[جعفر المندلاوي]

القواعد الكلية لفقه الحضارة : لماذا القواعد الكلية؟

17 فبراير2013 د. محمد باباعمي

إنَّ الجزئيات عندما تهجم على العقل تشتته، وتمنعه من ترتيب المعلومات وتنظيمها، ولعلَّ من أخطر إشكالات العصر كثرة المعلومات، والتفاصيل، والجزئيات؛ وضعف التحليل والتركيب(1)، ولذا كان لزاما على العقل أن يلوذ بقواعد كلية، وقوانين، ومبادئ، تساعده على التركيز، وتدفعه إلى الفعالية؛ ومن تم جاءت أهمية صياغة القواعد الكلية في جميع الفنون والعلوم؛ من بينها "فقه الحضارة".
ومن أبرز ثمرات القواعد الكلية نسجل(2) :
1. اكتساب النظرة الشمولية الكلية.
2. التعامل مع الرؤية الكونية بوعي.
3. إيجاد ميزان ومعيار للحكم، في مناحي الحياة كلِّها.
4. النجاة من إشكالات "اللفظية"، و"الحروفية"، و"النصية"؛ أو ما يعبِّر عنه جيب "بالذَّرية" (3).
5. الاستفادة من التخصص منهجا، دون الإغراق فيه معتقدا وقناعةً.
6. ضمان ديناميكية الفكر، والتوجه الحركيِّ، المؤسَّس على تلك المعرفة.
7. منع التشتت بين التفاصيل التي لا نهاية لها، وطرح ما لا فائدة منه، وعدم الاكتراث به، مما يكسب الجهد والوقت والطاقة.
8. اكتشاف القواسم المشتركة، ونقاط التلاقي، مع كافة المتعاملين والشركاء، إلى حدِّ تحقيق شروط "الجماعة العلمية".
9. منح ذلك المجال صفة "العلم" القادر على التطبيق في سياقات مختلفة.
يقول مالك بن نبي: "ليست التربية من إنتاج المتعالِمين وبحار العلوم، الذين يعرفون جميع كلمات المعاجم، دون أن يلمُّوا بما تترجم عنه هذه الكلمات من وقائع، خيرًا كانت أم شرًّا، وأولئك الذين يعرفون جميع المبادئ والتعاليم التي جاءت في الإسلام، دون أن يستطيعوا تطبيق مبدأ أو تعليم واحد لتغيير أنفسهم، أو تغيير بيئتهم. فكلُّ حقيقة لا تؤثِّر على الثالوث الاجتماعيِّ: الأشخاص، والأفكار، والأشياء، هي حقيقة ميِّتة. وكلُّ كلمة لا تحمل جنين نشاط معيَّن، هي كلمةٌ فارغة، كلمة ميِّتة مدفونة في نوع من المقابر، نسمِّيه: القاموس"(4).
أمَّا فتح الله كولن فيقول: "وفي حقيقة الأمر، فشلُك في النظر إلى المسائل من خلال "نظرة كلِّية"(5) ، سوف يؤدّي حتمًا إلى الإفراط أو التفريط.. ونجد اليوم أنَّ "للنظرة الكلِّية" دورا مهمًّا في مطالعة العلوم (الوضعية والإنسانية) وتقييمها... أو بعبارة أخرى، النظر من خلال القواعد الكليَّة هو الأساس، بينما تقييم الوجود (الكون) وتحليله وقراءته يتمُّ من خلال علاقة الجزء بالكلِّ.. لذلك إذا أخذتَ الجزئيات بنظر الاعتبار، أو حلّلتَ القضايا والظواهر الجزئية بغضّ النظر عن القواعد الكلّية، هناك سيختلّ الميزان، وسيفسد الانسجام الكلّي.." (6) .
وفي حال السيرة النبوية، ما من شكٍّ أنَّ الذي يحفظ تفاصيلها، ويدبِّج الخطب العريضة في وصفها، ويكتب المقالات المطوَّلة حولها؛ لكن دون القدرة على "تحويل المعلومة إلى معرفة، والمعرفة إلى سلوك، والسلوك إلى دعوة"(7) ، هو مجرَّد ناقل، لا يصلح لبناء حضارة(8) ؛ ومن ثمَّ يذكر الأستاذ "رشيد هيلماز"، وهو تلميذ للأستاذ فتح الله، ومتخصِّص في السيرة النبوية، أنَّ الأستاذ فتح الله يقول: "من خلال السيرة النبوية، ومِن أبسط الجزئيات، أستخرج قواعد كلية للحركية، وأعالج إشكالات معقَّدة، بدونها لم أكن لأهتدي إلى الحلِّ؛ وكلَّما اعترضني مشروع أو قضية أعرضها على كلام الله، وعلى سنَّة المصطفى، وعلى سيرته العطرة؛ ثم على تراث الأمَّة والبشرية؛ لأخرج بجواب أقرب ما يكون إلى الصدق والفعالية"(9) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــ
