضيّة وذهبية.. وحفظوا عن ظهر قلب مهمّات غامضة.. وأسماءَ لها في قلب ( الخليفة ) هواجس.. إدريس.. يحيى.. موسى..
وقف هارون في شُرفة القصر ينظر من بعيد إلى دجلة وقد بدا في تلك الساعة المتأخرة من الليل ثعباناً ينساب بحذر بين أشجار النخيل.
وفي تلك الليلة انفتحت ثلاثة أبواب لبغداد: انفتحت بوابة خراسان، وبوابة الكوفة، وبوابة الشام..
10- كبائر.. في طريق الحجّ!
قليلون جداً الذين عرفوا لماذ حجّ ( الخليفة ) هارون هذا العام ماشياً(17).. بعضهم اعتقد أنّ التديّن تمكّن في صميم قلب هذا الشاب الهاشمي، وآخرون قالوا: إنها توبة إلى الله، وعفا الله عمّا سلف.
ولكن هناك مَن سبر غور هذا الحج إلى حدّ ما، خاصّة وصائف ( غادر ) اللائي استقبلن النبأ بشيء من الغبطة لسيدتهن الحسناء التي استحوذت على قلب ( خليفتَين )!
وفي كل الأحوال، فقد شاع الخبر في أنحاء بغداد، وخرج بعض الأهالي لتوديع ( الخليفة )، ووقفت النسوة في شرفات المنازل يترقّبن موكب ( الخليفة )..
ألقى هارون نظرة وداع على بغداد وقد فُصلت القافلة.. بدت العاصمة كلؤلوة خرجت توّاً من صَدَفتها الجميلة..
كانت عدّة خيول وبغال تحمل الأثقال ريثما تصل القافلة ( الكوفة )،
نسائم ربيعية تهبّ من ناحية الشمال، مضمخة بشذى الرياحين.. وقد بدت الكوفة في الأفق البعيد نقطة سوداء كانت تكبر شيئاً فشيئاً كلمّا تقدّم الركب.
كان هارون يجد نفسه مرتاحاً جداً مع جعفر الذي يصغره بعام واحد.. لعله كان يجد نفسه في مرآة ذلك الشاب الطَّموح الذي يُقبل على الحياة يقتطف ملذّاتها باستمتاع.. لهذا استصحبه..
كان جعفر هو الآخر يعرف كيف يستحوذ على هارون بأحاديثه البعيدة عن كل الرسميات..
هوت الشمس في المغيب وقد أطلّ الركب على الكوفة، فضُربت الخيام والسُّرادق.. وكانت خيمة هارون وجعفر على ربوة جميلة انتخبها جعفر.. وانطلق الخدم لتأثيثها وتوفير أسباب الراحة واللهو.. فيما انتشر الحرّاس هنا وهناك لاختيار أماكن الحراسة والخفارة.
هبط المساء، وسطعت النجوم في السماء.. وهبّت نسائم منعشة تبعث في النفس الحيوية والبهجة والإقبال على الحياة.
كان ( خليفة المسلمين ) يتوضأ بإبريق بلّوري مرصّع بالجواهر، وقد أشرق الهلال بلياليه الثلاث، بدا مبتسماً. تذكّر ( الخليفة ) ابتسامة جاريته الحسناء ( خالصة ) تلك الفاتنة التي لا تكف عن تسديد نظراتها الساحرة.
أنهى ( الخليفة ) صلاته، وكانت رائحة الشواء تملأ الفضاء.
كان ( جعفر ) يشرف بنفسه على إعداد المائدة.. إنه يعرف كيف يدخل إلى قلب ( الخليفة )!
هناك مسارب يعرفها جيداً.. أحدها البطن.. اصطفّت الأواني بأشكالها الجميلة.. وفاقت ألوان الطعام العشرين.. لحوم طيور من بلاد بعيدة.. وألسنة السمك.. وفواكه، وهناك في ركن المائدة صحون ( الفالوذج ).. وهلمّ جرّا..
وقع نظر هارون على صحون السمك فوجد لحومها قطعاً صغيرة، استدعى الطباخ وقال بلهجة يشوبها تذمّر:
ـ ألم أعهد إليك أن لا تكون قطع السمك صغيرة ؟!
أجاب الطبّاخ معتذراً:
ـ يا أمير المؤمنين.. هذه ألسنة السمك، وضعتُها لتكون زينة للمائدة!
علّق البرمكي:
ـ لقد كلفتْ وحدها أربعةَ آلاف درهم!
سكت ( الخليفة ) على مضض، وأدرك أن جعفراً يحاول أن يقول أن هذا إسراف لا طائل من ورائه..