التطبير لفظ عامي مأخوذ من طبر الشيء بالسكين واللفظ مستخدم في العراق وما جاوره من عرب الجزيرة الشمالية والجنوبية والخليج والأهواز فيقولون طبر الخشبة أو العظم بالطبر (الفأس أو القدوم أو الساطور في الشام) ويقصدون الضرب بالساطور وغيره من الأدوات الحادة، ولكنه بهذا المعنى لم أعثر عليه في كتب اللغة، ولعله لفظ تركي أو من أصول بابلية آكدية لأن طَبَرَ في العربية بمعنى قفز واختبأ. والله أعلم.
ويقصد به فصد أو شرط جلدة الرأس بآلة حادة كالموسى. وهو ما يقوم به بنسبة واحد مما يزيد عن مائة ألف من عدد الشيعة تقريبا.(ففي كل العالم الشيعي يمارس التطبير بضع مئات وقد يصل الى بضع ألوف من أصل أربعمائة مليون) والذي يحاول أعداء التشيع تصعيده إلى الصدارة والى حد العقيدة، كما أن بعض الشيعة المتأخرين يعتقدون أن محاربة هذا الأمر يعد من باب الحرب لأسس التشيع اشتباها منهم. بينما يحاربه بعض الشيعة اعتقادا منهم بأنه عمل مضر بالتشيع ويجلب سمعة سيئة.
وقبل كل كلام أقول بأن هذه الظاهرة هي ظاهرة طارئة لم يُسمع بها قبل 130 سنة . فليس لها علاقة بالفكر الشيعي من قريب أو بعيد بل ليس لها علاقة بالممارسة الشيعية وقد انتقلت إلى الشيعة عبر حركة صوفية تركية إبّان الحكم التركي وهي سنية المنشأ والرعاية إلى حد ما.
وقبل الكلام عن حكمها وتصويرها بدقة في واقعنا الحالي اقدم نبذة عن أصلها عبر أوثق المصادر الشيعية والروايات المحفوظة.
بعد أن انتشرت دعوة الحاج بكتاش (تركي تبريزي المولد درس في خراسان وأصبح داعية إصلاح في عموم بلاد الأتراك) . ووصل انتشار دعوته أن التزم بمبادئها السلطان العثماني السلطان الغازي مراد خان الأول الأشعري ابن السلطان أورخان الغازي وأسس الجيش الإنكشاري في سنة 736 هجرية وفق تعليمات السيد محمد الرضوي التبريزي المعروف بالحاج بكتاش. وأسماهم الجيش الجديد (يكي جري) الذي صحف فيما بعد بـ (إنكشاري) وكان وفق تعليمات الحاج بكتاش تأسيس (تكية -صالة) في كل ثكنة عسكرية للتوجيه المعنوي والديني. وبقيت هذه التكيات مرتبطة بالجيش الإنكشاري مدة ثم انفصلت عنها وتحولت إلى صالات مستقلة للتوجيه الديني (الصوفي في الغالب سني وشيعي ) في طول وعرض البلاد العثمانية. غير أنها من جهة ثانية لم تنفصل عن الجيش العثماني حتى بعد انحراف الإنكشارية والقضاء عليهم فقد بقيت التكايا البكتاشية في كثير من ثكنات الجيش خصوصا الجحافل الشرقية والتي قاتلت مئات السنين للجيوش الروسية في القفقاس .
ويبدو أن هذه الثكنات حسب رواية الأتراك عانت في القرن الثالث عشر الهجري من مشكلة عويصة بعد انتشار الأسلحة النارية وهي أن التدريبات بالسلاح الناري الحي تستدعي وفاة بعض الأفراد وهذا مسموح به في الجيوش حسب العرف العسكري الحديث المعمول به لحد الآن. وقد أشكل هذا الأمر على المتدينين في التكايا العسكرية في الجهات الشرقية والتي تحوي على الجنود الشيعة والسنة، وجرت بينهم مداولات أدت إلى ما يلي:
بما أن التدريب العسكري للقتال الحقيقي يستدعي رؤية أشد ما يرعب الإنسان وهو الدم والموت حتى يكون المقاتل جاهزا وغير مبال بما يراه حين المعركة لشد عزيمته فإن الجهات الدينية في التكايا اقترحت أن يقوم بعض الجنود بنوع من حجامة الرأس المكشوفة (الفصد) لأنها غير محرمة وقد فعلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عدة مرات وفيها أحاديث عن الاستطباب بها. ويكون ذلك بمناسبات دينية فاختاروا أن يكون يوم قتل الحسين عليه السلام وهو يوم عاشوراء. وقد نجح هذا الأمر فعلا في تقوية قلوب الجنود وإزالة بعض عوائق الإقدام في الحرب وهي العوائق النفسية. وهكذا بدأ الانتشار تدريجيا من تكية إلى تكية حتى وصل إلى تكيات خارج حدود الجيش العثماني وهي التكيات الدينية الشعبية المنفصلة عن الجيش الإنكشاري من مدة طويلة. وقد كان الأمر محصورا في تكيات القفقاس وأذربايجان وتبريز وفي نهاية القرن الثالث عشر وصل إلى تكية البكتاشية في كربلاء وبعده بقليل في النجف الأشرف في العراق أي بحدود سنة 1890 ميلادي أو أكثر قليلا. ولكنه كان في تكيات البكتاشية في مصر قبل ذلك ببضع عشرات السنين وكان التطبير موجودا في مصر قبل سنة 1870م ويتم في باحات مسجد رأس الحسين عليه السلام. ويبدو أنه كان موجودا إلى ما بعد سنة 1900م بشهادة بعض المعمرين في مصر لأحد العلماء في النصف الأول من القرن العشرين وقد اخبرني بذلك شخصيا.
