عزّ وجل: "إن الحسود يشيح بوجهه عمّا قسمته بين العباد، وهو ساخط
على نعمي". إن القلب يخضع بالفطرة للقسمة العادلة، وينفر بالفطرة كذلك
من العسف والجور. إن الفطرة الإلهية الكامنة في أعماق البشر حب العدل
والرضى به، وكراهة الظلم وعدم ا لانقياد له. فإذا رأى خلاف ذلك فليعلم أن
في المقدمات نقصاً. فإذا سخط على النعمة وأعرض عن القسمة، فذلك لأنه لا
يرى ذلك عدلاً، بل يراه - والعياذ باللّه - جوراً. وليس معناه أنه يرى القسمة
عادلة ثم يعرض عنها، أو أنه يرى الخطة المرسومة مطابقة للنظام الأتم
والمصلحة التامة، ثم يسخط عليها بل يرى أن هذا جور ومغاير للعدل. أسفاً
علينا! إن إيماننا ناقص، ولم تخرج أدلتنا العقلية من نطاق العقل لتصل إلى
حدود القلب. ليس الإيمان بالقول [140] والسماع والمطالعة والمباحثة
والنقاش فحسب وإنما يتطلب أيضاً خلوص النية. إن الباحث عن اللّه يجده لا
محالة، والذي يطلب المعارف يبحث عنها، {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي
الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً}(الإسراء72). {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا
لَهُ مِنْ نُورٍ} (النور40). فصـل في بيان المعالجة العملية لحسـد يوجد
فضلاً عن العلاج العلمي الذي ذكرنا بعضه، العلاج العملي لهذه الرذيلة، وذلك
بأن تتكلف إظهار المحبة للمحسود وترتب الأمور بحيث يكون هدفك هو
معالجة مرضك الباطني. إن نفسك تدعوك لإيذائه واعتباره عدواً، وتكشف لك
عن مساوئه ومفاسده. ولكن عليك أن تعمل خلافاً لما تريده النفس، وأن
تترحم عليه وتحترمه وتجلّه. وأحمل لسانك على أن يذكر محاسنه، وأعرض
أعماله الصالحة على نفسك وعلى الآخرين، وتذكّر صفاته الجميلة. صحيح أن
هذا سوف يكون متكلفاً في بادئ الأمر ومن باب المجاز دون الحقيقة ولكن لما
أن الهدف هو إصلاح النفس وإزالة هذه المنقصة والرذيلة، فإن نفسك سوف
تقترب في النهاية من الحقيقة، ويخف تكلفك شيئاً فشيئاً، وترجع نفسك إلى
حالها الطبيعي وتصبح ذات واقعية. قل لنفسك، على الأقل: إن هذا الإنسان
عبد من عباد اللّه، ولعل اللّه نظر إليه نظرة لطف فأنعم عليه بما أنعم، خصّه د
ون غيره بها، خصوصاً إذا كان المحسود من رجال العلم والدين، وأنه
محسـود على ذلك، فإن مثل هذا الحسد يكون أقــبح، ومعاداة أمثال هؤلاء
أسوأ عاقبة. ولا بُــدَّ من تفهيم النفس بأن هؤلاء هم من عباد اللّه
المُـخْـلَـصِين الذين شملهم توفيق منه، ووهبهم هذه النعم العظيمة. وهي نعم
يجب أن تبعث في القلوب المحبة لهم واحترامهم والخضوع لهم. فإذا رأى أن
هذه الأمور التي يجب أن تكون دافعاً على المحبة والاحترام توجب نقيض ذلك
