إنَّهُ عبدُ مَنافٍ بنُ عبدِالمطلّبِ، أمّهُ فاطمةُ بنتُ عمروٍ من بني مخزومٍ، وكُنيتهُ أبوطالب، وبها اشتُهِر.
أما ألقابُه، فأشهرُها: شيخُ البطحاء، وشيخُ الأباطح، ومؤمنُ قريش.
كان أبوهُ عبدُالمطلّبِ زعيمَ قريشٍ و سيّدها، على ملّةِ إبراهيمَ حنيفاً، قد تَميّز بمكارمِ الأخلاقِ، فسنَّ لمن بعَدَه السُّنَنَ الحِسانَ، وكريمَ العاداتِ، فأقرَّها الإسلامُ، وأكَّد عليها.
وكثيراً ما كان عبدُالمطلبِ يقولُ: « إنَّ من صُلبي لَنَبِيّاً، لَوَدِدْتُ أني أدركتُ ذلك الزّمان فآمنتُ بهِ، فمَن أدركَهُ مِنْ وُلدي فليؤمِنْ به ».
وكانَ يختلي بولدِه أبي طالب يُناجيه، ويُحدّثهُ عمَّا سيكونُ لمحمّدٍ صلّى الله عليه وآله، هذا اليتيمِ الصغيرِ، من شأنٍ كبيرٍ، ويوصيه به قائلاً:
ـ « يا أبا طالب، إن لهذا الغُلامِ لَشأناً عظيماً،.. انصُرْه بيدِك ولسانِك ومالِك ».
ولمّا ماتَ رضوانُ الله عليه كَانَ عُمْرُ محمّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم ثماني سنوات.
* * *
وتمتزجُ مُذ ذاك حياةُ أبي طالبٍ بحياةِ محمّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم امتزاجاً عجيباً!..
ويُكرِّسُ أبوطالبٍ كاملَ حياتِه لهذا الغلامِ اليتيمِ، فيضمُّه إليه ولداً من أولادِه، أثيراً مُفَضَّلاً..
بل كان يُقدّمُه عليهم جميعاً، فلمحمّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم في نفس أبي طالبٍ مكانٌ خاصٌ فإذا غابَ افتقدَه، وإذا حَضرَ تَودَّدَ إليه مُترفّقاً، وإذا سألَه أجابَهُ، وإذا حَضرَ الطعامَ ولم يَجِدْه بين أولادِه يرفعُ يدَه قائلاً لهم:
ـ « كما أنتم، حتّى يأتيَ ابني ! ».
ويأتي محمدٌ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فيناولُه قَعْبَ اللبن (وعاء كالطّاس)، فيشربُ منه محمّدٌ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويَمرّ القَعبُ الواحدُ على أولادِ أبي طالبٍ كلِّهِم، فيشربون منه الواحدَ تِلوَ الآخَرِ، ويَرتوون!.. وكان الواحدُ منهم يشربُ القَعْبَ وحْدَه!..
وكانت يدُ محمدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم أولَ يدٍ تمتدُّ للطعامِ، فيكفيهم جميعاً على قلَّتِه..
وتُشرقُ أَساريرُ أبي طالبٍ عن ابتسامةِ رضىً وفرحٍ بهذا الغلامِ الذي تُواكبُه بركةُ السماءِ، ويقولُ له: « إنّك لَمباركٌ يا محمّد! ».
وبِحكمِ صُحبةِ أبي طالبٍ محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم في معظم أوقاتِه،
و بحكم إشرافِه على شؤونِه كلِّها، والقيامِ بكفالتِه خيرَ قيامٍ،.. فقد مرَّتْ أمام عينَي «شيخ البطحاءِ» معجزاتٌ عديدةٌ بطلُها هذا الغلامُ الصغيرُ الذي يتلألأُ وجهُه نوراً.
واِنْ نَسِيَ أبوطالبٍ فلن ينسى أربعةَ مَشاهد، ما زالتْ عالِقةً بذهنِه، فهي تلوحُ أبداً أمامَ ناظرَيه:
• المشهدُ الأولُ
كان العائفُ (هو الذي يَتكهَّنُ) إذا قَدِمَ مكّةَ أتاهُ رجالُها بأولادِهم، وكان منهم أبوطالبٍ ومعه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم. ويُقدِّمُه أبوطالبٍ إليه، فَيَتأمّلُه مَليّاً، ولا يلبثُ أن ترتسمَ على وجههِ ذي التجاعيدِ علاماتُ دَهشةٍ واستغراب، ثم يَشغَلُه شاغِل. فيتناولُ أبوطالبٍ محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم من أمامِه وقد أوجسَ مِن العائفِ خِيفةً.
