هذه المرأة الجليلة
هي أمّ كلثوم بنت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام، وهي ابنة فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله.
جدّتها لأبيها: فاطمة بنت أسد، وجدّتها لأمّها: خديجة بنت خُوَيلد رضوان الله عليهما.
وإخوتها أشقّاؤها لأبيها وأمّها: الحسن والحسين وزينب صلوات الله عليهم.
وُلِدتْ أمّ كلثوم سنة ( 6 ) من الهجرة النبويّة، وتزوّجها عَونُ بن جعفر بن أبي طالب ـ ابن عمّها ـ الذي استُشهد سنة ( 17 ) من الهجرة يوم تُستَر (1).
وقد شَهِدت أمُّ كلثوم بنت الإمام عليّ عليه السّلام مأساة كربلاء، وكانت عايَشَتْها من البداية حتّى النهاية. وتُوفّيت رضوان الله عليها بعد رجوعها من الأسر بأربعة أشهر وعشرة أيام.
• قال الأستاذ محمّد علي المدرّس: أمّ كلثوم بنت عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، كانت فهيمةً كثيراً، وبليغة جليلةَ القَدْر، وخُطبتُها في مجلس عبيدالله بن زياد معلومة (2).
• وعرّف بها الشيخ عبدالله المامقانيّ فقال: « أُمّ كلثوم » بنت أمير المؤمنين عليه السّلام، هذه كُنيْةٌ لزينب الصغرى. وقد كانت مع أخيها الحسين عليه السّلام بكربلاء، وكانت مع الإمام السجّاد عليه السّلام في الشام، ثمّ إلى المدينة. وهي جليلة القدر، فهيمةٌ بليغة،وخُطبتها في مجلس ابن زياد معروفة، وفي الكتب مسطورة، وإنّي أعتبرها مِن الثِّقات (3).
• وكتب عمر رضا كحّالة: أمّ كلثوم بنت عليّ بن أبي طالب، من فواضل نساء عصرها، وُلِدتْ قبل وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله (4).
مِحَن.. ومواقف
بدأت ـ بعد رحيل رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ تتشكّل الخطوط والأحزاب والحلقات والاتّجاهات، فتوالت الوقائع صعبةً وغريبة، فكانت نتيجة ذلك أن انقسمت الأمّة وحدثت المعارك، ومنها « معركة الجَمَل »، وإليها أخرج طلحةُ والزبيرُ عائشةَ من بيتها إلى البصرة.. يقول طه حسين:
وقد رأى طلحةُ والزبير أثرَ عائشة وأحاديثها في الناس، فرَغِبا إليها في أن تصحبهم إلى البصرة، فقالت: أتأمُرانِني بالقتال ؟ قالا: لا، ولكن تَعِظين الناس وتُحرّضيهم على الطلب بدم عثمان. فقَبِلت في غير تردّد، وأقنعت حفصةَ بالسير معها، ولكنّ أخاها عبدَالله بن عمر ردّها.. فأقامت (5).
وفي طريقها إلى البصرة ـ وقد تَوهَّمتْ عائشةُ أنّ النصر سيكون حليفَها ـ كتَبتْ إلى حفصة لتَسُرّها، فوقع الكتاب موقعه من حفصة، حتّى أخذتْ تجمع الجموع في بيتها مُتغنّيةً بالنصر الموهوم.. هنا بلغ أمَّ كلثوم ذلك، فجاءتها تُقرّعها وتُوبّخها!
قال ابن أبي الحديد: لمّا نزل عليٌّ عليه السّلام ذا قار، كتَبتْ عائشة إلى حفصة بنت عمر: أمّا بعد، فإنّي أُخبرُكِ أنّ عليّاً قد نزل ذا قار وأقام بها مرعوباً خائفاً؛ لِما بلَغَه مِن عُدّتنا وجماعتنا، فهو بمنزلة الأشقر.. إنْ تقدّم عُقِر، وإن تأخّر نُحِر!
