إن الصلاة بين يدي الله -عز وجل- هي أكبر وأهم مشروع في الحياة البشرية.. لذا يجب على كل إنسان أن يسعى لتطوير صلاته، وإن كان يعتقد أنها متقنة، حيث أن هنالكَ مرحلة أرقى!.. هنالكَ قاعدة تقول: أن جسم الإنسان إذا حمل في يوم من الأيام مائة كيلو غرام، ثم أصابه ضعف ومرض، فإنه يعلم: أنه لو حسّن صحته، بإمكانه أن يقوم بهذا العمل.. وبالتالي، فمن خشع في صلاة واحدة، سواء عندَ الكعبة المشرفة، أو في الروضة النبوية الشريفة، أو في أي مشهد من مشاهد أئمة أهل البيت (عليهم السلام)؛ معنى ذلك أن لهُ القابلية.. وعليه، فإنه يجب أن يكرر هذهِ القابلية في فرصٍ أخرى.
النية:
إن النية هي أول ركن من أركان الصلاة.. فأركان الصلاة خمسة: النية، والتكبير، والقيام، والركوع، والسجود.. والركن هو ما تبطل الصلاة بتركه عمداً أو سهواً.. والنية هي عبارة عن حركة قلبية، نريد أن نتقرب بها إلى الله عزَ وجل.
لماذا يتقرب الإنسان إلى الله عز وجل؟..
أولاً: المصلحة.. هناك من يتقرب إلى الله -عز وجل- لأخذ المزايا، فلو أعطي هذهِ المزايا من دون رب العالمين، فلا شأنَ لهُ بالله عز وجل.. مثلا: البعض يكون في حال دعاء وبكاءٍ شديد، وتوسل لشفاء مريض، فبمجرد أن يعلم أن ذلك المريض قد شفي، وإذا بهذه الدموع تجف، والدعاء ينقطع.. وعليه، فإنه من الواضح أن علاقتنا بالله -عزَ وجل- علاقة تجارية: أي نريد أن نأخذ منه حتى دون أن نعطيه، كي يرجع لنا أضعافاً مضاعفة {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ}.. إن رب العالمين يغفر لنا هذهِ النوايا، ولكن لدى التحليل والدقة، نرى أن هذهِ النية ليست من العبودية في شيء.. فلو أنَ أحدنا زارَ والدتهُ في المستشفى، وبعدَ أن اطمأنَّ عليها، طلب منها مبلغا من المال.. فإذا كانت تعلم أن سبب مجيئه هو لأخذ المال، فإن هذا الولد يسقط من عينها؛ -ولو كانَ بحسب الظاهر جاء لعيادتها وقدم لها هدية- لأنه ليس ابناً باراً، وإنما أتى من أجل مصلحة.. نحنُ هكذا في تعاملنا مع رب العالمين، الذي هو غنيٌ عنا!.. ومع ذلك يومَ القيامة يدخلُ عباده الجنة، وأغلبهم من عشاق القصور والحور والغلمان المخلدين.. وهذا الكلام ينطبق أيضاً على أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، فهذهِ الكثرة في المشاهد المشرفة أمرٌ محمود، ولكن انظروا للمنطلقات: ما الذي دفعَ الإنسان أن يذهب للكعبةِ، وللمدينة، وللمشاهد؟.. إذن، لابد أن يصفي الإنسان نيتهُ.
ثانياً: الشعور بالخجل.. هناك قسمٌ من الناس يعيش حالة التذلل والخجل، لأنه عندما يقول: إلهي!.. العفو؛ يتذكر ذنوبه.. وهناك من يعيش حالة من الكآبة والحزن، لا لأمرٍ دنيوي، وإنما لأنه الآن استفاق من نومته، وقد مضى نصف عمره في غفلة، ولسان حالهِ في جوف الليل: (اِلهي!.. لَمْ أَعْصِكَ حينَ عَصَيْتُكَ، وَاَنَا بِرُبُوبِيَّتِكَ جاحِدٌ، وَلا بأَمْرِكَ مُسْتَخِفٌّ، وَلا لِعُقُوبَتِكَ مُتَعَرِّضٌّ، وَلا لِوَعيدِكَ مُتَهاوِنٌ.. لكِنْ خَطيئَةٌ عَرَضَتْ وَسَوَّلَتْ لي نَفْسي، وَغَلَبَني هَوايَ، وَأَعانَني عَلَيْها شِقْوَتي، وَغَرَّني سِتْرُكَ الْمُرْخى عَلَيَّ.. فَقَدْ عَصَيْتُكَ وَخالَفْتُكَ بِجَهْدي، فَالآْنَ مِنْ عَذابِكَ مَنْ يَسْتَنْقِذُني).
