الذين يصنعون وعينا
بدر شبيب الشبيب
في عام 1961 كتب جون سوينغتن - رئيس التحرير السابق لصحيفة نيويورك هيرالد تريبيون: « هنا في أمريكا، لا توجد صحافة مستقلة، وإذا ما سمحتُ بأن تنشر في صحيفتي أخبار صادقة فإنهم سوف يطردونني من عملي خلال أربع وعشرين ساعة. إن مهمة صحفيي نيويورك هي أن يشوهوا الحقيقة، وأن يكذبوا من دون أي خجل، وأن يحرفوا الوقائع. إننا مجرد أدوات، ونحن تابعون للأغنياء الذين يقفون وراء الكواليس. إننا دمى، هم يحركون الخيوط ونحن نرقص. إن وقتنا كله، وذكاءنا كله، وحياتنا كلها، وآراءنا كلها ملك لأناس آخرين، ونحن فكريا، كالمومسات». «إنتاج وإعادة إنتاج الوعي: ص74»
تلخص هذه الكلمات قصة الوعي الجاهز المعلب الذي نشتريه ونتناوله دون أن نكلف أنفسنا فحص مكوناته ومعرفة مصادره وقيمته الغذائية، لأنه تم ترويضنا على منح الثقة المطلقة للمُصَنعين الذين نجحوا في زحزحة وعينا عنهم وعن أساليبهم وأدواتهم التضليلية.
فقد تمثلت العبقرية المرعبة للنخبة السياسية الأمريكية - كما يقول هربرت شيللر، صاحب كتاب « المتلاعبون بالعقول» - في قدرتها على إقناع الشعب بالتصويت ضد أكثر مصالحه أهمية دون حاجة للقمع والاضطهاد، فيقوم مديرو أجهزة الإعلام في أمريكا بوضع أسس عملية تداول الصور والمعلومات ويشرفون على معالجتها وتنقيحها وإحكام السيطرة عليها، تلك الصور والمعلومات تحدد معتقدات الناس ومواقفهم، بل وتحدد في النهاية سلوكهم.
فالمسألة إذن ليست اعتباطية، بل إن الثقافة التي نستهلكها معدة بطريقة ذكية جدا، في مطابخ يعمل بها كبار الطهاة من خبراء الاتصال الجماهيري من مختلف التخصصات، والذين يعملون لصالح ديناصورات رأس المال والسلطة، أو الذين عبرت عنهم حركة «احتلوا وول ستريت» بالواحد في المائة.
لماذا لا يستطيع الناخب الأمريكي - على سبيل المثال - إلا أن يختار مرشحا من أحد الحزبين الجمهوري والديمقراطي فقط؟
لماذا لم ينجح «رالف نادر» في محاولاته للوصول إلى سدة الرئاسة من خارج هذين الحزبين؟ أليس لأنه مشاكس يريد الخروج على نسق اللعبة الديمقراطية المعلبة؟
لماذا تم التعتيم الإعلامي الكبير على حركة «احتلوا وول ستريت» وتم قمعها في غياب الأضواء عنها، حتى تلاشت أو تكاد؟
أليس لأنها تريد خلق وعي جديد عند ال 99% الذين يراد لهم أن يستمروا في النوم في العسل المغشوش؟
لماذا مرت دون تغطية كافية، بل بتشويه مقصود، حادثة طائرة أيوب التي شكلت اختراقا نوعيا للأمن الإسرائيلي، وغيرت معادلة الصراع في المنطقة؟
لماذا يمارس الغرب أدوارا قمعية في حجب الرأي الإعلامي الآخر، من خلال حظر بث قنوات تخالف سياسته، وتسعى لإيصال وجهة نظر أخرى؟ لماذا ولماذا؟ إنه تزييف الوعي.
وإذا كان تزييف الوعي يتم في الدول الديمقراطية من خلال امتلاك مجموعة من المؤسسات المشتركة والتكتلات الإعلامية لمحطات الإذاعة وشبكات التلفزيون والصحف والمجلات وصناعة السينما ودور النشر، والتي تستقطب أعلى الكفاءات وأذكاها بأعلى الحوافز وأنداها لصنع التضليل الناعم، فإن ذلك يتم أيضا في الدول الاستبدادية بصورة أكثر فجاجة، حيث الاحتكار الإعلامي والرقابة الصارمة وتوظيف المال العام في صنع الرأي العام المناسب لمزاج السلطة.
