يخطئ ويتوهم البعض ـ او الكثير ـ بحسن نية او سوئها بان الملايين من شيعة آل محمد وبفضل احيائهم وممارستهم لمراسيم عاشوراء فان القضية الحسينية تبقى حية ومستمرة ومتجددة ومتدفقة ومتألقة وبدون ذلك لم تكن هنالك عاشوراء ولمات ذكر الحسين منذ ان وري الثرى ولانطفأت او خبت في احسن تقدير الشعلة التي بقيت متوهجة طيلة القرون الاربعة عشر والتي قدر لها وبتقرير من النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه نقلا عن ارادة السماء بان تبقى القضية الحسينية حية الى ان تقوم الساعة لمن يوقن بها او هي باقية ابد الدهر.. والبعض والكثير من هذا النمط يحلو ان يتمنطق ويتحذلق ويتفيقه ويحسب نفسه انه وصل الى قمة الايمان والتوحيد حين يوجه تهمه الجاهزة الى من يحيي مراسيم عاشوراء بالمبالغة والتهويل والشطط والغلو و(الاشراك بالله) وعبادة الشخصية وتأليه البشر وتقديس الاموات..
ومن هؤلاء من يتهم المحيين لعاشوراء من وجهة نظر حداثوية معاصرة وقريبة من اجواء العولمة وتاثيراتها الثقافية والفكرية على العالم اجمع، يتهمهم بالتخلف والانحطاط والرجعية والطائفية والبداوة والبربرية والوحشية واللهاث خلف الماورائية..
والبعض الاكثر اعتدالا يرى ان المراسيم العاشورائية هي مجرد ايحاءات وايماءات ذات دلالات رمزية تعبر عن كوامن سايكلوجية متجذرة في النفوس التي تعشش في بواطنها القضية الحسينية بكل ابعادها ومنها العاطفية وبما يتناسب مع مع التدفق التاريخي غير المنقطع وغير المنفصم او المنفصل لها منذ صبيحة عاشوراء سنة احدى وستين للهجرة...
عاشوراء ليست مجرد ذكرى تحيى وتعاش كما يذكر ذلك في الادبيات او في لغة الصحافة والاعلام بل هي حياة مستمرة ومتدفقة مازالت شرايينها تنبض بالحياة والشباب والحيوية والنشاط وهي عصية على الفناء والنسيان والخمود والاندثار والتلاشي..
ومتى كانت عشوراء ميتة او منسية حتى يحييها المحبون الوالهون او العاشون المتولهون او "المجانين" الذين اجنتهم شخصية الحسين ذات الكاريزما الاسطورية العملاقة ودوي احداث الطف وسحر البطولة والشهادة..
ومتى احتاج الحسين الى من يحيي ذكراه ومتى كانت رميما باليا تحتاج الى بعث ونشور ومتى كانت صرخته التي صكت مسامع الملكوت دون صدى مدو ٍ الى ان ينفخ بالصور...
واهم من يظن ان الحسين يستمد عناصر خلوده وشرعية سرمديته من مدونات التاريخ وهو اكبر من التاريخ الذي خلد من هب ودب ومن فتاوى واحاديث وتبريرات من هنا او هناك...او يستمد فردانية بقائه المتوثب على صدر الوجود من ذلك التعاطف المتناسل عبر الاجيال والاجناس والالوان والبيئات والحضارات والثقافات والقارات وحتى السموات والارضين وهو سيد شباب اهل الجنة فهل يحتاج من يشغل هذا "المنصب" الرفيع الى من يتعاطف معه او يبكي عليه او يتاثر له..