فعليه أن يعلم أن الشقاء قد اكتنفه من كل جانب، وأن الظلام قد أحاط
[141] بباطنه، فلا بُــدَّ أن يبادر إلى إصلاح نفسه بالطرق العلمية
والعملية. وليعلم أنه إذا اتخذ طريق المحبة فإنه سرعان ما يكون موفقا، لأن نور
المحبة قاهر للظلمة ومزيل للكدر، ولقد وعد اللّه تعالى المجاهدين أن يهديهم
وأن يعينهم بلطفه الخفي ويوفقهم. إنّه وليّ التوفيق والهداية. فصـل في ذكـر
حــيـث الــرفـع اعلم أن ه ورد في بعض الأحاديث الشريفة ما
مضمونه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم قال: إن اللّه رفع عن أمتي
تسع... ومنها الحسد إذا لم يظهر من خلال يده أو لسانه. ومن المعلوم أنه يجب
أن لا تَــحُولَ أمثال هذا الحديث الشريف دون المساعي الجادة لقلع هذه
الشجرة الخبيثة من النفس، ولا تمنع المحاولات المبذولة في سبيل تطهير الروح من
هذه النار التي تحرق الإيمان، ومن هذه الآفة التي تقضي عليه، لأنه يندر أن
تدخل هذه الرذيلة المفسدة إلى نفس إنسان ولا تتوالد فيها المفاسد المختلفة، ثم
لا يظهر أثرها أبدا، ويحافظ على إيمان الإنسان. مع أنه قد ورد في الأحاديث
الصحيحة أن هذه الصفة تأكل الإيمان، وإنها آفة الإيمان، وأن اللّه تعالى بريء
من صاحبها، وإنه مطرود من حضرته، فيجب أن لا يغفل الإنسان عن مثل هذا
الأمر الخطير والفساد الكبير الذي يهدد كل وجوده وطاقاته، م تمسكاً
بالتفسير الظاهري لهذا الحديث الشريف. عليك إذاً، أن تقــوم جاهـداً،
بتقليـم فروع الحسد، والسعي لإصلاح النفس، ولا تدع شيئاً منه يترشح إلى
الخارج، وعندئذٍ تضعف جذوره، ويقف نموه. وإذا وافتك المنية وأنت ماضٍ في
سبيل الإصلاح والترويض للنفس، فإن رحمة اللّه سوف تشملك، ولسوف
ينالك العفو برحمة اللّه الواسعة وببركة الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه وآله
وسلم، وإذا بقيت منه باقية فإن بوارق الرحمة الإلهية سوف تحرقها وتطهّر
النفس وتزكّيها. أما ما جاء في رواية حمزة بن حمران، عن أبي عبداللّه عليه
السلام أنه [142] قال: "ثَلاثَـــةٌ لَمْ يَـنْجُ مِنْها نَبِيٌّ فَمَنْ دُونَهُ فِي
الوَسْوَسَةِ فِي الْـخَلْـقِ والطِّيرَةُ والحَـسَدُ إِلاّ أنَّ المُؤْمِنَ لا يَسْتَعْمِلُ
حَـسَدَهُ"( وسائل الشيعة، المجلد 11، أبواب جهاد النفس، باب تحريم الحسد،
ح 8 ) فإنه إما يكون من باب المالغة الدالة على كثرة الابتلاء بها، وإما أن
يكون التعبير كناية عن كثرة الابتلاء دون أن يكون القصد هو مضمون الكلام
بذاته، وإما أنه اعتبر الحسد أعم من الغبطة، من باب المجاز، وإما أنه يقصد
بالحسد تمنّي زوال بعض النعم المستعملة لدى الكفار في ترويج مذهبهم الباطل.