وعينا الذي لم نصنعه
بدر شبيب الشبيب
دائما ما نتأكد من سلامة البرامج التي نثبتها على أجهزتنا الحاسوبية والإلكترونية، كما نضع أفضل برامج الحماية خوفا من الفيروسات التي قد تعبث بها أو تدمر محتوياتها. هذا عن الأجهزة، لكن ماذا عن عقولنا؟ ماذا عن اختراقات الفيروسات الفكرية والنفسية التي هي «أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ليلة ظلماء»؟ نستقبلها طواعية ونحن في أقصى لحظات الاسترخاء، فلا تجد أمامها ممانعة أو مقاومة، بل تجد عينا مفتوحة وأذنا صاغية وعقلا يغط في سبات عميق.
كثيرا ما نتوهم مخدوعين أننا نحن الذين نصنع برمجياتنا وثقافتنا ووعينا، ناسين مصانع إنتاج وإعادة إنتاج الوعي من حولنا.
فالعالم لم يعد بريئا في زمن تسليع الثقافة، أي تحويلها إلى سلعة تسعى إلى الاستحواذ على أكبر عدد من المستهلكين، مستخدمة كل وسائل الدعاية والإعلان والتسويق.
لقد استطاعت هذه المصانع أن تعيد تشكيل وعينا كما تريد، وبلغت براعتها حدا يشعر معه المستهلك أنه المنتج؛ يشعر بالحرية وهو في أسر القيود، وبالسعادة وهو في غمرات الشقاء. والمثال الأوضح على ذلك هو ضيف الضيوف الذي اقتحم منازلنا دون عنوة، وصار أقرب المقربين إلى قلوبنا دون أن يخطب ودنا صراحة، وفتحنا له أبواب حواسنا وأحاسيسنا وقلنا له: «هَيت لك»، فما قال «معاذ الله». إنه الشاشة الفضية التي تعيد صياغتنا وتشكيلنا كما يريد منتجو موادها الإعلامية من أخبار وتعليقات وتحليلات وأفلام ومسلسلات وبرامج وإعلانات وغيرها. تشغلنا القضايا التي يسلطون عليها الضوء، وبالشكل الذي يرغبون فيه، ونهمل القضايا التي يهملون، حتى وإن كانت أهم قضايانا المصيرية، كالتنمية السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وغياب الحرية والديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان والشفافية. ونتفاعل بمتعة مع الأفلام والمسلسلات وما تطرح من إفساد للذوق والضمير، ونتابع أدق تفاصيلها، ونحفظ أسماء شخصياتها، وتاريخهم، ويومياتهم بأكلها وشربها ولباسها وكل شاردة وواردة فيها.
يقول الدكتور علي ناصر كنانة في كتابه «إنتاج وإعادة إنتاج الوعي»: إن الحضور الفيزيائي والثقافي للتلفزيون في المنازل السكنية بلغ من القوة والتأثير ما يدعو إلى اعتباره المنزل البديل، بما يعنيه المنزل من علائقيات راح التلفزيون يستحوذ عليها ويحل بديلا عنها، لنشهد في النهاية ظهور، ما أسميه، «الوعي التلفزيوني» الذي يزيح الوعي الإنساني الطبيعي ويستولي على موقعه. لقد هاجم المثقفون بحنق دور التلفزيون الذي يصفه المعماري فرانك للويد رايت بأنه مصنع علكة للعيون ، بينما يصطلح الكاتب هنتر أس. ثامبسون على عمل التلفزيون بوصفه «خندقَ مالٍ ضحلا ووحشيا، إذ ينطلق اللصوص والقوادون بحرية، في حين يموت الرجال الأخيار مثل الكلاب».
عندما ترى الناس في مجتمعاتنا مندكين في السجالات الطائفية، ومنهمكين حد الإنهاك في الاصطفافات والتحزبات الضيقة، وبعيدين كل البعد عن التأسيس لوطن المواطنة والحقوق والمؤسسات، ففتش عن صناعة الوعي التي نجحت في ترويضهم، وفتحت شهيتهم لتناول كبسولاتها الثقافية المخدرة.
إن التلفزيون ليس إلا المثال الأوضح لذلك، إذ إن صناعة الوعي هو عالم واسع تُوظف فيه الطاقات المالية والبشرية والعلمية والتكنولوجية المتقدمة، لتجعل منا كائنات مطواعة تستقبل وتقبل دون فلترة أو نقد.