ويبتعدُ أبوطالبٍ بابنِ أخيه عنِ الناسِ، دونَ أن يلتَفِتَ لذلك أحد.
وبينما هوَ كذلك، وإذا بصُراخِ العائفِ:
ـ « الغُلام! .. عَلَيَّ به، ويْحَكُم رُدّوا عليَّ الغلامَ الذي رأيتُ آنِفاً، فواللهِ لَيكونَنَّ له شأنٌ! ».
أبوطالبٍ وحدَه أدركَ ما يعني العائفُ بِصُرَاخِه.
• المشهد الثاني
اصطحبَ أبوطالبٍ يوماً ابنَ أخيه محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم في سوقِ «ذي المَجازِ»، وهو مكانٌ يَبعُدُ عن عَرَفةَ بمقدارِ فَرسخٍ. وظمئَ أبوطالبٍ ظمأً شديداً.
ومن أينَ له بالماءِ في هذا المكانِ القَفْر؟
قال أبوطالبٍ: « فشَكَوتُ إلى محمدٍ ولا أرى عندَه شيئاً، فَثَنَى وِرْكَهُ، ثم أهوى بِعَقِبِهِ إلى الأرضِ، فإذا بالماءِ! ».
فقالَ: « اشرَبْ يا عمّ! ».
فشربتُ. وكم كانت دهشةُ أبي طالبٍ عندئذٍ عظيمةً!..
• المشهد الثالث
كان أبوطالبٍ يستعدُّ للقيامِ برحلةٍ إلى الشامِ للتجارةِ. وَيَصطَحِب معَه محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم. وراحَ الرَّكبُ يقطعُ الصحارى ويجتازُ القِفَارَ، حتّى بلغَ « بُصْرى » من أرضِ الشام.
فنزلَ قُربَ دَيرٍ يستريحُ.
ويُطِلُّ « بُحَيْرا » راهِبُ الدَّيرِ العجوزُ على الركبِ القادم، ويمتَدُّ بَصرُه إلى السماء، وإذا بغمامةٍ رقيقةٍ تسيرُ فوقَ الركب أنّى سارَ وتَتْبَعُهم كالظلِّ يتبعُ صاحبَه. وكأنّها تقي هؤلاءِ التجارَ لفحَ الهجير ( أي: شدّة حَرّ الصحراء ).
وها هي ذي الغمامةُ تتوقَّف فوق الركبِ الذي توقّفَ قربَ الدَّيرِ ليستريح.
ويُحدِّثُ الراهبُ نفسَه: إنَّ في الأمرِ لَسرّاً! إنّه لَعجيبٌ حقّاً أمرُ هذا الركب! لاشكَّ في أنَّ لأحدِهم كرامةً عندَ الله فأرسلَ غَمامةً تُظِلّلُه.
وكلمعةِ بَرقٍ.. تلتمعُ في ذهنِ الراهبِ بُشرى المسيحِ عليه السّلام بنبيٍّ يظهرُ في آخرالزّمانِ. تُرى، أيكونُ بينَهم النبيُّ الموعود ؟!
وينزلُ الراهبُ من صَومعتِه مُرحِّباً بالركبِ مُسلِّماً عليهم، ثُمَّ يدعوهم إلى الطعامِ ـ و ما كانَ من عادتِه أن يفعلَ ذلك.
ويتفرَّسُ الراهبُ ( أي: يتأملُ بدقّةٍ ) في وجوهِ مَدْعُوِّيه، وكأنَّه يبحثُ عنْ شيء. ثمّ يقولُ لهم: هل تخلَّفَ منكم أحدٌ ؟
فيُجيبونَ: لا! .. إلاّ غلامٌ ترَكناهُ عند رِحالِنا، تحتَ تِلك الشجرة.
وينظُر « بُحَيرا »، وإذا بالغَمامةِ فوقَ الشجرةِ، كالمُعلَّقةِ فَوقَها.. وإذا بالشجرةِ قد تَدلَّتْ أغصانُها على الأرضِ فوقَ الغلام!.