وإلا فإن الأنبياء والأولياء مطّهرون من الحسد بمعناه الحقيقي. إن القلب الملوث
بالمساوئ الأخلاقية والقذارات الباطنية لا يمكن أن يهبط عليه الوحي والإلهام،
ولا يكون موطن التجليات الذاتية والصفاتية. إذاً، لا بُــدَّ أن يفسر هذا
الحديث بحسب ما ذكر، أو بشكل آخر، أو يرد علمه إلى قائلة صلوات اللّه
عليه. والحمد لله أولاً وآخراً. [143] الحَـــــديث
السَــــادِس "من أصبح وأمسى والدنيا أو الآخِرة أكـبر همـّه"
[144] بالسند المتَّصل إلى محمّد بن يعقوب عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن
محمّد، عن ابن محبوب، عن عبدالله بن س نان وعبدالعزيز العبدي، عن
عبدالله بن أبي يعفور، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: "مَنْ أَصْبَــحَ
وأَمْسى وَالدُّنْـــيَا أَكْبَرُ هَمَّه، جَعَــلَ اللَّــهُ الفَقْـــرَ بَيْنَ
عَيــنَــيْــهِ وَشَتَّــتَ أَمْــرَهُ وَلَــمْ يَنَــلْ مِنَ الدُّنْــيَا
إلاّ مَـــا قُسِمَ لَــهُ وَمَنْ أَصْبَحَ وَأمْــسَى وَالآخِـرَةُ أَكْبَــرُ
هَمَّــه، جَعَــلَ اللَّــهُ الغِنَى فِي قَلْبِــهِ وَجَمَــعَ لَهُ أَمْــرَهُ"(
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب حب الدنيا، ح 15 ).
[145] الشرح: اعلمِ أن للدنيا والآخرة اطلاقات حسب آراء أرباب العلوم
ولدى مقاييس معارفهم وعلومهم ولا يكون البحث عن حقيقتها على ضوء
المصطلحات العلمية بمهمة لدينا، فإن بذل الجهد في فهم الاصطلاحات والرد
والقبول والجرح والتعديل يحول دون بلوغ القصد. وإنما المهم في هذا الباب
هم فهم الدنياالمذمومة التي على طالب الآخرة أن يتحرز منها. وما يعين
الإنسان على النجاة، وسوف نبين ذلك إنشاء الله في بضعة فصول، ونسأل
الـلّه تعالى التوفيق في سلوك هذا الطريق. فصل في بيان كلام مولانا المجلسي -
رحمة اللّه عليه - في حقيقة الدنيا المذمومة يقول المحقق الخبير والمحدث المنقطع
النظير مولانا المجلسي رحمة اللّه عليه: ( فاعلم أن الذي يظهر من مجموع
الآيات والأخبار على ما نفهمه أن الدنيا المذمومة مركبة من مجموع أمور تمنع
الإنسان من طاعة الـلّه وحبه وتحصيل الآخرة، فالدنيا والآخرة، ضرّتان
متقابلتان فكلما يوجب رضى الله سبحانه وقربه فهو من الآخرة، وإن كان
بحسب الظاهر من أعمال الدنيا كالتجارات والصناعات والزراعات التي يكون
المقصود منها تحصيل المعيشة للعيال لأمره تعالى به وصرفها [146] في وجوه
البر، وإعانة المحتاجين، والصدقات، وصون الوجه عن السؤال وأمثال ذلك،
فإن هذه كل ها من أعمال الآخرة وإن كان عامة الخلق يعدونها من الدنيا.
والرياضات المبتدعة والأعمال الريائية، وإن كان مع الترهب وأنواع المشقة فإنها
من الدنيا لأنها مما يبعد عن الله ولا يوجب القرب إليه كأعمال الكفار
والمخالفين ) انتهى كلامه ( بحار الأنوار، المجلد 73، باب حب الدنيا، ص 63
). ونقل المجلسي - رحمه اللّه - عن أحد المحققين: "دنياك وآخرتك عبارة
عن حالتين من أحوال قلبك، والقريب الداني منهما يسمى الدنيا وهي كل ما
قبل الموت، والمتراخي المتأخر يسمى آخرة، وهي ما بعد الموت. فكل مالك فيه