فَدَعت حفصةُ جواريَ لها يتَغنّينَ ويَضربن بالدفوف، فأمَرتْهُنّ أن يَقُلْنَ في غنائهنّ: ما الخبر، ما الخبر ؟! عليٌّ في السفر، كالفرسِ الأشقر، إن تقدّم عُقِر، وإن تأخّر نُحِر!
وجَعَلت بناتُ الطُّلَقاء يَدخُلن على حفصة ويجتمعنَ لسماع ذلك الغناء، فبلغ أمَّ كلثوم بنت عليٍّ عليه السّلام ذلك فلبست جلابيبها ودخلت عليهنّ في نسوةٍ متنكّرات، ثمّ أسفَرَتْ عن وجهها.. فلما عَرَفَتْها حفصةُ خَجِلت واستَرجَعت. فقالت أمُّ كلثوم: لئن تَظاهَرتُما عليه منذ اليوم، لقد تَظاهَرتما على أخيه مِن قبلُ فأنزل الله فيكما ما أنزل! (6)
فقالت حفصة: كفى رَحِمَكِ الله! وأمَرَتْ بكتابِ عائشة فمُزِّق، واستغفرتِ الله.
قال أبو مِخْنَف: روى هذا جَريرُ بن يزيد عن الحَكَم، ورواه الحسنُ بن دينار عن الحسن البصريّ، وذكر الواقديُّ مِثْل ذلك، وذكر المدائنيّ مِثلَه وقال: فقال سهلُ بن حُنَيف في ذلك هذه الأشعار:
عَذَرْنا الرجالَ بحـربِ الرجـال
فمـاللنسـاءِ ومـا للسُّبـابْ ؟!أمَـا حَسْـبُنـا مـا أتَينـا بـهِ
لكِ الخيرُ في هَتكِ هذا الحجابْ!ومُخرِجُـها اليـومَ مِـن بيتِـها
يُعـرّفُها الحَوْبَ نَبْـحُ الكِـلابْإلـى أن أتـاهـا كتـابٌ لـها
مَشُومٌ.. فياقُبحَ ذاك الكتابْ! (7)• ويُغتال أمير المؤمنين عليه السّلام في محرابه وهو متوجّهٌ بكُلّه إلى الله تبارك وتعالى، فتُفجَع بناته ومِن بينهنّ أمّ كلثوم.. يقول حبيب بن عمرو: يا أمير المؤمنين، ما جُرحُك هذا بشيء، وما بك بأس! فقال لي: يا حبيب، أنا واللهِ مُفارِقُكمُ الساعة. قال حبيب: فبكيتُ عند ذلك،وبكَتْ أمُّ كلثوم ـ وكانت قاعدةً عنده ( خلف حجاب ) ـ فقال لها أبوها: ما يُبكيكِ يا بُنيّة ؟! قالت: ذكرتَ يا أبه أنّك تُفارقُنا الساعةَ فبكيت. فقال لها: يا بُنيّة لا تبكينّ، فوَاللهِ لو تَرَينَ ما يرى أبوكِ ما بكيتِ.. (8)
• ويمضي الركب الحسينيّ إلى كربلاء.. وأمّ كلثوم فيه لا تفارق أخاها أبا عبدالله سيّدَ شباب أهل الجنّة صلوات الله عليه، فهي تاليةُ أختِها العقيلة زينب سلام الله عليها سِنّاً وفضلاً، وشريكتها في تحمّل أعباء النهضة الحسينيّة قبل واقعة الطف وخلالها وبعدها..
• روى السيّد ابن طاووس وَداعَ الإمام الحسين عليه السّلام لعياله يوم عاشوراء، فذكر: وجَعَلَتْ أمُّ كلثوم تنادي: وا أحمداه، واعليّاه، وا أُمّاه، وا أخاه، وا حُسَيناه، واضَيعتَنا بَعدَك يا أبا عبدالله!