فَيُتَمتِمُ الراهبُ بُحيرا: هنا السرُّ!..
ويدعو الغلامَ فيقبلُ إليه، ويتأمّلُ الراهبُ الغلامَ، ويسألُ عمَّه عنه، وعن ولادتِه، وعن والدَيه، ويكشِفُ عن ظهرِ الغُلامِ، فيتلألأُ خاتَمُ النبوَّةِ بينَ كَتفَيه.. فيَشهَقُ الراهبُ: إنَّه النبيُّ الموعودُ في آخرِ الزّمانِ، وقال لعمّهِ أبي طالب:
ـ « ارجِعْ بابنِ أخيك إلى بلدِه، واحذَرْ عليه منَ اليهود، فإنه كأئنٌ لابن أخيك شأنٌ عظيم »
فأسرعَ أبوطالبٍ بالعَودةِ بابنِ أخيه، وهو أشدُّ ما يكونُ حذَراً على ابنِ التسعِ سنين.
• المشهد الرابع
مكّةُ في جَلَبةٍ وضَوضاءَ، للقَحْطِ الذي أصابَها مِن انحباسِ المطر..
فاجتمعَ رجالُها لصلاةِ الاستسقاءِ، وأقبلوا على دارِ أبي طالبٍ يَطرُقونَ عليه الباب.
ولمّا فتحَ لهم، قالوا:
ـ « يا أبا طالب، أقحَطَ الوادي، وأجدَبَ العيال، فَهَلُمَّ فاستَسْقِ لنا! ».
ويَهمُّ أبوطالبٍ بالخروجِ معهم. لكنَّه عادَ، وكأنَّه تَذكرَّ شيئاً، ثم رجَع إليهم ومعه غلامٌ صغيرٌ هو محمّد، وانطلقوا إلى الكعبةِ بيتِ الله الحرامِ..
وأخذ أبوطالب ابنَ أخيه وأَلصَقَ ظهرَهُ بالكعبة، ورفعَ محمّدٌ صلّى الله عليه وآله وسلّم نَظَرَهُ إلى السماءِ وأشارَ بإصبعِه إليها، وإذا بالسحابِ يَتراكُم، .. وإذا بالمطرِ ينهمرُ غزيراً حتّى امتلأَ الوادي، وأخصَبَتِ البَوادي!..
حقاً، إنّها ليست مشاهدَ فحسب، بل مُعجزات!..
* * *
وتمضي السنواتُ، ويَمتلئُ قلبُ أبي طالبٍ بابنِ أخيه حُبّاً، ويُشغَفُ به شَغَفاً شديداً!
وكانت لأبي طالبٍ « سِقايةُ الحاجِّ »، فهوَ المُشرفُ على سِقايةِ حُجّاجِ بيتِ الله الحرامِ في موسمِ الحجِّ. وكان الماءُ يومَها شحيحاً، وإذا تيسَّرَ فكانَ طعمُه مَذِقاً لبعضِ مُلوحةٍ فيهِ، لذلك.. كانَ أبوطالبٍ يشتري التمرَ والزَّبيبَ، يَضعُهما في الماءِ ليحلوَ، ويعذُبَ طعمُه.
ومن قبلُ كانَ أبوهُ عبدُالمطلّبِ يفعلُ ذلك، فوَرِثَ عنه « السِّقايةَ » والسَّماحةَ والكرم.
وَمَرَّ عامٌ كالحٌ أسوَدُ، افَتَقَرَ فيهِ أبوطالب.
إنّ « سقايةَ الحاجِّ »، وكثرةَ العيالِ، أَتلَفتَا مالَه، فَنَفِدَ!..
فاستدانَ أبوطالبٍ من أخيه العبّاسِ عَشَرَة آلافِ دِرهم إلى الحَولِ (عاماً كاملاً). وحالَ الحَولُ، ولم يَستِطع أبوطالبٍ رَدَّها!..
فَذَهَب ثانيةً إلى أخيهِ العبّاسِ، فاستدانَ منه أربعةَ عَشَرَ ألفَ دِرهمٍ.
ولكنَّ العبّاسَ اشترَط على أخيه أبي طالبٍ أن يتركَ لهُ « السِّقايةَ » إن لم يستطعْ تسديدَ ما تراكمَ عليه من ديونٍ، ويُمهِلهُ حولاً كاملاً!..