حظ وغرض ونصيب وشهوة ولذ ة في عاجل قبل الوفاة، فهي الدنيا في
حقك..."( بحار الأنوار، المجلد 73، باب حب الدنيا، ص 25 ). يقول الفقير
إلى الله: إن الدنيا مرة تطلق على نشأة الوجود النازلة والتي هي دار تصرّم
وتغيّر ومجاز، والآخرة تطلق على الرجوع من هذه النشأة إلى ملكوت الإنسان
وباطنه والتي ه دار بقاء وخلود وقرار. وهاتان النشأتان متحققتان لكل نفس
من النفوس وشخص من الأشخاص. وعلى العموم، لكل كائن مقام ظهور
وملك وشهود. وتلك هي مرتبته النازلة الدنيوية. ومقام باطني، وملكوت
غيبي، وهي النشأة الصاعدة الأخروية. وهذه النشأة النازلة الدنيوية وإن كانت
ناقصة بذاتها وإنها آخر مراتب الوجود، ولكن لما كانت مهد تربية النفوس
القدسية، ودار تحصيل المقامات العالية، ومزرعة الآخرة، فإنها من أحسن
مشاهد الوجود وأعز النشآت، وهي المغنم الأفضل عند الأولياء وأهل سلوك
الآخرة. ولولا هذه الأمور الملكيّة والتغييرات والحركات الجوهرية، الطبيعية
والإرادية، ولولا أن يسلط الـلّه تعالى على هذه النشأة التبدّلات والتصرّمات،
لما وصل أحد من ذوي النفوس الناقصة إلى حد كماله الموعود ودار قراره
وثباته، ولحصل النقص الكلي في الملك والملكوت. [147] إن ما ورد في
القرآن والأحاديث عن ذم هذه الد نيا، لا يكون عائدا في الحقيقة إلى الدنيا من
حيث نوعها أو كثرتها، بل يعود إلى التوجه نحوها وانشداد القلب بها ومحبتها.
وعليه، يتبين من ذ لك أن أمام الإنسان دنياءان: دنيا ممدوحة ودنيا مذمومة.
فالممدوح هو الحصول في هذه النشأة وهي دار التربية ودار التحصيل ومحل
التجارة لنيل المقامات واكتساب الكمالات والإعداد لحياة أبدية سعيدة، مما لا
يمكن الحصول عليه دون الدخول إلى هذه الدنيا، كما جاء في خطبة لمولى
الموحدين أمير المؤمنين علي عليه السلام ردا على من ذم الدنيا: "... إنّ الدُّنْيَا
دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَها، وَدَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا، وَدَارُ غِنىً لِمَنْ تَزَوَّدَ
مِنْهَا، وَدَارُ مَوْعِظَةٍ لِمَنْ اتّعـَظَ بِهَا. مَسْجِدُ أحِبّاءِ اللّهِ، وَمُصَلّى مَلائِكَةِ اللَّهِ،
وَمَهْبـَطُ وَحْي اللَّهِ، وَمَتْجَرُ أوْلِيَاءِ اللَّهِ. اكْتَسَبُوا فِهَا الَّحْمَةَ، وَرَبَحُوا فِيهَا
الجَنَّةَ ..."( نهج البلاغة، الحكمة رقم 131 ( الشيخ صبحي الصالح ) ) وقال
تعالى:{... وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ}(النحل30). وهي دار الدنيا حسب ما ورد في
تفسير العيّاشي عن الإمام الباقر عليه السلام. وعليه، فإن عالم الملك، وهو
مظهر الجمال والجلال وحضرة الشهادة المطلقة، ليس مذموماً بهذا المعنى، بل
المذموم هو دنيا الإنسان نفسه، أي التوجه إليها والتعلق بها وحبها، وهذا هو
منشأ كلّ المفاسد والخطايا القلبية والظاهرية. كما جاء في كتاب الكافي
الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام: قال عليه السلام: "رَأْسُ كُلّ خَطِيئَةٍ
حُبُّ الدُّنْيَا"( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب حب