ثالثاً: إراحة الضمير.. إن من دواعي التقرب إلى الله -عز وجل- إراحة الوجدانِ والضمير، لأن من يقوم بتصفية الحساب مع الله -عز وجل- أي: دفع رد المظالم، ومجهول المالك، وأدى كل ما عليه من الحقوق المالية، واستبرأ ذمم العباد، وأدى ما عليه من الصومِ، والصلاة، والقضاء؛ فإنه يتنفس الصعداء!..
رابعاً: المحبة الإلهية.. كانَ مصلحياً، فصار خجلاً وجلاً، ثم أراح ضميره، والآن ارتقى إلى سلم المحبة الإلهية.. هذا الحب يجعلهُ يخلص في عملهِ، ويتقربَ إلى من يحب.. هنالك مثل يقول: "الوصال مدفن العشق" ولكن هذا القانون لا ينطبق على الحب الإلهي، -إذ لا مدفنَ لهذا العشق، بل يزداد تأججاً واشتعالاً- إنما هناك قانون آخر في عالم الحب الإلهي، وهو "لا تكرارَ في التجلي".. فلذة صلاة الليل ليست واحدة، إنما كل ليلة لها مذاق يختلف عن الليلة التي قبلها.. وإلا ما الذي يجعل الإنسان يأتي للمسجد صباحاً ومساءً؟.. لأنَ في كل مجيء هنالك درجة من درجات التجلي.. ولو فتحت عين البصيرة، لرأى في كل دقيقةٍ تجلياً يختلفُ عن الدقيقة السابقة.. فربُ العالمين ينظر إلى عبدهِ في كُلِّ آن، وإذا تلقى العبد هذهِ النظرة، وتفاعل معها؛ فإنه سيكون لهُ في كل آن قصة مع ربه.. قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله يقبل على العبد في الصلاة ما لم يلتفت، فإذا صرف العبد وجهه انصرف الله عنه).. البعضُ يلتفتُ إليه رب العالمين في كل آن، وفي كل طرفة عين.. علي -عليه السلام- كان متفاعلا مع ربه دائما، وهو القائل: (ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله: قبله، وبعده، ومعه، وفيه).. فإذن، إن المؤمن في حال ذكرٍ دائمٍ ومستمرٍ.
التكبير:
التكبير وما أدراكَ ما التكبير!.. هناك مائة وأربعون تكبيرة تقريبا نكبرها في صلواتنا الواجبة مع التكبيرات الافتتاحية.. وبالتالي، فإن أكثر ذكر يخلد الصلاة، هو التكبير.. والتكبير هو عبارة عن العجز: قال الشاعر:
قلت لا أهتدي لمدح إمامٍ ** كانَ جبريلُ خادماً لأبيه
عندما يعجز الإنسان عن الوصف، يكون ذلك قمة الوصف وقمة البلاغة.. وكذلك عندما يقول الإنسان: الله أكبر!.. أي الله أكبر من أن يوصف؛ أي يا رب أقبل مني هذا العجز.