المهم لقد فاجأت هذه الحركة علماء الشيعة في وقتها فاستدعوا الأتراك من هيئة إدارة التكية البكتاشية وسألوهم فشرحوا لهم الأمر بأن هذا الأمر إنما وجد لتقوية القلوب وهو لا يحتوي على اكثر من الحجامة ولكن بدون كاسات (فهو فصد) والمقصود به ربط الوجدان الشعبي بحب أهل البيت عليهم السلام مع الفائدة الأساسية وهي تقليل النفرة من منظر الكوارث وبشاعة الحروب. بالإضافة إلى المعاني المرتبطة بها مثل الاستعداد للفداء والتضحية وبذل الدم رخيصا للعقيدة كما هو لبس الأكفان وإجراء الدماء والهتاف بالتضحية والمحبة لمبادئ الإسلام التي قدم الحسين نفسه من أجلها. فاقتنع الفقهاء بعدم وجود دليل على التحريم وعلى فائدة مهمة جدا وهي تقوية القلوب وإزالة الخوف والمعاني الرمزية فيها. ولهذا سكتوا عنه .
الحقيقة لقد اثبت سلوك التطبير كفاءته في تقوية القلوب وفي التزويد بالشجاعة في مواقف تاريخية كثيرة . ويبدو بأن هذا هو ما لتفت نظر قوى الاحتلال الفرنسي والإنجليزي فقد حاربت هذه القوى هذا الموضوع بكل ما أوتيت من قوة، وصل إلى حد الإعدامات في العراق ولبنان لأجل إيقاف هذه الظاهرة وكلما ازداد المنع ازداد الإصرار وازدادت القناعة بأن المحتلين يخافون من هذه الظاهرة وهي ذات مغزى عسكري يفهمه العسكريون بصورة إيجابية ويعتبرونه من مصادر الممانعة الشعبية والمقاومة العسكرية الشعبية. وقد استخدم الفرنسيون أسلوبا آخر غير المنع وهو أسلوب التشنيع وتهمة التخلف للشيعة نتيجة هذه الحالة ونشروا صور ومقالات للسخرية والسب والشتم. وقد وصل هذا التشنيع لبعض الفقهاء الذين لا يعرفون خلفيات الأمور فاستفظعوا التشنيع وقالوا بالحرمة بعنوان ثانوي لأنه يؤدي إلى الشنعة. ولكن بقية العارفين لم يلتفتوا إلى هذا الحكم لوجود قصور في مقدمات الحكم ظاهرة فإن المشنعين وهم من المسيحيين الذين لديهم كنائس رهبانية يقومون فيها بتعذيب أنفسهم بما هو مستبشع وينتشر بينهم رجال السيرك الذين يدخلون السيوف في وجناتهم ومنهم من يدخل الشيش في البلعوم .
وكذلك فأنهم يهيجون بمقالاتهم رجال السنة... والسنة عندهم في وقتها التطبير في تركيا ومصر والقفقاس وبنفس المناسبة وبنفس الشروط وعندهم بعض الحركات الصوفية التي يعملون بها الأعمال السحرية وتعذيب النفس وغرز السكاكين في البطون وغير ذلك ولا يستنكره منهم أحد. فالقضية إذن تتعلق بالتفكير العسكري من هذا التطبير الذي استمر رغم سقوط الدولة الراعية للتكية البكتاشية.
واليوم نحن نعرف أهمية التطبير جيدا, حين واجهنا العدو الصهيوني الخبيث. حين عرفنا ونظرنا بأم أعيننا بأن خير من يقدم على الإنقاذ أو القتال هم من يعيش حالة التطبير سواء كان ناظرا أم فاعلا . وقد حارب الصهاينة التطبير حربا شبيهة بحرب السلفيين له بل قذفوا قنابل على مواكب التطبير وقتل بعض المؤمنين ولم يؤثر ذلك إلا إصرارا على طرد اليهود وقد تم بحمد الله.
وقد جرت أمام عيني حوادث عجيبة في جنوب لبنان أدهشتني مما جعلني أؤمن بعبقرية مخترع التطبير حيث جرت أمامي حوادث قصف وقتل من العدو الصهيوني وكان أشجع الرجال وأسرعهم للإنقاذ وللرد هم أهل التطبير ومشاركيهم . بينما مثلي ممن لا يستطيع النظر إلى المتطبرين لا أستطيع نفسيا النظر إلى الأجسام المقطعة والبيوت المهدمة على أهلها . ولهذا عرفت أن لا مفر في هذه الزمن الصعب المليء بالشرور أن أنظر للمتطبرين بعد أن كنت لا أستطيع النظر وقد أمرت أولادي أن يأمروا أنفسهم وأولادهم بمشاهدة التطبير بل المشاركة إن رغبوا . لأجل أن يبنوا عقولا قادرة على المقاومة ويزول منهم الخوف ويسارعون في إنقاذ المحتاجين بسخاء نفس وقوة قلب.
وتعسا للذين يريدون للإنسانية الموت وينشرون الرعب والدمار على الآمنين.
ورغم أنوف السلفية (وليدة الشبهات والتكفير وحب المجازر والجرائم.) يجب أن ننظر إلى المتطبيرين لتقوى قلوبنا ونصنع من نفوسنا مقاومة حقيقية للباطل . ونصنع من مجتمعنا مجتمعا لا يهاب الموت ولا يخشى من مجازر الوحوش. وله ممانعة الأبطال في رفض ما لا يقتنعون به. حتى لو كنا غير مقتنعين بالتطبير.