الدنيا، ح1 و 3 ). وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: "مَا ذِئْـــبَانِ
ضَارِيَان فِي غَنَمٍ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ هذا في أَوَّلِهَا وَهذا في آخِرِ هَا بِأَسْــرَعَ
فِيهَا مِنْ حُبِّ الـــمَالِ وَالشَّــرَفِ فِي دينِ المُــؤْمِنِ"( نهج البلاغة
- الخطبة 5 - ( الشيخ صبحي الصالح ). فتعلق القلب بالدنيا وحبها، هو
الدنيا المذمومة. وكلما كان التعلق بها أشد كان الحجاب بين الإنسان ودار
الكرامة، والحاجز بين القلب والحق سبحانه، [148] أسمك وأغلظ. وإن ما
جاء في الأحاديث الشريفة من أن لله سبعين ألف حجاب من النور والظلمة،
يمكن أن يكون المقصود من حجب الظلمة هذه الميول والتعلقات القلبية نحو
الدنيا. فكلما كان التعلق بالدنيا أقوى، كان عدد الحجب أكثر، وكلما كان
الحب لها أشد، كان الحجب أغلظ واختراقها أصعب. فصل في بيان سبب
ازدياد حب الدنيا اعلم أنه ولما كان الإنسان وليد هذه الدنيا الطبيعية، وهي
أمه، وهو ابن هذا الماء والتراب، فإن حب الدنيا يكون مغروساً في قلبه منذ
مطلع نشوئه ونموه، وكلما كبر في العمر، كبر هذا الحب في قبه ونما. وبما وهبه
الـلّه من القوى الشهوانية ووسائل التلذذ للحفاظ على ذاته وعلى البشرية،
يزداد حبه ويقوى تعلقه، ويظن أنّ الدنيا إنّما هي دار اللذات وإشباع الرغبات،
ويرى في الموت قاطعاً لتلك ا للذات، وحتى لو كان يعرف من أدلة الحكماء
أو أخبار الأنبياء صلوات اللّه عليهم أن هناك عالماً أخروياً فإن قلبه يبقى غافلاً
عن كيفية عالم الآخرة وحالاته وكمالاته ولا يتقبله، فضلاً عن بلوغه مقام
الاطمئنان. ولهذا يزداد حبّه وتعلقه بهذه الدنيا. وبما أن حب البقاء فِطري في
الإنسان، فهو يكره الزوال والفناء، ويظن أن الموت، فناء. ولو أنه آمن بعقله
بأن هذه الدنيا دار فناء ودار ممر، وأن العالم الآخر عالم بقاء سرمدي، فما دام
إيمانه العقلي هذا يكون موجوداً، ولم يدخل الإيمان قلب، بل ولم يحصل
الاطمئنان الذي هو المرتبة الكاملة للإيمان القلبي. فهو لا يزال يميل فطرةً، إلى
الدنيا والبقا ء فيها كما طلب إبراهيم خليل الرحمن من الحق المتعال هذا
الاطمئنان، فأنعم به عليه. إذاً، إما أن القلوب لا تؤمن بالآخرة، مثل قلوبنا،
وإن كنا نصدق بها تصديقاً عقلياً، وإما أنها لا اطمئنان فيها، فيكون حب
البقاء في هذا العالم، وكراهة الموت والخروج من هذا العالم في القلب موجوداً.
ولو أدركت القلوب أن هذه الدنيا هي أدنى العوالم، وأنها دار الفناء والزوال
والتصرم والتغيّر، وأنها دار الهلاك ودار النقص، وأن العوالم الأخرى التي تكون
بعد الموت عوالم باقية وأبدية، وأنها دار كمال وثبات وحياة وبهجة وسرور،
لحصل فيها بالفطرة حب تلك العوالم، ولنفرت من هذه الدنيا. ولو ارتفع
الإنسان عن هذا [149] العالم ووصل إلى مقام الشهادة والوجدان ورأى
الصورة الباطنية لهذا العالم وللتعلق به، والصورة الباطنية لذلك العالم - عالم
الآخرة - والتعلق به، لأصبح هذا العالم ثقيلاً عليه، وغصّة في حلقه ولنفر منه،
واشتاق للتخلص من هذا السجن المظلم ومن سلسلة قيود الزمان والتغير. كما