فعزّاها الحسين عليه السّلام وقال لها: يا أُختاه، تَعَزَّي بعزاء الله؛ فإنّ سكّان السماوات يَفْنُون، وأهل الأرض كلّهم يموتون، وجميع البريّة يهلكون. ثمّ قال: يا أُختاه يا أمَّ كلثوم، وأنتِ يا زينب، وأنتِ يا فاطمة، وأنتِ يا رباب.. انظُرْنَ إذا أنا قُتِلتُ فلا تَشقُقْنَ علَيّ جيباً، ولا تَخْمِشْنَ علَيّ وجهاً، ولا تَقُلنَ هُجْراً (9).
• ورويَ أيضاً أنّ الإمام الحسين عليه السّلام لدى وداعه للعائلة قال لأمّ كلثوم: أُوصيكِ يا أُخيّة بنفسي خيراً، وإنّي بارزٌ إلى هؤلاء (10).
• وحين عزم زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السّلام على الجهاد يوم عاشوراء وهو في مرضه، أخذ بيده عَصَاً يتوكّأ عليها، وسيفاً يجرّه في الأرض، فخرج من الخيام وخرجت أمُّ كلثوم خلفَه تنادي: يا بُنيّ آرجِعْ.. وهو يقول لها: يا عَمّتاه ذَرِيني أُقاتلْ بين يدَي ابنِ رسول الله. فنادى الإمامُ الحسين عليه السّلام: يا أمَّ كلثوم، خُذِيه لئلاّ تبقى الأرض خاليةً مِن نسلِ آلِ محمّد صلّى الله عليه وآله (11).
• ويكتب الخوارزميّ: وبعد مصرع الحسين عليه السّلام، أقبل فَرَسُه إلى الخيام، ووَضَعَت أمُّ كلثوم يدها على أُمّ رأسها ونادت: وامحمّداه، واجَدّاه، وأبا القاسماه، وا أبتاه، وا عليّاه، وا جعفراه، وا حمزتاه، وا حَسَناه! هذا حسينٌ بالعَراء، صريعُ كربلاء، مَحزوزُ الرأسِ مِن القَفا، مسلوبُ العمامةِ والرِّداء. ثمّ غُشيَ عليها (12).
• وبعد أن كانت أُمُّ كلثوم عزيزةَ القوم في عهد أبيها في الكوفة، تَدخُلها أسيرةَ الأدعياء ليس معها حَمِيّ أو وليّ، بل معها رؤوس إخوتها وأبناء إخوتها وأبناء عُمومتها وأنصار أخيها الأوفياء، مرفوعةً على القنا، وهي وأسرتها وبنات عبدالمطّلب سبايا أسيرات!
تدخل أمّ كلثوم.. وقد خرج أهلُ الكوفة للتفرّج، والرؤوس مُشالات على الرماح، والناس ينظرون إلى السبايا بعد أن خَذَلوا إمامَهم وكانوا قد كتبوا له أن أقدِمْ، فليس علينا إمام!
ويشتدّ الوجد بأمّ كلثوم، ويُمضّ بها المُصابُ وهي تشاهد تلك المناظر المؤلمة، وتلتفت فترى أهلَ الكوفة يتصدّقون على الأطفال الأسرى وهم على المَحامِل، فتَصيح بهم: يا أهلَ الكوفةِ، إنّ الصدقة علينا حرام. أجل، فهمُ أهلُ بيت النبيّ صلّى الله عليه وآله.. ثمّ تنفجر بخطبتها مِن وراء كُلّتها، رافعةً صوتها بالبكاء:
يا أهل الكوفة، سَوْأةً لكم! ما لكم خَذَلتُم حُسَيناً وقَتَلتموه، وانتَهَبتم أموالَه وورثتموه، وسَبَيتم نساءه ونكبتموه ؟! فتَبّاً لكم وسُحقاً!