إن التكبيرات الافتتاحية الست قبلَ تكبيرة الإحرام، هي بمثابة الصعود التدريجي: يقول: الله أكبر!.. ست مرات، وعندما يستوي تماماً يقول: الله أكبر!.. التي هي تكبيرة الإحرام.. هناك من يستهين ببعض المستحبات البدنية، نعم هذهِ الحركات المستحبة دخيلة، ولكنها تعبد!.. مثلا: عندما يرفع الشرطي يده أثناء مرور الضابط العسكري، ماذا تقدم هذه الحركة وماذا تؤخر؟.. إنها مجرد حركة احترامية لهُ، ولكن لو قصر؛ فإنه يُعاقب.. والحركة البدنية المستحبة في التكبير، هي أن يرفع المصلي اليدين والأصابع مضمومة إلى جهة القبلة، كما أمر وهو يقول: الله أكبر!.. لذا علينا أن نتأدب بهذهِ الآداب.. فليقرأ الإنسان في الرسالة العملية على الأقل مستحبات القراءة، والقيام، ومستحبات السجود والركوع والتكبير.
ما المانع أن يستعين الإنسان بالنبي محمد (صلى الله عليه واله) ليعينهُ على صلاته.. فالنبي (صلى الله عليه واله) هو الذي جاء بالصلاة، وهو الذي بلغنا هذهِ الصلاة فقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي).. ما المانع أن يقول الإنسان: يا رسول الله، أنتَ صاحب الصلاة، وأنتَ المصلي الأول في تأريخ الوجود، أعنّي على صلاتي.. فكما أنه يستعين برسول الله (صلى الله عليه واله) لقضاء حوائج الدنيا، عليه أن يستعين برسول الله للتوفيق لصلاةٍ خاشعة.. عن الرضا -عليه السلام- قال: تقول بعد الإقامة قبل الاستفتاح في كل صلاة: (اللهم!.. رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة؛ بلغ محمدا -صلى الله عليه وآله- الدرجة والوسيلة والفضل والفضيلة.. بالله أستفتح، وبالله أستنجح، وبمحمد رسول الله وآل محمد -صلى الله عليه وآله- أتوجه.. اللهم!.. صل على محمد وآل محمد، واجعلني بهم عندك وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين).. يجب أن يتوسل المصلي، ويطلب النجاح؛ لأن هذه الصلاة هي عبارة عن امتحان، وعندما يدخل الإنسان المسجد؛ كأنه دخل إلى قاعة الامتحان.. لذا عليه أن يدخل وجلاً خائفاً.. البعض عندما يكون عندهُ امتحان في رخصة قيادة؛ فإنه لا ينام الليل، وإذا لم ينجح في الامتحان قد تجري دمعتهُ.. ولكنه يأتي إلى قاعة الصلاة، للقاء رب العالمين؛ دون أدنى إقبال أو وجل.
فإذن، قبلَ أن نكبر، علينا أن نقوم بهذهِ الحركات: المشارطة، والمراقبة، والمحاسبة، والمعاقبة.. نحنُ في حياتنا اليومية مأمورون بهذهِ الحركات بشكل عام، من الصباح يشارط الإنسان نفسه، يقول: يا نفسي، عليك بطاعة الله، والابتعاد عن معصيته.. فالمشارطة أولاً، والمراقبة حين العمل، والمحاسبة بعد العمل، والمعاقبة بعد المحاسبة.. هذه المراحل الأربعة نطبقها على الصلاة.. لو أن إنسانا انتهى في صلاته ولم يصلّ صلاة خاشعة، فحرم نفسهُ غداء ذلكَ اليوم، هذا الإنسان آلا يخشع في صلاته مرة أخرى، ولو من خوف الحرمان من الطعام ذلكَ اليوم؟.. نعم عليه أن يعاقب نفسهُ بشيء، ومن أفضل صور المعاقبة الراجحة: أن يصلي في المسجد بعد الفريضة بعض المستحبات، أو يقضي ما في ذمته من صلاة واجبة، فليقل: يا ربِ، أنا فشلت في الفريضة، ولكن أقبل مني النافلة.. والمسجد الفارغ فيه هيبة، لذا قد يتفاعل في قضاء الفريضة، أو في قضاء النوافل.. نعم يصلي بعد الفريضة قضاءً أو أداءً أو نافلةً، من باب استعادة ماء الوجه الذي أريق في هذهِ الصلاة التي لم يخشع فيها.
