بين يديكم "رصيف الزعتر" في فصول...وهذه قصة منقولة للأمانة
فليست من كتاباتي الخاصة ...
"شجار على رصيف الزعتر"
شمس شتاء كانون الأول تداعب الأبدان المرتعشة من خلال نافذة صغيرة سمحت بها الغيوم ، البحث عن أشعة الشمس يكوم الطالبات على رصيف الزعتر ، الأكياس البلاستيكية و بقايا الشطائر و علب العصير الكرتونية ترسم لوحة عبثية على أرض الساحة المقابلة للرصيف ، و بعض الطالبات تنشدن الدفء في الحركة النملية بين العلب و الأكياس ، بينما تقف سلال القمامة المبطنة بالأكياس السوداء خاوية البطن ، تستجدي كرم الطالبات فلا يجيبها إلا لمما غاضبة على الأرض ، هذه الزمرة الغاضبة ترفض أن تفلت بقاياها لتلتقفها الأرض ، ففي اعتقادهن أن رمي الفضلات على الأرض يعكس صورة سيئة عن أخلاقهن و يزيد من تعب عاملتي النظافة المسكينتين ، إذ لا تكاد آخر طالبة تدخل إلى الفناء الداخلي إلا و خرجتا يجمعان المخلفات و يحولان تلك الرسمة الطفولية إلى صفحة من البلاط الذي غيرت لونه الشمس...
كانت "هدى علي" ذات قوام رشيق و بشرة فاتحة و خدين مشربين بالحمرة ، يقسم صفحة وجهها الطولي أنفٌ طويل ، يبدأ من عينين حوراويتين واسعتين و ينتهي بفم لا بالقصير و لا بالطويل و يكمل لوحة وجهها قد رقيق ، كان وجهها ينم عن فتاة لم تخضع لخيط التنظيف قط ، يتكاثف الشعر فوق فمها ، و تتحدر من رأسها ظفيرة سوداء طويلة لتلامس ظهرها المستند إلى الحائط العجوزالذي يغالب نفسه ليقاوم جميع عوامل التعرية ، بين تفاوت حرارة الصيف و الشتاء و بين الأمطار الموسمية التي تسقط في شهرين فتكون كالمعاول التي تعمل على مدار العام و أقلام العابثات منذ افتتاح المدرسة و مع تعاقب الأجيال ، لم يتعرض هذا الحائط إلى أي إعادة بناء منذ إنشاء المدرسة عام 1391 هـ ، لكنه خضع لاجتهادات و عمليات تجميل كثيرة من إدارة المدرسة ، وكان العامل الوحيد الذي يكلف دائما بسد الثقوب في الجدارهو حارس المدرسة "أبو هلال" حيث يصنع خليطه الإسمنتي و يلطخ به الجدار و لا يمر شهر إلا و قد تشقق و تعرض مرة أخرى لعملية سد المسامات ، تراقب "هدى" التكوم البشري على الرصيف و هي تفرك يديها الواحدة بالأخرى ، تنقل بصرها من حلقة إلى أخرى ، تلاحظ المعاطف التي تميز الطالبات عن بعضهن البعض ، فواحدة ترتدي معطفا خفيفا من الجينز و تخفي كفيها في مخابئه الجانبية ، و أخرى تلبس سترة قطنية بيضاء ، و ثالثة تقاوم البرد بضم اليدين تارة و بث الحرارة من الفم إلى الكف تارة أخرى...
شرد فكر "هدى" و هي تراقب الغيم المتكتل بكثافة في السماء ، تسلل فكرها إلى المنزل ليراجع دوامة الصراخ و الجو المشحون الذي خلقه أخاها الأصغر "حسين"...
ضربتها "أمل جاسم" على كتفها فانتفضت كأنها تزيل الثلج عن جسدها ، هتفت مرتعبة:
- ما بكِ أخفتيني...ضحكت "أمل" و هي تقول:
- لو نظرتِ لنفسك في المرآة!... كأنك تناقشين شيئا ما... كان وجهك يتلون و تقطبين جبينك و ترخينه...
سكن روع "هدى" ، سألت:
- منذ متى و أنتِ هنا؟؟.. لم ألحظ وجودك...