ويحولُ الحولُ ثانيةً، وأبوطالبٍ في شِدَّةٍ وعُسر!..
وأُفلتَتْ « السقايةُ » من يدِ أبي طالب، وقد جارَ عليه الزمانُ، لِتستَقرَّ في يدٍ تَنعُمُ بِبُحبوحةِ المالِ وَوَفرتِه،.. إنّها يدُ أخيهِ العباسِ بنِ عبدِ المطلّبِ!..
ولكنَّ مكانةَ أبي طالبٍ في قومِه لم تَتَغيَّرْ.. فهي هي في السرَّاءِ كما كانت في الضرّاءِ!
ويبقى أبوطالبٍ: سيدَ قومِه، المرهوبَ الجانب، النافذَ الرأي، المُطاعَ الأمر!..
* * *
ويَشِبُّ ابنُ أخيه محمدٌ صلّى الله عليه وآله وسلّم، تَتحفَّزُ فيه عزيمةُ الرجالِ.
فَتُكَلِّفُه خديجةُ بنتُ خُوَيلدٍ الاتّجارَ بمالِها، فيتاجرُ ويجني لها وافِرَ الأرباح!..
فتُعجَبُ به!.. وتُرسِلُ إليه عَارِضةً عليه أن يتزوجَها، فَيَقْبَل.
وكانتْ من قبلُ قد رَفَضَت سادةَ قريشٍ الذين أتَوها يطلُبون يدَها.
ويتوجَّه أعمامُ محمدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى بيتِ خديجةَ يخطبونَها لمحمدٍ صلّى الله عليه وآله، وسلّم وكانَ أبوطالبٍ الخاطِبَ والخطيبَ. فماذا قالَ؟
قالَ: « الحمدُلله الذي جَعَلَنا من ذرِّيَّةِ إبراهيمَ وزرعِ إسماعيلَ، وضِئْضئِ مَعَدٍّ (أي: أصل معد)، وَجَعلَنا حَضَنَةَ بيتِه، وسُوَّاسَ حَرَمِه، وجعلَ لنا بيتاً مَحجوجاً، وَحَرَماً آمناً، وجعلَنا حُكَّامَ الناسِ.
ثمّ إنّ ابنَ أخي هذا محمَّداً بنَ عبدِالله، لايوزَنُ برجُلٍ إِلاّ رَجَحَ به شَرَفاً ونُبلاً، وفضلاً وعقلاً، فإن كانَ في المالِ قِلٌّ فإنَّ المالَ ظِلٌّ زائلٌ، وأمرٌ حائلٌ، وعاريةٌ ( أي: وديعة ) مُستَرجَعة.
ومحمدٌ مَن عرفتُم قرابتَه، وهوَ واللهِ لدَينا عظيم، وذو خَطَرٍ جليلٍ جسيم ».
وتدورُ أيّامٌ، وتكِرُّ أعوامٌ، والأزماتُ الماليةُ ما زالت تلاحِقُ أبا طالب، فهو في ضائقة. وكأنَّ الدهرَ نَاصَبَهُ العِداءَ، فلا يَرميه إلاّ بالضّيقِ الشديد!
وكانَ من طبيعةِ الحالِ أن يكونَ محمدٌ صلّى الله عليه وآله وسلّم أولَ من يشعرُ بالضائِقة الماليةِ تُصيبُ عمَّه، فيتجهُ إلى عمّهِ العباسِ، وكانَ من أغنى بني هاشم، قائلاً له:
ـ « يا عباس، إنَّ أخاك أباطالبٍ كثيرُ العيالِ، وأصابَ الناسَ ما ترى من هذه الأزمةِ، فانطلِقْ حتى نُخفّفَ عنه وعن عيالِه.
فانطلقا إليه..
فقال لهما أبوطالب: اترُكا لي طالِباً وعَقيلاً، وخُذا مَن شِئتما.
فيأخذُ العَبَّاسُ جَعْفراً فيضمُّه إليه، ويأخذُ محمّدٌ صلّى الله عليه وآله وسلّم عليّاً، فيضمُّه إليه.
وهكذا يَحتضنُ محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم علياً ويكفُلُه، تماماً كما سَبَقَ لأبي طالبٍ أن احتَضنَ محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم وكفَلَه!.. إنّه عَودٌ على بدَءٍ، فيا لتَقديرِ علاَّم الغيوبِ!..
