وبعد أن أحطت حول خطب أمير المؤمنين عليه السلام وكلامه خُبراً ، تعلم أنه لا يوجد شخص يحترم نفسه وعلمه إن كان لديه علم ، أن يدعي أن ( نهج البلاغة ) والخطب الموجودة فيه ، والحكم المودعة لديه منحولة على أمير المؤمنين عليه السلام مثل ما يقوله الذهبي في ترجمته للسيد المرتضى وهو أخو الشريف الرضي قال : " علي بن الحسين العلوي الحسيني الشريف المرتضى المتكلم الرافضي المعتزل ، صاحب التصانيف – إلى أن قال – وهو المتهم بوضع كتاب ( نهج البلاغة ) ، وله مشاركة قوية في العلوم .
ومن طالع كتابه ( نهج البلاغة ) ، جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ، ففيه السب الصراح والحط على السيدين : أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفة بـ نَفَس القرشيين الصحابة وبـ نَفَس غيرهم ممن بعدهم من المتأخرين جزم بأن الكتاب أكثره باطل ".
إذا كان الذهبي مع علمه وإحاطته وخبرته في التاريخ والجرح والتعديل ، لم يتمكن أن يميز ويعين من هو الذي جمع كتاب ( نهج البلاغة ) هل هو الشريف المرتضى المتوفى 436هـ أو أخوه الشريف الرضي : محمد بن الحسين بن موسى ، أبو الحسن الرضي نقيب العلويين بغداد أخو المرتضى والمتوفى 406هـ وقد ترجمه هو في الميزان تحت رقم (7424) وقال فيه : " شاعر بغداد ، رافضي جلد " .
الجواب :
1-أقول إذا كان الذهبي لم يميز من هو جامع كتاب ( نهج البلاغة ) هل الرضي أو المرتضى ؟ كيف تسنى له أن يحكم على السيد المرتضى أنه هو المتهم بوضع ( نهج البلاغة ) ؟
2-إن كتب السيد المرتضى التي ألفها في الفقه كالانتصار ، والأصول كالذريعة ، والأدب كالأمالي وغيرها ، كلها موجودة ومعلومة ، ولو قارن الذهبي بينها وبين ( نهج البلاغة ) في الإنشاء والأسلوب لرأى بينها وبينه البون الشاسع بعد ما بين السماء والأرض ، مع جلالة وعظمة السيد المرتضى ، ولكن أين هو وأين ( نهج البلاغة ) ؟ .
3-إن الشريف الرضي والذي هو متخصص في الأدب " وكان رحمه الله عالماً أدبياً ، وشاعراً مفلقاً ، فصيح النظم ، ضخم الألفاظ ، قادراً على القريض ، متصرفاً في فنونه .
إن قصد الرقة في النسيب أتى بالعجب العُجاب ، وإن أراد الفخامة وجزالة الألفاظ في المدح وغيره أتى بما لا يُشق فيه غباره " ومع هذا كله لو قارن الذهبي أو غيره بين مؤلفات الشريف الرضي كديوانه ، وحقائق التأويل ، والمجازات النبوية وغيرها وبين نهج البلاغة لرأى الفارق الكبير بينهما وحتى نثره الذي يعلق به على بعض الخطب في ( نهج البلاغة ) ، يجد الخبير اللبيب كل الاختلافات في الأسلوب والقوة بينه وبين ( نهج البلاغة ) .
4-ثم ما هو الداعي لأن يقوم السيد المرتضى مع عدالته وورعه أن يضع مثل هذا المجهود الكبير وينسبه إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، وهل الإمام بحاجة على أن تكمل فضائله بالكذب والوضع .
5-إن كثيراً من خطب نهج البلاغة موجودة في مصادر قبل أن يولد السيد المرتضى بل قبل أن يولد والده .
6-إن الذي ألف وجمع نهج البلاغة هو الشريف الرضي عام 400هـ ، وانتشرت نسخه في العالم قبل وفاته بست سنوات ، ولكن الذهبي عذره عنده حيث لم يطلع ولا على نسخة واحدة من نهج البلاغة حتى يتمكن أن يميز من هو جامعه هل الشريف الرضي أم الشريف المرتضى .
