رحم الله أبي القاسم الشابي الذي قال بأن الحياة صراع فبدّلها البعض إلي صراع الحياه..وسواءا كانت هذه أو تلك فثبوت الصراع في الدنيا بدهي، بل تكاد أن لا تجد مجالا أو منطقة أو مجموعة من البشر إلا وكان الصراع فيهم حاضرا –بطبقاته-كنتيجة حتمية لسنة التدافع...تظهر أنواع الصراعات تلك فتأخذ أشكالا أقرب إلي صورة الشخص المُخيلة إليه ، فيري نفسه طرفا أصيلا حاملا للحق في مواجهة الباطل، وبغرور الإنسان وتناظره وحِرصه علي الإنتصار يبعد عن النجعة وتزداد الهَوّة..
بعيدا عن مؤلفات الصوفية والسلفية حول التوسل والتي لا تكاد تخلو من التبرير والأدلجة..أري أن قضية التوسل بحاجة للتوضيح من مجال آخر أكثر خصوصية للإنسان في عقله وثقافته وعُمق استقراءه..وكأن المسألة لدي ليست بحاجة إلي علم أكثر ما هي بحاجة حقيقية إلي عقل..فالعِلم غالبا ما يرتبط بالمعلومة كمغذي أولي، أما لو تحالف العلم مع العقل حينها سيُفنّد المعلومة ويطرحها للتساؤل وهذه أولي مراتب العلم الحقيقية...السؤال ..وعدم التسليم للموروث دون محاججته وإخضاعه للشك.. هذا فيما دون الأمر فيه بالتسليم...
قد يقول قائل بأن قضية التوسل تمس أصول الدين وتجرح التوحيد ولا ينبغي التهاون فيها..وهذا معه حق إذا أكّد الإحتمال...وقائل آخر يقول بأن التوسل جائز وهو قول جمهور أهل السلف والخلف ولكن يفعله المتوسلون بشروط تحفظ دينهم وحبهم لأولياء الله الصالحين وهذا أيضا معه حق..فقد قرأت بحثا قويا في موقع ملتقي الإخوان المسلمين يُثبت فيه أن التوسل جائز وهو قول الجمهور...إذا نحن أمام طرفين..الأول يفعل والثاني يُنكر..ولكن لم يسأل أحد منا من قبل ماذا لو لم يلتزم كل فريق بضوابط الفعل والإنكار؟..هذا ما أود الإِشارة إليه كمُدخل لفهم تلك القضية التي تسببت في شقاق بين المسلمين وتشيعهم لفرق متناحرة تقاتل بعضها علي التافه والعظيم..
إن الطرف المُدافع عن التوسل يدافع عنه لاعتقاده بأنه لازم من لوازم حب الولي الصالح..ومنهم من يري في التوسل وسيلة فطرية تدفعه رغباته الإيمانية بالاستزادة من سيرة المتوسل فيه..وكأنه يري القدوة العملية في ذهنه حاضرة وبحاجة لإخراجها من حيّز الصورة إلي حيّز الفعل..أغلبهم يعلمون ضوابط الفِعل ولا ينساقون وراء أهوائهم التي أحيانا تخرج بهم عنه المألوف فيرتكبون جُرما عظيما..لكن وفي الغالب يقع هذا الطرف أسيرا للعُزلة..فيعبد الله بحواسه قبيل عقله وينساق وراء عاطفته الجياشة -التي يتميز بها عن الآخرين..فتُسقطه عبادته في براثن العُزلة والجهل بالتركيبة المجتمعية والسياسية والثقافية المحيطة به..فيري مصطحات العصر-المتداولة-شذوذا عن العقائد ويُخضع الأحدث لمعتقده ، ولن يقع في ذلك المأزق كل متفتح من ذلك الطرف يعلم معني الحب والإيثار أشمل مما درسه وتلقاه علي أيدي مشايخه فيسع صدره وعِلمه الآخرين.
أما الطرف المحارب للتوسل فحاله أشبه بحال المدافع وقد يفوقه سوءا..وكأن قضية التوسل ليست بحاجة إلي هجوم أو دفاع أكثر من حاجتها للعقل الذي يضع لها معايير خارج الفهم الموروثي المُقيّد بمظروفية الزمان والمكان..فحال الهجوم لن يخلو من الأخطاء ولو لم يراجع ذلك الطرف أخطائه فستُهدم شخصيته لأنه لا حقيقة كاملة دون الخطأ والإعتبار منه..وحال ذلك الطرف علي خطر عظيم..فالهجوم الدائم قد يقلب الإنسان إلي وحش كما أشار "فريدريك نيتشة" بضرورة أخذ الحذر عند مقاتلة الوحوش لئلا يُصبح المقاتل وحشا...هذا هو الإنسان ضعيف المَلكة، تدفعه حواسه للحُكم والفِعل دون وضع حواجز تحول بينه وبين الغلو.. وبإمكاننا أن نري تلك الوحوش الإفتراضية في مجتمعاتنا بوضوح...