* * *
وما هو إلاَّ زمنٌ يسيرٌ حتى تَزِفَّ السماءُ إلى الأرضِ البشرى العظيمةَ: مُحمّدٌ صلّى الله عليه وآله وسلّم رسولُ الله إلى العالَمين.
ويهبِطُ عليه الوحيُ بالآياتِ من القرآنِ وبالسُّوَر، و يأمرُه الله عزَّ و جلَّ بتبليغِ دعوتِه، فيستجيبُ عليٌ وخديجةُ، فأخو النبي وزوجُه أوَّلُ مسلِمَين على وجهِ الأرضِ.
ثم يأتي أمرُ السماء: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ .
فَيُولِمُ محمدٌ صلّى الله عليه وآله وسلّم وليمةً لعشيرتِه بني عبدِالمطَّلبِ، ويَدعوهم إليها، فيتوافدونَ.
ويُعلنُ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيهم دعوتَه، ويدعوهم للإسلام.
وينبري عمُّه أبوطالبٍ ليقولَ، بعد كلامٍ طويلٍ:
ـ « إِمضِ لِمَا أُمِرتَ بهِ، فو اللهِ لا أزالُ أحُوطُك وأمنعُك ( أي: أمنع عنك الأعداء ) ».
فيردُّ عليه أبولهبٍ بلاذعِ الكلامِ!
ويَصرُخُ أبوطالبٍ بوجهِ أخيهِ أبي لهب:
ـ « واللهِ لَنمنَعُه ما بَقِيبنا ».
ثمّ يلتفتُ إلى ابنِ أخيه محمّدٍ مُتابِعاً:
ـ « قُمْ سيّدي وتكلمْ بما تُحبُّ، وبَلّغ رسالةَ ربِّك فأنتَ الصادقُ الصدوق ».
ويتدخَّلُ الأهلُ بين الأخَوَينِ وقد اتّخذَ كلٌّ منهما موقفاً، ويمنَعونَهما من متابعةِ هذا النقاشِ العاصِف.
ولا يلبثُ عليٌّ عليه السّلام، وقد سَمِعَ ما سمعَ، أن يُبادرَ إلى مُبايَعةِ ابنِ عمِّه على ما جاءَ بهِ من عندِ اللهِ تعالى.
ويُتوَّجُ هذا الاجتماعُ بكلمةٍ من النبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم تَختصرُ الكثيرَ من الدعوةِ لاحقاً:
« هذا عليٌّ أخي، ووصِيّي، وخليفتي مِن بعدي، فاسمَعوا له وأطيعوا ».
وينصرفون!..
ويتلفتُ أحدهم إلى سيدِ بني هاشمٍ الوَقور، أبي طالبٍ. وهما يغادرانِ عتَبةَ الدارِ، ويقولُ لهُ بلهجةٍ ظاهرُها المُداعَبةُ، وباطنُها الإنكارُ:
ـ « يا أباطالبٍ، هذا ابنُكَ الغلامُ وصيُّ ابنِ أخيك وخليفةٌ من بعدِه، فاسمَعْ لَهُ وأَطِع! ».
* * *
وتمتدٌّ دعوةُ النبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.. تَسِري في صفوفِ قريش، فَيَتبَعُهُ خَلقٌ كثيرٌ، يزدادُ عددُه يوماً بعدَ يوم.
وتَتَّهِم قريشٌ النبيَّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بكلِّ تهمةٍ: أنّه ـ حاشاه ـ مجنونٌ، أو شاعرٌ، أو هو ساحرٌ..!
يُقبلون على عمِّه أبي طالبٍ: حاميِه وناصرِه وكفيلِه والمدافعِ عنه،
أولاً .. و ثانياً.. وثالثاً.. قائلين:
ـ « يا أباطالبٍ، اكفُفْ عنَّا ابنَ أخيك، فإنَّه قد سَفَّهَ أحلامَنا، وَسَبَّ آلِهتَنا، وأفسَدَ شبابَنا، وفَرَّقَ جماعَتنا ».
فيَستمهِلُهم « شيخُ البطحاءِ »، وينصرفون!
ويدعو أبوطالبٍ إليه محمداً صلّى الله عليه وآله يُحاوره ويناقشُه، فيجيبُه النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أخيراً:
ـ « يا عمّ، لا أستطيع أن أعصيَ أمرَ ربّي ».
