تُعدّ مسألة تمحيص الناس واختبارهم في زمان الإمام المهدي عليه السلام مسألة متواترة عن الإمام الصادق عليه السلام، فقد رواها عنه أبان بن تغلب، وأبو بصير، والربيع بن محمد المسلّي، وزرارة، وسدير الصيرفي، وعبد الله بن الفضل الهاشمي، وعبد الله بن يعفور، وعبد الرحمن بن سيابة، وفرات بن الاحنف، والمفضل بن عمر، ومهزم بن أبي بردة الأسدي، وأخرجها محدّثو الشيعة، عن هؤلاء، عن الإمام عليه السلام من طرق شتى فيما تتبعناه. وسنكتفي ببعض منها، كالآتي:
- عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: (مع القائم عليه السلام من العرب شيء يسير، فقيل له: إنّ من يصف هذا الأمر منهم لكثير! قال عليه السلام: لابد للناس من أنْ يمحّصوا، ويميّزوا، ويغربلوا، وسيخرج من الغربال خلق كثير).
والذي قال للإمام علي عليه السلام ذلك هو عبدالله بن يعفور كما هو صريح روايات اخرى.
- وعن عبد الرحمن بن سيابة، عن أبي عبدالله عليه السلام، قال: (كيف أنتم إذا بقيتم بلا إمام هدى ولا علم (يُرى) يتبرأ بعضكم من بعض، فعند ذلك تميّزون وتمحّصون وتغربلون).
- وعن مهزم بن أبي بردة الأسلمي، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: (والله لتكسّرنّ تكسّر الزجاج وإنّ الزجاج ليعود فيعاد، والله لتكسّرنّ تكسّر الفخار فإنّ الفخار ليتكسر فلا يعود كما كان، والله لتغربلنّ، والله لتميزنّ، والله لتمحصنّ، حتى لا يبقى منكم الاّ الأقل، وصعّر كفّه).
- وأخرج الشيخ الطوسي عن الربيع بن محمد المسلّي، عن الإمام الصادق عليه السلام؛ نحوه.
وعن المفضل بن عمر، عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (أما والله ليغيبنّ إمامكم سنين من دهركم، ولتمحصنّ حتى يقال: مات أو هلك باي وادٍ سلك...).
فلسفة التمحيص والاختبار:
تكشف الأحاديث الأربعة المتقدمة وغيرها من الأحاديث الأخرى الواردة في موضوعها عن التخطيط الإلهي المقتضي لامتحان المسلمين واختبارهم في غيبة إمام الزمان عليه السلام، لانّ الغيبة لاسيما اذا كانت طويلة وزائدة على عمر الانسان الطبيعي بعشرات المرات، ستورث الشك في النفوس الضعيفة في بقاء صاحب الغيبة حياً طوال تلك الفترةـ، وقد يؤوّل هذا الشك الى الطعن باستمرار وجوده الشريف!
والمراد بالتمحيص: التنقية بأخذ الشيء الجيد وإبعاد الشيء الرديء.
وبالتمييز: التفرقة بين شيئين بموجب خصائص معيّنة، والمراد هنا معرفة الناس على حقيقتها بالاختبار.
وبالغربلة: نخل الشيء بالغربال.
وفي حديث الإمام الباقر عليه السلام: (والله لتميّزنّ، والله لتمحصنّ، والله لتغربلنّ كما يغربل الزوان من القمح).
والزوان: حبوب صغيرة تخلط بالحنطة وتكون على شكلها ولكنّها ليست منها، فانظر الى دقة التمثيل وروعته، فكما يخرج الزوان عن القمح بالغربال فكذلك يخرج ضعفاء الايمان بقانون التمحيص، وغربالهم ليس الاّ الظروف الصعبة التي يمر بها الانسان في حياته، وما تحيط بتلك الحياة من مصالح ضيّقة وشهوات ومغريات.
وقول الإمام الصادق عليه السلام: (وسيخرج من الغربال خلق كثير) ليس اعتباطا اذن، وانّما هو يحكي عن حقيقة ثابتة نطق بها القرآن الكريم بذم الكثرة ومدح القلة في كثير من الآيات البينات: (وَ كَثيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَليلٌ).
وكل هذا يشير إلى انّ أكثر البشر يتبعون الباطل، وينحرفون مع الشهوات، ويندفعون تجاه مصالحهم، حتى ليكونوا عوناً للظالمين، ويداً لهم، وفي مقابل هذا تبقى في نتيجة الامتحان والتمييز والتمحيص الطويل ثلة لا يضرها من ناوأها حتى يقاتل آخرها الدجال؛ لأنهم يمثلون الحق صرفاً الذي لاباطل معه أصلاً.
ونظرة واحدة الى القرآن الكريم تكشف أنّ قانون التمحيص الإلهي لم يختص بفئة أو أمّة من الناس، بل هو قانون عام للبشرية في جميع مراحل تاريخها، ويدلنا على ذلك:
قوله تعالى: (ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَميزَ الْخَبيثَ مِنَ الطَّيِّبِ).
وقوله تعالى: (لِيَميزَ اللَّهُ الْخَبيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ الْخَبيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَميعاً فَيَجْعَلَهُ في جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ).
وقوله تعالى: (وَ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرينَ*أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرينَ).
ومن غير شك انّ قانون التمحيص لابد وأنْ يكون أشد وآكد إذا ما اقترن أمره بإعداد النخبة الصالحة التي ينبغي أنْ تعيش الاستعداد الكامل لنصرة الحق وأهله، من خلال انتظارها لدولة الحق المرتقبة على يد المنقذ العظيم الإمام المهدي عليه السلام.
لقد أراد الله عزوجل أنْ يكون التمحيص في الغيبة الكبرى لإمام العصر والزمان عظيماً؛ ليتضح من خلاله ما اذا كانت تصرفات الانسان واقواله منسجمة مع الدين أو لا. ولا شك أنّ من يعبر الاختبار الصعب سوف لن يهمل وظيفته الاجتماعية الكبرى: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باعتبارهما من أبرز وظائف عصر الانتظار المتقوّم بالايمان، والتضحية، والصمود.
ولا يخفى انّ الغرض من أحاديث التمحيص والاختبار كلها انّما هو من يصب في خدمة اجيال الغيبة؛ لكي ينتبهوا من غفلتهم ويلحظوا ما ينبغي ملاحظته من أمور مثل:
- عدم الاغترار بلمع السراب من كلام المشعوذين الكاذبين.
- ومعرفة مكائد السفهاء وأعداء الحق، من الذين في قلوبهم مرض والمفتونين.
- والتعوّذ من زخارف ابليس واشياعه في كل زمان ومكان.
- والتمسّك بالثقلين: كتاب الله والعترة الطاهرة عليهم السلام.
- وعدم استطالة المدة في غيبة المولى عليه السلام؛ لانّ الظهور الشريف آتٍ لا محالة، ومثله مثل الساعة: (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا تَأْتيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً).
- والتدرّع بالصبر على انتظار الحبيب صاحب الطلعة الرشيدة والعترة الحميدة.
- وارتقابه ببصيرة لاحيرة فيها، ويقين لا شك معه.
- والاعتقاد الجازم بانّ الله تعالى سيصلح له أمره في ليلة واحدة وحينئذ سيقبل كالشهاب الثاقب.