ستري أن أكثر المحاربين للتوسل قلوبهم غُلف ولا تتقدس لديهم القدوة إلا بخضوعها لهوي المحارب ورأيه، فهم يرون التوسل فِعلا جارحا للعقيدة وهؤلاء أرجح أنهم مقصرون في واجب التربية الإيمانية أوالتثقيفية التي تجعل مقاصد الإسلام وروح شريعته نبراسا أمام أعينهم ،وأكثر هؤلاء صناع للفِتن فتَحكّمِهِم في أنفسهم بسيط مع وجود حافزهم أقوي..ولو أعملوا عقولهم لوقفوا علي أن التوسل هو فكرة قبل أن يكون فِعلا..ولن يُجابه الفكرة سوي الفكرة المضادة الخالية من الإقصاء أو التهميش الذي قد يضع الهدف المقصي في خانة الضعف مما سيجلب لها الأنصار..أما الفكرة المضادة الصحيحة هي قيام الفرد علي ذاته بالتثقيف والإحتكاك والحضّ عليه، وأن يهَب نفسه للحُبّ والإيثار..وأن لا يَعجل بزوال المُنكر -وإلا لم يكن منكرا..وأن يقوم علي إِشغال فراغه وفراغ الناس ، وأن يعمل كحلقة مجتمعية لقتل الجهل بالتحريض علي معرفة أوجه الخِلاف وتدارسها ببيّنة عقلانية وروحية شرعية..
بينما ستري أكثر المدافعين عن التوسل يُفرغونه من مضمونه الداعي إلي حبّ الولي والإقتداء بسيرته وتقليده في عبادته..فينقلون التوسل من مجال العبادة والتطهير إلي مجال التعصب للفكرة..فالمحارب يترصدهم ولو لم يدافعوا ستُمحى هويتهم وهوية الأولياء...ولو أعملوا عقولهم سيجدوا أن لا حاكم عليهم سوي أنفسهم..سواءا بقي القبرأم ذهب أو ضعفت فكرة التوسل أو قويت فالتوسل في مكنونهم دافع للعبادة أكثر منه شرطا أو وسيلة..فهم الذين يصنعون ويحملون التوسل..وبإمكانهم زرعه كفكرة في قلوب الأجيال دون التعرض للدافع أصلا ، هذا الدافع الذي ومن كثرة الدفاع عنه وإبرازه كفكرة مقدسة أو جائزة مُدافع عنها ستوضع في قفص الإتهام وسيُشار إليها كمُنكر لدى العامّة..
من تلك الظواهر وقفت علي رأيا وسطا أسيقه كالتالي:
1-أن قوله تعالي"وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعان"..هو قول كاف لاختصار طريق الدعاء وعدم التكلف.
2-ضرورة الحضّ علي حُبّ الأولياء وتدارس سيَرهم لزرع القدوة أمام الأبناء..خاصة أننا شعوب بحاجة ماسّة إلي إظهار قدوات تتسم باللين والزُهد والحبّ والمقامات الربّانية والعِرفان.
3-يتميز الصوفيون بإنكار ذواتهم وتنمية اجتماعياتهم..فالتصوف –كفكرة- تغرس لديهم الإيثار والزُهد..وهاتين القيمتين كافيتان لبناء مجتمع ناجح مترابط.
4-يتميز السلفيون بغيرتهم علي العقيدة..ولكن من الغيرة ما قتل والتكلف يودي إلي المهالك.
5-أري أن علي الطرف المحارب للتوسل عليه بناء ذاته وإنسانيته بعيدا عن فكرة الوصاية علي الآخر التي تستحوذ علي عقله، إضافة إلي إظهارها للاقتداء بها ظهورا لا رياء فيه ومُفعم بالإخلاص والربانية..
6-ضرورة الحِفاظ علي الآثار الإسلامية ومن بينها قبور الأولياء ومقاماتهم..فأي أمة تفرّط في آثارها ينقطع الحبل بينها وبين ماضيها..
-أخيرا لا أري في قضية التوسل حاجة للزهد عن الخوض فيها..وكأنها قضية تراث إسلامي مختلف عليها بين الفقهاء..وإلا لن نُراوح أمكنتنا وسنظل في دائرة الخلاف تتسع وتضيق حسب مستوي العِلم وجُهد العلماء..من الضروري بل من الواجب النظر إليها برؤية أكثر عصرية مما قُرئ عنها في الكُتب...