و يُعاوِدُ القرشيون الاتِّصالَ بأبي طالبٍ عارضين على محمدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم بواسطتِه المالَ إن أرادَ مالاً، والمُلْكَ إن شاءَ الرئاسةَ..
ولكن محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم، لا يرى إلاَّ تبليغَ رسالةِ ربِّه..
وتَبُوءُ كلُّ محاولاتِهم بالفشلِ الذريعِ، ولا يلتفِتُ النبيُّ إلى عروضِهم المُغريةِ التي يسيلُ لها لعابُ الطَّموحِ، ولا يأبَهُ هو أو عمُّه أبوطالبٍ إلى تهديداتِهم.
ويَقبلان التحدي!.. وقد لَخَّصَ النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم موقفَه النّهائيَّ بقولِه الشهير:
ـ « والله، يا عمُّ، لو وَضَعوا الشمسَ في يميني، والقمرَ في يساري، على أن أترُكَ هذا الأمرُ حتّى يُظْهِرَهُ الله، أو أهلِكَ فيه، ما تَركتُه! ».
* * *
وفي مساءِ يومٍ.. يشاهدُ أبوطالبٍ ابنَه عليّاً يصلّي خلفَ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد اختفيا حذَراً من المشركين، فتقرُّ بذلك عينُه ويقولُ لابنِه: « يا عليَّ الزمْ ابنَ عمِّك.. أما إنَّه لا يَدعوكَ إلاّ لخير ».
ويشاهدُه مرةً ثانيةً يصلّي عن يمينِ الرسولِ، فيلتفتُ إلى ولدِه جعفرٍ الذي كانَ ساعتَئذٍ إلى جانبِه، ويقولُ لهُ: ـ صِلْ جَناحَ أخيك، فَصَلِّ عن يسارِه ».
ففعل.
ولكن قريشاً لن تَدعَ النبيَّ وشأنَه، فآذَتْه أذى شديداً، ولكنَّ أبا طالبٍ كان لهم جميعاً بالمرصادِ.
فانتصرَ لابنِ أخيه وحمَاهُ، وردَّ الأذى عنه، وكالَ لهم الصاعَ صاعَين. فكفّوا أيديَ سُفَهائِهم عن النبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.
* * *
ووصلَ أمرُ النبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، بالنسبةِ لقريشٍ، إلى ما لايُطاقُ، فلم تَعُدْ تستطيعُ أن تحتَمِلَه، فيجتمعُ أربعونَ من ساداتِها في «دار النَّدوةِ» ويتعاهدونَ فيما بينَهُم على مقاطعةِ بني هاشمٍ، ويكتبونَ في ذلك صحيفةً، ويختمونَها، ويُعلِّقونَها في الكعبة.
إنَّها حربٌ من نوعٍ جديد: مقاطعةٌ وحِصار!
ولمّا عَلِمَ بذلكَ أبوطالبٍ جَمعَ من بني هاشمٍ أربعينَ رجلاً ودخلَ بهم «الشِّعْبَ» في خارجِ مكَّة، وكانَ هذا « الشِّعْبُ » مِلْكاً لعبدِ المطلّبِ، فاشتُهِرَ مُذْ ذَاك بِشِعبِ أبي طالب.
وبادرَ إلى تحصينِ الشِّعبِ، فالأعداءُ قد بَيَّتوا لمحمدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم شرّاً.
وكان أبوطالبٍ يُشرفُ بنفسِه على حراسةِ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في الليلِ، والسيفُ في يدِه.
ويلجأُ إلى تغييرِ مكانِ مَبيتِ النبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كلَّ ليلةٍ أكثرَ من مرّةٍ، محافظةً عليه وتأميناً لسلامته، كما كان يَكِلُ أمرَ حراستِه بالنهارِ إلى أولادِه وأولادِ أخيه.
وبقيَ الأمرُ على هذا الحالِ: بنو هاشمٍ مُحَاصَرون في الشِّعبِ، ثلاثَ سنوات..
فأصابَتهُم البَأساءُ والضرَّاءُ، حتّى أنّهم كانوا يَقتاتونَ بِورقِ الشّجَرِ في كثيرٍ من الأحيان.
