TER]كانت فتاة شديدة الذكاء، ذات حيوية متدفقة، دخلت المدرسة القرآنية فبهرت معلمها بسرعة حفظها، وفي وقت قصير استطاعت أن تحفظ عددا كبيرا من سور القرآن الكريم. ودخلت المدرسة فتفجرت ينابيع ذكائها، ولمست في نفسها حبا شديدا للتعلم واكتساب المزيد من المعارف والعلوم.. لكن الخُطّاب توافدوا على بيتها فسارع والداها بتزويجها دون أن يمنحاها فرصة إرواء ظمئها المعرفي، ولم تفتح عينيها إلا وهي تتحمل مسؤولية زوج وبيت وأطفال بدؤوا يتوافدون إلى الدنيا الواحد تلو الآخر.
ومرت السنون، وكبر الأطفال والأم غارقة في رسالتها التربوية، فكانت هي معلمة أطفالها قبل أن يدخلوا المدرسة، وهي التي توجههم عند دخولها، حتى إذا أدركوا من التعليم حدا استعصى عليها فهمه تركتهم يكملون المشوار بمفردهم وفي نفسها ألم وحرقة أن حرمت من إكمال دراستها وقد من الله عليها بقدرات تؤهلها للوصول إلى أعلى الدرجات والحصول على أكبر الشهادات. لكنها- ورغم ألمها- رضيت بما قدره الله لها، وكرست حياتها لأولادها تفرغ في عقولهم الصغيرة شحناتها الضخمة.
ورث عنها أطفالها ذكاءها، وحيويتها، وسرعة حفظها، والكثير من خصالها، فإذا هم يصعدون سلم التعليم في سهولة ويسر، وإذا بهم، بعد سنوات، يتخرجون من الجامعة بشهادات علمية مختلفة، فمنهم الطبيب، ومنهم المهندس والأستاذ... فكان فيما حققته في أولادها العزاء والسلوى. لكن الحرقة ظلت مختبئة في أعماقها لم تلمسها حتى هي نفسها.
ذات ليلة حملت المحفظة، وارتدت مئزرا جميلا، ثم توجهت إلى المدرسة بفرحة غامرة
وسعادة منقطعة النظير.
جلست إلى طاولة القسم وأنصتت إلى المعلمة بانتباه شديد..!
وتوالى ذهابها إلى المدرسة، حتى وصل أوان الامتحانات الأخيرة، دخلتها بهمة ونشاط ونجحت بجدارة واقتدار. وكلما انتقلت من عام إلى عام ازداد ذكاؤها حدة، وتعمق فهمها لمختلف العلوم، وازداد ظمؤها فهي لا تعرف الاكتفاء، ولا تشعر بالارتواء فتزداد سعيا لطلب العلم بهمة ونشاط.
نجحت في امتحان البكالوريا(الثانوية العامة) بمعدل كبير أتاح لها تحقيق حلمها بدخول الجامعة، فإذا بها في ردهاتها تشارك الطلبة والطالبات حياتهم الجامعية، وتتناقش مع أساتذتها في بحوثها العلمية، وترتاد المكتبات الحبيبة إلى قلبها. وتنتقل من عام إلى آخر وهمتها تزداد ولا تنقص حتى أدركت عامها الأخير.
اختارت لتخرجها موضوعا شيقا وهبت له نفسها، ونشطت في جمع مادته والإبحار في أعماقه حتى أخرجته في صورة كتاب ضمته إلى صدرها حين تمت طباعته، فكأنها تضم وليدا إلى صدرها ربما هو في مرتبة أعز أولادها.. وجاء اليوم الموعود، ووقفت أمام لجنة مناقشة مذكرات التخرج وقوف المحارب في المعركة الفاصلة، ورغم أن قلبها اضطرب في صدرها اضطرابا أخافها إلا أنها تماسكت وثبتت، وعرضت عملها على أكمل وجه، وأجابت على أسئلة أعضاء اللجنة بجدارة، وكانت في كل ذلك تقف بكبرياء الواثق من نفسه، الموقن بقيمة عمله.
هنأتها اللجنة على ما قدمته من عمل يستحق الثناء، ومنحتها درجةً مشرِّفةً ملأت نفسها غبطة وسرورا، ودمعت عينها في تلك اللحظة، إذ تذوقت طعم النجاح بعد التعب فوجدت حلاوته لا تضاهيه أخرى في الوجود.
بعد فترة قصيرة من تخرجها حصلت على عمل، فبدأت بذلك مشوارها المهني بعزيمة متجددة دون أن تزهد في طريق العلم الذي لا نهاية له ولا ارتواء لطالبه.
ومع أول مرتب قبضته.. انقطع الحلم الذي طالما راودها في لياليها الطوال، ولم تعد بعد ذلك ترغب في مواصلة تعليمها وقد أنهتها في منامها..!! فقد عاشت مختلف المشاعر التي تنتاب طالب العلم وهو يصعد سلم العلم درجة درجة، وعرفت معنى النجاح والوصول إلى الهدف بعد تعب مضنٍ استمر سنوات طوال، واستمتعت بقطف الثمار وتذوق حلاوتها الآسرة!.
العجيب في الأمر أنها - ومع قبضها أول راتب لها من عملها في المنام- وصلها مورد رزق غير منتظر في واقعها، وهي – حتى اليوم – تقبض الراتب بصورة منتظمة.. فسبحان من يعطي عطاء غير محدود..!! [/CENTER]
.
.... مما راق لي ..... تمنياتنا لكم بالتوفيق اخوكم سيد علي الموسوي .....