وهل يحتاج الذي جاد لوحده ما لم يجد به التاريخ باسره حتى الانبياء والاولياء والاوصياء والشهداء واهل الكرامة على الله..هل يحتاج الى ان تتناسل العواطف الجياشة وتتلاقح الجينات والكروموسومات على حبه وحب ابيه الذي هو الحد الفيصل مابين الكفر والايمان..؟
ان مراسيم عاشوراء ليست تخليدا للحسين وانما هي قبس من وهج شمس الاسلام التي اشرقت من جديد على ربى كربلاء وهي التي تستمد خلودها و"عافيتها" من الحسين الذي اعطاها من دفق دمه الشريف ديمومة الاستمرار..ولهذا كان اكثر الواهمين غفلة وغباء حيث اعتقد انه يستطيع ان يلغي عاشوراء بجرة قلم ويشطب على اسم الحسين بقرار يتخذه في غفلة من الزمن او يحول بين الحسين وبين الحسينيين بجدار عازل من الارهاب والقمع ففشل كما فشل من قبله الطغاة بكل قهرهم والصعاليك بكل تهافتهم والمرتزقة بكل نذالتهم...
عاشوراء ليست مراسيم روتينية او تذكارية تؤدى من باب اداء الواجب لحدث مأساوي غابر صرع فيه سبط النبي في مشهد فظيع لا نظير له او لإملاء فجوة ايدلوجية فرضتها ملابسات التاريخ..او مناسبة للتنفيس عن ضغوطات الواقع او استحضارا لتداعيات الاحداث التي ادت بمجملها الى مأساة الطف المريعة..
وهي ليست كما يتوهم البعض انها تنم عن جهل معرفي او فقر حضاري او تخلف سيوسولوجي وضحالة انثروبولوجية او هي مجرد ممارسات أداتية لاشعورية مترسبة في اللاشعور الجمعي تتناغم في تطبيقاتها مع الهوس الطقوسي الجماعي الذي تتحرك بوصلته نحو الحسين ولاتنحرف الى غيره كأن ليس في الدنيا سوى الحسين كقيمة حضارية تعيش على وقعها الجماهير..
ولم تكن مراسيم عاشوراء انفعالا او افتعالا مجردا عن الفكر والعلم والمعرفة والتحضر والتمدن والمعاصرة ولم تكن عاشوراء مجرد استحضار او معايشة دراماتيكية لاحداث لم يبق منها سوى شبح من ماض مليء بالاحداث والمآسي والمظالم... ولم تكن عاشوراء مجرد مناسبة لتفريغ الشحن المضغوطة والمنصهرة تحت وابل الاحزان والمسكوبة في شطآن الدموع حزنا على سبط الرسول...بل ان الحقيقة اكبر وأجل واسمى واعظم واكثر حزنا واقسى فداحة واشد كربا وبلاء مما قيل وما يقال وما سيقال عن تجليات كربلاء وتمظهرات عاشوراء وعن سرمدية الحسين والق وحضور الحدث الحسيني في ذاكرة الاسلام والمسلمين..
ويجل الوصف والتوصيف ويكلٌّ التشبيه والتقريب ولا يفي الايجاز ولاينفع الاطناب لتلك السويعات القليلة المرعبة من عمر الزمان تلك التي شكلت بلحظاتها وثوانيها واقعة الطف والتي عاشتها الاسرة النبوية التي اذهب الله عنها الرجس وطهرها تطهيرا ومن وفقه الله واكرمه لنيل شرف الدنيا والاخرة بالشهادة بين يدي الحسين..
وكيف وانى ذلك لمن يريد ان يعطي وصفا عاما او شرحا تاريخيا ضمن المناهج الاكاديمية وحتى ضمن المباحث التى تتوخى الدقة والموضوعية والتحليل العلمي..كيف يستطع الباحث والدارس ان يعطي تفسيرا منطقيا واحدا يفسر به ماحدث يوم عاشوراء وليس امامه سوى ان يقر شاء ام أبى كحقيقة لا تقبل الشك او النقض او المجاملة او اللف والدوران بأن الحسين ثورة الحق ضد الباطل وان كربلاء هي هوية التشيع وكاريزما الشهادة والبطولة والفداء..
وان الحقيقة الحسينية هي "الجين" الذي توارثته شيعة "ابو تراب" في الاصلاب الطاهرة والحجور الطيبة.. ولمثل هذا فليتنافس المتنافسون وليعمل العاملون..