لفظ الجلالة:
ليعوّد أحدنا نفسهُ على توقير لفظ الجلالة، لا في اللمسِ فقط.. حيث أن لمس لفظ الجلالة، لا يجوز من دون وضوء.. وهنيئاً لمن رأى لفظ الجلالة في مكان لا يليق، وأخذَ هذهِ اللفظة فمسحها وطهرها وعطرها؛ لأن هذه الحركة قد تكون سبباً في دخوله الجنة!.. والمصلي ينطق بلفظ الجلالة والضمير العائد إليه -عز وجل- في الصلاة مئات المرات، لذا ينبغي للمؤمن أن يعاهد نفسه: أنه كلما قال: الله، أو الضمير العائد إليه، أن يذكر الله -سبحانه وتعالى- في نفسه ولو قليلاً.. رحم الله السيد ابن طاووس، كان كلما وصلَ إلى لفظ الجلالة في كتاباتهِ، يبدي عشقهُ لربه فيقول: جل جلاله، عمَ نواله، تقدست أسماءه.
فإذن، كما أن المؤمن عندما يذكر النبي (صلى الله عليه واله)؛ فيصلي عليه وآله، وعندما يذكر الإمام (عليه السلام)؛ فيسلم عليه.. كذلك يجب أن يوقّر لفظ الجلالة، أي كلما ذكر اللهَ -عز وجل- عليه أن يقف قليلاً، ويقول: يا رب أنا قلبي معك.. فلا ينطق لفظ الجلالة، وهو في كمال السهو.
إن الصلاة بعبارة واحدة: هي حديثٌ غرامي!.. وعالم الغرام مفتوح، بعض الناس يتفنن في إبداء غرامهِ لمن يحب، فكيفَ إذا وصل الأمر لواجب الوجود، نعم جل جناب الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد.. هنيئاً لمن اختارهُ الله لمناجاته، كما نقول في الدعاء: (اِلـهي!.. فَاجْعَلْنا مِمَّنِ اصْطَفَيْتَهُ لِقُرْبِكَ وَوِلايَتِكَ... وَاخْتَرْتَهُ لِمُناجاتِكَ).. وفي لحظات الاستجابة، فليسأل المؤمن ربه أن يستجيب له هذا الدعاء الذي هو دعاء علي وذريته (عليه السلام): (اِلـهي!.. وَاْجَعَلْني مِمَّنْ نادَيْتَهُ فَاَجابَكَ، وَلاحَظْتَهُ فَصَعِقَ لِجَلالِكَ.. فَناجَيْتَهُ سِرّاً، وَعَمِلَ لَكَ جَهْراً). الخلاصة: 1- إن الصلاة بين يدي الله عز وجل هي أكبر وأهم مشروع في الحياة البشرية.
2- على كل إنسان أن يسعى لتطوير صلاته، وإن كان يعتقد أنها متقنة، فهناك دائما مرحلة أرقى.
3- على الإنسان أن يصفي نيته في التقرب إلى رب العالمين، فهناك من يتقرب إلى الله عز وجل لأخذ المزايا، فلو أعطي هذه المزايا فلا شأن له بالله جل وعلا.
4- أن من دواعي التقرب إلى الله جل وعلا، الخجل من الذنوب، وإراحة الضمير بتصفية الحسابات مع الخلق، ولكن الأرقى هو داعي المحبة الإلهية الذي يجعله يخلص العمل لوجه ربه المتعال.
5- أن التكبيرات الست الافتتاحية هي بمثابة الصعود التدريجي.
6- أن على المصلي أن يستعين بالنبي(صلى الله عليه واله) وآله، ليعينوه على صلاته،فالصلاة امتحان بين يدي رب العالمين.
7- إن على المؤمن قبل أن يصلي أن يقوم بالمشارطة، ثم يراقب نفسه أثناء الصلاة، ثم يحاسبها بعدها، فإن صلى صلاة غير خاشعة،يعاقب نفسه بشيء، كأن يصلي بعض الصلوات المستحبة.
8- أن على المؤمن أن يوقر لفظ الجلالة، فيعاهد نفسه أن يذكر الله جل ثناؤه في نفسه ولو قليلا كلما ذكر لفظ الجلالة.