ويأتي النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى عمِّهِ أبي طالبٍ في أحدِ الأيّامِ مُستبشِراً، ويخبِرُه بأن الله تباركَ وتعالى قد سَلَّط الأَرَضَةَ (وهي دُوَيبَةٌ قارِضة) على صحيفةِ قريشٍ الظالمةِ، ومَحَتْ كلَّ ما جاءَ فيها باستثناءِ اسمِ الله تعالى.
فما كانَ من أبي طالبٍ إلاَّ أن غادرَ الشِّعبَ على الفورِ، واتَّجهَ إلى قريشٍ وقد اجتمعوا في نادِيهم، فظنّوا أنَّه جاءَ يُفاوِضُهم على تسليمِ ابن أخيهِ إليهم!
فأنبأَهم أبوطالب بما قالَ له ابنُ أخيه، فإنْ كان حقّاً فما عليهم إلاّ إنهاءَ قطيعتِهم وحصارِهم، وإن لم يكن قولُه حقّاً فهو مستعدٌّ أن يُسلِّمَه إليهم.
فرضوا بذلك.. وبَعثوا مَن أتى بالصحيفةِ المُعلَّقةِ في الكعبة، وتأكّدوا من أربعين ختماً كانت على ظهرِها، ثم فَكّوها.. فإذا ليسَ فيها حرف، إلاَّ: « باسمِك اللَّهمّ »!!
فقال لهم أبوطالبٍ: « يا قومُ! اتّقوا الله، وكفوُّا عمّا أنتم فيه ».
فتفرّقوا دونَ أن يَنبِسَ أحدٌ منهم بكلمة!
وهكذا أَفشَلَ الله تعالى خُطَّتَهم، ونَصَر نبيَّهُ عليهم، فَخَرج من الشِّعب، وَخَرجَ معه بنوهاشم.
وبعد ذلك بشهرينِ، شَعر أبوطالبٍ رضوانُ الله عليه بدنوِّ أجَلِه، فأوصى قريشاً بوصيةٍ طويلةٍ، يَحثُّهم فيها على اجتماعِ الكلمةِ على الحقِّ، وتعظيمِ بيتِ اللهِ الحرامِ، وصِلةِ الأرحامِ، وتركِ البغيِ، وإِعطاءِ السائلِ، وصدقِ الحديثِ، وأداءِ الأمانة..
و أوصاهُم بمحمدٍ خَيراً، فَهُو أمينُ قريشٍ، وفيه تجتمعُ مكارمُ الأخلاق..
ويتنبَّأ بمستقبلِ العربِ يومَذاك، فمَن تَبِعَ النبيَّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان له المجدُ والسُّؤدَدُ، ومن تَخلَّفَ عنه هوى.
ويدعو بني هاشمٍ ويُوصيهم قائلاً:
ـ « لن تزالوا بخيرٍ ما سَمِعتم من محمدٍ، وما اتَّبَعتُم أمرَه، فأطيعوه تَرشُدوا ».
و في آخر رجب، في السنةِ العاشرةِ من البعثةِ، يلتحقُ أبوطالبٍ بجوارِ ربِّه الكريمِ، عن عمرٍ تجاوزَ الثمانين عاماً.
ويأتي عليٌّ عليه السّلام بخبرِ موتِه إلى النبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فتَنهمرُ عَيناهُ الشريفتانِ بالدَّمعِ، ويقولُ لهُ:
ـ « اذهَبْ وغسِّلْه وكفِّنْه وَوارِهِ. غَفَرَ الله لَهُ وَرَحِمَهُ ».
ولما سارت الجَنازةُ اعترضَها الرسولُ صلّى الله عليه وآله وسلّم، قائلاً:
ـ «وَصِلَتْكَ رَحِمٌ يا عمُّ.. وَجُزِيتَ خيراً .. أَمَا والله لأَستَغفِرَنَّ لكَ، ولأشفَعَنَّ لَكَ شَفَاعةً يُعجَبُ لها الثَّقلان!».
وهكذا يَنهَدُّ حِصنُ النبيِّ الحصينُ في مكةَ، وينهارُ!..
وفي ساعةٍ ـ بعد ذلك ـ كان قلبُ الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم طَافِحاً بالحزنِ والأسى واللوعةِ، يهبِط عليهِ جبريلُ، ناقلاً إليه أمرَ السماءِ:
ـ « يا محمّد.. اخرُجْ من مكّةَ، فقد ماتَ ناصِرُك! ».