- منذ أن أفلتِ من يدك علبة العصير...
تطلعت "هدى" ليدها وفغرت فاهها..
- متى سقط من يدي...
- تقريبا.. منذ خمس دقائق.. ألم أقل لك أنك كنت تناقشين أمرا ما... هيا أخبريني؟؟؟ ماذا يشغل فكرك؟؟
حركت "هدى" رأسها كمن يطرد فكرة ما و قالت:
- لا شيء... لاشيء على الإطلاق...
أصرت "أمل" على أن تبوح لها "هدى" بما ينغص عيشها ويكدر صفوها:
- من يشرد ذهنه هكذا... لابد أن به شيئا ما... هل نقصتِ درجة و لست مقتنعة؟؟؟
- لا...
- إذاً... تعرضتِ لموقف ما أحرجكِ؟؟
- لا...
- ثمة أمر في المنزل؟؟
- ها؟؟ لا... ليس أمرا مهما...
- أمكِ من جديد؟؟
- نعم.. أمي..
- لابد أنك نسيتِ غسل الصحون...
- لا.. الأمر لا يخصني...
- إذاً.. يخص من؟؟
- يخص "حسين"... المراهق..
- ماذا فعل؟؟
- يريد سيارة... تخيلي... "حسن" في الجامعة لا يملك سيارة... و "حسين" يريد سيارة... إنه يهددنا بترك الدراسة...
- ألم يكن عاقلا...
- كان فعل ماض...إنه يتصرف بأنانية ، لا يراعي ظروف أبي و عمله...
- و ماذا فعلت أمك؟؟
- قلبت المنزل إلى صفيح من نار ، لم نسلم من صراخها ، ولم تدع جانباً إلا و طرقته ، وعندما عاد أبي أخبرته فأخرج الخيزران و ضرب "حسين"...
- آها..
- تلوى جسمه تحت وطأة العصا ، لم يتوقف عن ضربه إلا وقد تمزق ظهره و تلون جسده...
- مسكين... في هذا الشتاء؟؟؟
- أخشى أن يفر من المنزل و لا يعود...
- لن يفر بإذن الله...
كان نظر "أمل" يتنقل في زوايا الساحة المدرسية ، إذ ثبتت نظرها على امتداد المساحة التي تفصلها عن ركن البيتزا و هتفت...
- انظري من القادم...
نظرت "هدى" إلى حيث تشير "أمل" ، وضعت يدها على قلبها ، قالت:
- ماذا تريد قليلة الحياء هذه؟؟
- سترك يا أرحم الراحمين...
- أرى حركاتها هذه الأيام في ازدياد...
كانت فتاة رشيقة بيضاء ، ذات وجه دائري و خدين تبرز فيهما غمازتان ، و عينين عسليتين متوسطتي الحجم ، بشرة صافية ، حاجبين مرسومين بدقة ، و شعر أسود مائلٍ للبني متموج يصل إلى أذنها، تشق طريقها نحو "هدى" و "أمل" ، تحمل في كفها عصير الفواكه الطبيعية المشكلة ، و يتبعها على بعد خطوات مجموعة من الفتيات ترتسم على وجوههن ابتسامات شامتة ، كانت "عبير سمير" الملقبة بين الطالبات بالزعيم ، وقد وصلت إلى "هدى" و انحنت لتضع العصير على الأرض ، ثم بحثت في مخابئ معطفها برهة و أخرجت علبة سجائر و قداحة ، وضعت سيجارة في فم "هدى" و هتفت و هي تقدح اللهب...
- هل تريد أن أشعلها لك يا حاج؟؟؟
حولت "هدى" السيجارة إلى حطام ثم ركلت علبة العصير الذي وضعته "عبير" و انقضت على شعر "عبير" كأنها أسد غاضب ، فالتحمت معها "عبير" في معركة ضارية ، و تجمهرت الفتيات حولهما بينما علا الصفير من صديقات "عبير" و ارتفع الصراخ و أصوات التشجيع من كل حدب و صوب إلى أن تدخلت "أمل" و أوقفت المعركة على وقع صافرة انتهاء الفسحة المدرسية ، فهتفت "عبير" و هي تحاول استعادة أنفاسها ممسكة شعرها بكلتا يديها...
