إن استيعاب مقامات المعصومين عليهم السلام، يحتاج إلى معجون متركب من جزئين:
الجزء الأول: الإطلاع التفصيلي (العلم الحصولي) ومعرفة ما ورد عنهم من خلال المصادر الموثوقة من الكتاب والسنة، حول مقاماتهم ومنزلتهم من الله عز وجل.. وهذه المعرفة النظرية الاستقرائية هي نعم العون على هذا المجال!.. إن الثروة الحديثية والتاريخية في عصرنا هذا لا تُقاس بأي عصر، وذلك لسرعة انتشار وسائل الإعلام، وطبع الكتب، وبثّ المعلومات في المواقع الإعلامية المختلفة.. ولذا أصبح بإمكان الإنسان أن يحوز على كمية كبيرة من المعلومات في مدة قصيرة.
ثانيا: إن من روافد المعرفة، والإطلاع على مقامات هذه الوجودات الطاهرة، هو شرح الصدر، والمعرفة الإشراقية والإلهامية.. إن رب العالمين لم يجعل لنفسه قانوناً ملزماً، فمتى ما شاء يستثني، فيفعل ما يشاء، ويمحو ما يشاء، ويثبت ما يشاء.. إن الوحي خاص بالأنبياء، فهذا لا كلام فيه.. ولكن الإلقاء في الروع، وشرح الصدر، كما اتفق لأم موسى، وكما اتفق لمريم عليها السلام، وكما اتفق أيضاً لبعض الحشرات {وأوحى ربك إلى النحل}.. فإذن، لا مانع من أن يسأل العبد ربه، في أن يفتح عليه هذه المعرفة الإشراقية، ويهبه شرح الصدر.. إن تعبير شرح الصدر تعبير قرآني، وليس تعبيرا مأخوذا من الكتب العرفانية المجردة.. {رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري} فهذه دعوة موسى، عندما أراد أن يقارع فرعون، فقبل أن يطلب المدد الإعجازي، طلب منه شرح الصدر.
فإذن، إن فهم مقامات سيدة النساء صلوات الله عليها، يحتاج إلى هذا الشرح للصدر.. ويبدو أن هذا الوصف الإجمالي للنبي الخاتم والأئمة عليهم السلام للزهراء عليها السلام، كافٍ لإلقاء الضوء على عظمة شخصيتها.. إن النبي (ص) لم يتكلم من منطلق عاطفي أبداً حول فاطمة، كونها بضعة، وروحه التي بين جنبيه، وتفوح منها رائحة الجنة الخ... فهذه التعابير تكشف عن صلة وطيدة بين الروح الفاطمية والروح المحمدية، وكأن هنالك نوع اتحاد وسنخية بين هاتين الروحين.. ولهذا فإن فاطمة (ع) بعد وفاة الرسول (ص) لم تتحمل البقاء في هذه الحياة الدنيا، رغم أن استشهادها ووفاتها كان مكلفاً كثيراً لعلي عليه السلام، حيث فقد عليٌ زوجة وفية، وفقد أماً لأولاده.. ولكن يبدو أن فاطمة (ع) لم تحتمل العيش بعد وفاة أبيها، وكأنها شجرة قطعت جذورها من الأساس.
بالنسبة إلى الإمام المهدي عليه السلام، وفي مقام تعريف أمه فاطمة (ع)، يعبر كما في توقيعه المعروف: أنه له بأمه فاطمة أسوة أو قدوة.. أي أنها مصدر من مصادر الاقتداء في الإسلام.. كما أن النبي أسوة حسنة، فكذلك فاطمة عليها السلام أيضاً أسوة حسنة.. ويبلغ الأمر أوجه عندما يقول الإمام العسكري عليه السلام في الرواية المعروفة -ما مضمونه-: أن الأئمة عليهم السلام كلهم حجج الله على الخلق، وفاطمة حجة علينا.. أي أن فاطمة من روافد انتقال العلم الإلهي إلى صدور الأئمة صلوات الله عليهم.. وأئمتنا (ع) في بعض الروايات، كانوا يذكرون بعض الأسرار والحقائق المهمة، وينسبون ذلك إلى فاطمة.. فالإمام الصادق (ع) يقرأ وينقل حديثاً ويقول: هذا وجدته في مصحف أمي فاطمة.. والمصحف هو ذلك الكتاب الذي أملته فاطمة على علي عليه السلام، فكانت هي التي تملي بإلهام الملك، وعليٌ كان يكتب ذلك.
إن هذا الولاء العاطفي لأهل البيت عليهم السلام، لا بد وأن يتجسد على شكل سلوك عملي.. ففاطمة (ع) لخصت فلسفتها بالنسبة إلى تعامل النساء والرجال، وهو تعامل وثيق هذه الأيام، لأن فاطمة أسست أساساً لنا جميعاً، ودعت إلى فصل الجنسين بأقصى ما يمكن، حيث أنها ذكرت بأنه خير للمرأة أن لا ترى الرجال، ولا يراها الرجال.. لعلمها صلوات الله عليها بأن وجود هذين العنصرين من دون وجود محرمية شرعية، وعقد شرعي في مظان إثارة الأحاسيس، والتحركات القلبية المعهودة في هذا المجال.. ولطالما رأينا أن هذا الاتصال غير الشرعي، وفي غير إطار الأجواء الشرعية المنقحة، من موجبات الزلل الكثير الذي وقع فيه كثير من فتياتنا هذه الأيام.
وهذه كلمة عرفانية لها صلوات الله عليها عندما تدخل الجنة، فيوحي الله عز وجل إليها: يا فاطمة!.. سليني أُعطكِ، وتمنّي عليّ أُرضك، فتقول: إلهي!.. أنت المنى وفوق المنى.. فبهذا الجواب العرفاني البليغ تلخص نظرتها للوجود