جاء في كثير من كلام الأولياء. يقول الإمام علي عليه السلام: "وَاللَّهِ لابْنُ
أَبِي طَالِبٍ آنـَسُ بِالمَوْتِ مِنَ الطِّفـْلِ بِثَـدْيِ أُمِّهِ"( نهج البلاغة - الخطبة
5 - ( الشيخ صبحي الصالح ). ذلك لأنه رأى بعين الولاية حقيقة هذه الدنيا،
فلا يؤثر على مجاورة رحمة الحق المتعال شيءٌ أبداً. ولولا المصالح لما ثبتت
نفوسهم الطاهرة، لحظة واحدة في سجن الطبيعة المظلمة. إن الوقوع في الكثرة،
ونشأة الظهور والاشتغال بالتدبرات المُلكية بل التأييدات الملكوتية، يعدّ كل
ذلك للمحبين والمنجذبين، ألم وعذاب ليس بقدورنا أن نتصورهما. إن أكثر
أنين الأولياء إنما هو ألم فراق المحبوب والبعد عن كرامته، كما أشاروا إلى ذلك
بأنفسهم في مناجاتهم، على الرغم من أنهم لا يحجبهم حجاب مُلكي أو
ملكوتي، وقد اجتازوا ج حيم الطبيعة الذي كان خامداً غير مستعر، وقد خلوا
من التعلق بالدنيا وتطهرت قلوبهم من الخطيئة الطبيعية. إلاّ أن الوقوع في عالم
الطبيعة هو بذاته تلذذ طبيعي وقسري، مما كان يحصل لهم، ولو بأقل مقدار،
فكان ذلك من باب الحجاب. وفي ذلك ي قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وآله وسلم: "لَيُرَانُ عـَلَى قَلْبِي وإنّي لأَسْــتَغفِرُ اللّه فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعينَ
مَرَّةً"(نهاية ابن أثير، ص 180، ج 3. الجامع الصغير، ج 1 ص 103.
صحيح مسلم، ج 8 ص 72 ). ولعل خطيئة آدم أبي البشر نجمت عن هذا
التوجه القسري نحو تدبير المُلِك والحاجة الاضطرارية إلى القمح وسائر الأمور
الطبيعية، وهذه خطيئة بالنسبة إلى أولياء الـلّه والمنجذبين إليه. ولو بقى آدم
عليه السلام في ذلك الانجذاب الإلهي، ولم ي دخل في قضية المُلك، لما حدث
كل هذا الشقاء والعناء في الدنيا والآخرة. [150] فصل في بيان تأثير
الحظوظالدنيوية في القلب ومفاسده اعلم أن ما تناله النفس من حظ في هذه
الدنيا، يترك أثراً في القلب، وهو من تأثير الملك والطبيعة، وهو السبب في تعلقه
بالدنيا. وكلّما ازداد التلذذ بالدنيا، اشتد تأثر القلب وتعلقه بها وحبه لها، إلى
أن يتجه القلب كـُلّياً نحو الدنيا وزخارفها، وهذا يبعث على الكثير من
المفاسد. إن جميع خطايا الإنسان وابتلاءه بالمعاصي والسيئات سببها هذا الحب
للدنيا والتعلق بها كما ورد في الحديث الذي أوردناه من كتاب أصول الكافي
قبل قليل. وإن من المفاسد الكبيرة لحب الدنيا - كما كان يقول شيخنا
العارف (روحي فداه)- هو أنه إذا انطبع حب الدنيا على صفحة قلب
الإنسان، واشتد الأنس بها، انكشف له عند الموت أن الحق المتعال يفصل بينه
وبين محبوبه، ويفرّق بينه وبين مطلوبه، فيغادر الدنيا ساخطاً مغتاظاً على ولي
نعمته. إن هذا القول القاصم للظهر يجب أن يوقظ الإنسان أيّما إي قاظ
للحفاظ على قلبه. فالعياذ باللّه من إنسان يسخط على ولي نعمته، مالك الملوك
الحق، إذ ليس أحد يعرف صورة هذا السخط والعداء، غير اللّه تعالى. ويقول
أيضاً شيخنا المعظم - دام ظله - نقلاً عن أبيه المعظم، إنه كان في أواخر
عمره خائفاً بسبب المحبة التي كان يكنّها لأحد أولاده، ولكنه بعد الانهماك