وحينئذ إذا حكم على ( نهج البلاغة ) من أنه منحول على أمير المؤمنين عليه السلام ومكذوب عليه وفيه الأشياء الركيكة والتناقضات فلا غرابة ولا عجب فإذا كان لا يعرف جامع الكتاب ، فمن باب الأولى أن لا يعرف محتواه ، ولا مستواه .
ولعل الذهبي قلد ابن خلكان في ( وفيات الأعيان ) حينما ترجم الشريف المرتضى ، وذكر أنه الذي جمعه – أي جمع خطب نهج البلاغة – ونسبه إليه وهو الذي وضعه .
وكأن هذه الشنشنة قديمة وقد تعرض لها ابن أبي الحديد وردَّها بأحسن بيان قال : " لأن كثيراً من أرباب الهوى يقولون : إن كثيراً من ( نهج البلاغة ) كلام محدَث ، صنعه قوم من فصحاء الشيعة ، وربما عزوا بعضه إلى الرضي أبي الحسن وغيره ، وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم ، فضلوا عن النهج الواضح وركبوا بُنيّات الطريق ، ضلالاً وقلة معرفة بأساليب الكلام ، وأنا أوضح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط فأقول :
لا يخلو إما أن يكون كل ( نهج البلاغة ) مصنوعاً منحولاً ، أو بعضه .
والأول باطل بالضرورة لأنا نعلم بالتواتر صحة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، وقد نقل المحدّثون كلهم أو جلّهم ، والمؤرخون كثيراً منه ، وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك .
والثاني : يدل على ما قلناه ؛ لأن من قد أنِسَ بالكلام والخطابة ، وشَدَاء طرفاً من علم البيان وصار له ذوق في هذا الباب لابد أن يفرق بين الكلام الركيك والفصيح ، وبين الفصيح والأفصح وبين الأصيل والمولّد ، وإذا وقف على كرّاس واحد يتضمن كلاماً لجماعة من الخطباء ، أو لاثنين منهم فقط .
فلابد أن يفرق بين الكلامين ويميز بين الطريقين – إلى أن قال - : وأنت إذا تأملت ( نهج البلاغة ) وجدته كله ماءاً واحداً ، ونفساً واحداً ، كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية ، وكالقرآن العزيز ، أوله كأوسطه ، وأوسطه كآخره ، وكل سورة منه ، وكل آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفن والطريق والنظم لباقي الآيات والسور ، ولو كان بعض ( نهج البلاغة ) منحولاً وبعضه صحيحاً لم يكن كذلك .
فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم أن هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، إلى آخر كلامه وهو جيد .
وكلام أهل البيت عموماً والإمام أمير المؤمنين عليه السلام خصوصاً له لحن خاص لا يتذوقه إلا من أنس بكلامهم قال عليه السلام : ( وإنّا لأمراء الكلام ، وفينا تشعبت عروقه وعلينا تهدلت غصونه ) .
7-يضاف إلى ما تقدم أن مصادر كتاب ( نهج البلاغة ) كلها أو أكثرها موجودة ومنتشرة في كتب الحديث والفقه ، وقد تصدى جماعة من العلماء المحققين لتخريج خطب ( نهج البلاغة ) وحكمه ومصادرها الأولية ، وأوسعها ما كتبه المرحوم السيد عبد الزهراء ( قده ) الخطيب بعنوان ( مصادر نهج البلاغة ) خرج في أربع مجلدات وطبع وانتشر .
8-وأما ما ذكره الذهبي من السب في نهج البلاغة فغير صحيح بل الموجود فيه التنزه عن السب والترفع عنه ، وأن السب لا يحل مشكلة ، قال عليه السلام : ( إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين ، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر ، وقلتم مكان سبكم إيّاهم : اللهم احقن دماءنا ودماءهم ، وأصلح ذات بيننا وبينهم ، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به ) .
وإن كان عليه السلام لعن من يستحق اللعن كما لعن الله ورسوله صلى الله عليه وآله من يستحق اللعن .
وإن الخطب والكتب والحكم التي في نهج البلاغة اعتنت بالقرآن الكريم وحثت عليه قراءة وحفظاً وعبرة وتطبيقاً ، بل الهدف الأساسي في ( نهج البلاغة ) هو القرآن الكريم الدستور الإلهي أن تطبق حدوده وتُنشر أحكامه ، وتلتزم الأمة بمبادئه .