ويلكم! أتدرون أيَّ دَواهٍ دهَتْكُم، وأيَّ وزرٍ على ظهوركم حَمَلتُم، وأيَّ دماءٍ سَفكتموها، وأيّ كريمةٍ أصَبتموها، وأيّ صبيّةٍ سَلَبتموها، وأيّ أموالٍ آنتَهَبتُموها ؟ قَتَلتُم خيرَ رجالاتٍ بعد النبيّ صلّى الله عليه وآله، ونُزِعتِ الرحمةُ مِن قلوبكم. ألا إنّ حزبَ الله همُ الفائزون، وحزبَ الشيطان هم الخاسرون.
ثمّ قالت:
قَتَلتُم أخي ظُلماً، فوَيلٌ لأُمِّكُم
ستُجزَون ناراً حَـرُّها يَتَوقّدُسَفَكتُم دماءً حَـرّمَ اللهُ سَفْكَها
وحَرّمَـها القـرآنُ ثمّ محمّدُألا فآبشِروا بالنارِ، إنّكمُ غداً
لفي سَقَرٍ حقّاً يَقينـاً تُخلَّدوا..قال الراوي: فضَجَّ الناسُ بالبكاء والنَّوح، ونَشَرت النساءُ شُعورَهُنّ (13)، ووضَعْن الترابَ على رؤوسهنّ، وخَمَشْن وجوهَهنّ، وضَرَبنَ خدودَهنّ، ودَعَونَ بالوَيل والثَّبور، وبكى الرجالُ ونَتَفوا لِحاهُم، فلم يُرَ باكيةٌ وباكٍ أكثر من ذلك اليوم (14).
• وتعود أمّ كلثوم ـ بعد تلك المصائب العظمى، وذلك السفر المُضْني، وتَجدّدِ الأحزان عند المرور بكربلاء على قبور الأحبّة الأعزّة ـ تعود أمّ كلثوم إلى مدينة جدّها المصطفى صلّى الله عليه وآله وهي حاملةٌ أخباراً حزينةً مؤسفة، وذكرياتٍ مريرة وآلاماً كبرى، فإذا لاحت لها معالم المدينة وقفت تخاطبها:
مـدينـةَ جَـدِّنـا لا تَقبـلينـا
فبالحسـراتِ والأحـزانِ جِينـاألا فـآخبِـرْ رسـولَ اللهِ عنّـا
بأنّـا قـد فُجِعْنـا فـي أخينـاوأنّ رجالَنا فـي الطفِّ صرعى
بلا رُؤُسٍ وقـد ذَبَحـوا البنينـاوأخبِـرْ جَـدَّنـا أنّـا أُسِـرْنـا
وبعد الأسـرِ ـ يا جَدُّ ـ سُبِيناورهطُك يا رسـولَ اللهِ أضْحَوا
عَـرايـا بـالطفـوفِ مُسَلّبينـاوقد ذَبَحوا الحسـينَ ولَم يُراعُوا
جنابَكَ ـ يـا رسـولَ اللهِ ـ فينافلو نَظَرتْ عيـونُكَ للأُسـارى
علـى قَتبِ الـجِمـالِ مُحمّلينـاأفاطمُ لو نَظَرتِ إلـى السَّبـايـا
بنـاتكِ فـي البـلادِ مُشـتَّتينـاأفاطمُ لو نَظَرتِ إلـى الحَيـارى
ولوأبصَرتِ زينَ العابدينا.. (15)
المثال الفاخر
جعلَ اللهُ هذه المرأة المكرّمة، والسيّدة الصالحة.. نبراساً لنساء الأمّة في: الإيمان والتقوى، والعفاف، والغَيرة على الدين، والثبات على المبادئ المقدّسة والقيم السامية، وفي الصبر والتحمّل والأخلاق الفاضلة.
فسلامٌ على أمّ كلثوم بنت أمير المؤمنين عليه السّلام، سليلة البيت النبويّ الزكيّ، ومشارِكةِ أسرتها في ملحمة كربلاء العظيمة