1 - التحليل والتركيب (analysis & synthesis) عمليتان عقليتان تقوم عليهما معظم المناهج، والمراد منهما التفكيك العقليُّ لكلٍّ ما إلى أجزائه المكونة أو عناصره أو أسبابه وشروطه، وإعادة تكوين الكلِّ من أجزائه. فالتحليل عكس التركيب. وللتحليل والتركيب أثر بارز في عملية المعرفة، وفي بناء الحقيقة.
2 - انظر- فتح الله كولن: الجرة المشروخة، ج4. مالك بن نبي: ميلاد مجتمع؛ ص76. عبد الوهاب المسيري: مسوعة اليهود؛ ج1.
3 - في كتاب "الاتجاهات الحديثة في الإسلام" للمستشرق "هاملتون جيب" نقرأ معالجة لما أسماه بـ"النزعة التجزيئية"، أو "الطبيعة الذرية"، ويقول زكي الميلاد معلقا: "يشكل هذا المفهوم نموذجا تفسيريا في تحليلات جيب لأسس الفكر الإسلامي"، وهو نموذج "عرقي-استشراقي"، وقد لاحظ إدوارد سعيد الجرعة الاستشراقية المتحيزة لهذا النموذج؛ ولذا نقد مالك بن نبي أطروحة جيب بقوله: "إنَّ هذه النزعة ليست خاصية نظرية من خواص الفكر العربي... بل هي طراز من طرز العقل الإنساني عامَّة، عندما يقصر عن بلوغ درجة معيَّنة من التطور والنضج"؛ ومع ذلك استفاد ابن نبي من جيب، وكان منصفا، فقال: "وجدت أنَّ موقف المؤلف الكبير يشبه في مواطن كثيرة موقفي الذي حاولت مع قصر باعي أن أجلوه" وانظر- مالك بن نبي: وجهة العالم الإسلامي؛ ترجمة عبد الصبور شاهين؛ دار الفكر، دمشق؛ 2002. ص17 وما بعدها. زكي الميلاد: هاملتون جيب والاتجاهات الحديثة؛ نصخة رقمية.
4 - ميلاد مجمتع؛ ص100.
5- نشر مقال مرجعيٌّ في مجلة "دعوة الحق"، لعلَّه للدكتور أحمد عبادي، بعنوان "نحو صياغة جديدة للفكر الإسلامي"، وفيه نقرأ أنَّ النظرة الإسلامية القرآنية هي نظرة كلية، وخلافها لا يمكن أن ننسبه إلى الإسلام: "النظرية الجزئية (ضد التكامل)؛ والنظرة المنحرفة (ضد الوسطية)؛ والنظرة الجامدة (ضد الحركية)؛ هذه النظرات كلها تتعارض مع مفهوم الإسلام"، ثم قال: "قليلون من المفكرين أولئك الذين اتفقوا على صياغة تطور الفكر الإسلامي وفق قانونه الأساسي: التكامل، والوسطية، والحركية". العدد 108؛ موقع المجلة habous.net .
6 - فتح الله كولن: الجرَّة المشروخة؛ نفسه.
7- ينظر- كيث ديفلين: تحويل المعلومة إلى معرفة؛ العبيكان.
8 - يلاحظ "جيفري لانغ" أنَّ الجالية المسلمة في أمريكا، من خلال العديد من الجماعات والحركات التي ذكرها، تمارس طقوسها وتقاليدها وتركِّز على عدد من جزيئات "السنة الجبلية" على حساب السنن الكونية، والنتيجة "أنَّ التصور الغربي على أنَّ الإسلام ديانة شرق أوسطية خالصة" و"أنَّ المسلمين إنما يريدون من البشر جميعا أن يحصروا أنفسهم في زمان ومكان وحيدين من التاريخ، رغم ادعائهم أنَّ الإسلام صالح لكل زمان ومكان" وينسب بعض المسلمين انحرافهم، بتعميمية مفرطة إلى القرآن الكريم، وإلى السنة وسيرة المصطفى عليه السلام. حتى الملائكة تسأل؛ ص164.

نقلته للفائدة ~