- سترين... يا فلاحة (1) ...
أمسكت "أمل" كف "هدى" و انسلت بها من بين الجمع فتفرقت الفتيات على صوت المعلمة المناوبة أبلة "سعاد" ، و لم يبق في الساحة إلا "عبير" و صديقاتها فلفتن نظر المعلمة التي أمسكت بـ "عبير"...
- مالذي فعل بك هذا؟؟
- هه؟؟ .. كنت أمزح مع صديقتي و تبعثر شعري فقط...
- متأكدة؟؟؟
- إذا لم تصدقي... اسألي البنات..
- إذن... رتبي مظهرك و أسرعي إلى الفصل... الحصة الرابعة بدأت..
- إن شاء الله معلمة...
كانت "هدى" منذ طفولتها هادئة الطبع في المدرسة ، تتحاشى الصدام مع الأخريات ، تجلس في المقاعد الأولى في بحث دائم عن التفوق الدراسي ، وقد نمت في شبه عزلة عن الطالبات تقريبا ، فالطالبة المتفوقة الصامتة عادة ما تكون محط حسد أترابها و غيرتهن و حنقهن ، لاسيما أنها تستأثر بورقتها لنفسها و لا تلتفت لتوسل من تكون خلفها في الاختبارات ، فلم تستحوذ على إعجاب أي زميلة من زميلاتها ، و لم تلتحق بأي جماعة من الجماعات المختلفة ، كانت تثير منافساتها بإجاباتها النموذجية ، فكن يحدثنها و يلاطفنها و يتقربن منها ثم يكدن لها المكائد و يثرن حولها الشائعات من ورائها ، و قد انتشرت عنها في المرحلة المتوسطة أكذوبة التجسس ، و تأكدت الأكذوبة عندما شاهدنها بعض الطالبات تخرج من غرفة المدرسات بعد أن سلمت دفترها الرياضيات إلى المعلمة ، و قد صادف أن استدعت الإدارة سرب من المشاغبات إحداهن "عبير" ، و منذ ذلك اليوم أعلنت "عبير" عداوتها لـ "هدى"...
كانت "أمل" السمراء المكتنزة ذات الشعر الأسود الفحمي الناعم ، و الوجه الدائري و العينين الضيقتين و الأنف المعتدل و الفم الصغير هي الوحيدة التي تنظر لـ"هدى" بعين الشفقة ، تشعر أنها تتعرض لظلم لا تستحقه ، و قد راقبتها كثيرا و هي تتجرع المضايقات من الطالبات ، ثم تجرأت و أعلنت دفاعها عن "هدى" و استماتت في إقناع بعض الطالبات بخطأ اعتقادهن ، و تصدت لأخريات بلسان لاذع حتى تضاءلت المضايقات و اقتصرت على "عبير" و صديقاتها فقط بعد أن اكتشف الجميع الجاسوسة الحقيقية و هي تدخل الإدارة ليتم استدعاء الطالبات من جديد ، و تكونت صداقة "هدى" و "أمل" منذ اللحظة ذاتها التي دافعت فيها "أمل" عن "هدى" ، إذ أصبحت "هدى" تركض لتحتمي بـ "أمل" متى أحست بأن مضايقات ستعترض طريقها ، و لم تعد "أمل" مجرد محامية بل أصبحت الصديقة التي تختزن عندها أسرارها و تفتح لها قلبها و تبثها أحلامها و آلامها ، و مع مرور الأيام وجدت "هدى" نفسها تتحدث مع "أمل" في الهاتف ساعات مطولة ، وتقضي معها بعض ليالي الجمعة ، فتعمقت علاقتهما مع نموهما كما نمت مضايقة "عبير" لـ "هدى" التي تبدل سببها إلى تسلية فقط ، كان من سوء طالع "هدى" أنها التحقت بالثانوية نفسها التي التحقت بها "عبير" ، و الأسوأ أن حظها فرق بينها و بين "أمل" في المرحلتين الأولى و الثانية مما يضطرها لقضاء وقت من الفسحة في انتظار و ترقب إلى أن تلتقي بـ "أمل"...
_____________
1) نسبة لمن يعمل بالفلاحة ولم يكن تعبير دقيق من عبير