في هدأةِ الليلِ البهيم ..
تهدأُ فيهِ الاصوات ..
وتغطُ في نومِها العميق ..
لكننَّي .. أسمعُ همسَ أصوات ..
يخالطُها البُكاءُ والحنين ..
وكأنها أشواقُ الأحبة ..
تتبعتُ الهمسَ بذهول ..
فرأيتُ جسداً مرملاً بالدماء ..
ملقى بجانبِ نهرٍ فرات ..
رأسهُ مفضوخٌ .. وكفاهُ مقطوعتان ..
ومحتضنٌ بصدرهِ قربةَ ماءٍ خالية ..
يأُنُّ بصوتٍ خفي ..
أدركني أخي يا حُسين ..
تقدمتُ نحو العراء ..
بين الأسنةِ والرِّماح ..
فرأيتُ رايةً مرفوعةً بجانبِ جسدٍ ممتلئٌ بالسهام ..
وقد تفجرتْ من تحتهِ أنهارُ الدِّماء ..
تقدمتُ نحوها .. لأَراها ..
عجباً مما أرى ..
نعم .. هي الكفَّانُ المقطوعتانِ للعباس ..
تـُمسِكانِ بالرَّايةِ عند ذلكَ الجسدِ الطَّريح ..
وإذا من بعيدٍ .. صوتُ بُكاءٍ وأنينٍ .. يقترب ..
فيقتربُ أكثر .. فياللعجب ..
أنهُ العباسُ يزحفُ من مصرعهِ إلى هذا الجسدِ المضيء ..
لكن .. تصوَّر ذلكَ المشهد ..
جسدٌ يزحفُ على الثرى وكفاهُ قطيعتان ..
ومن دونِ أن يرى .. ورأسهُ مفضوخ .. بعمدٍ من حديد ..
والدِّماءُ من خلفهِ تجرُّ أذيالها بالألم ..
إلى أن التقى الجسدان ..
وأبتدأَ حديثُ الأجساد ..
.. حديث العباس ..
سيّدي يا أبا عبد الله ..
يعزُّ عليَّ أن أراكَ معفرٌ بدمائِك ..
أين رأسُكَ المقطوع ..؟؟
أين صدرُكَ وأضلاعُك ..؟؟
أين خنصرُ يدك ..؟؟
من الذي مزَّقَ جسدَكَ الشريف ..؟؟
من .. ؟؟ ومن ..؟؟
أعذرني سيدي يا أبا عبد الله ..
لقد سمعتُ صرخاتَكَ وهي تخترقُ السَّماء ..
تطلبُ فيها النُّصرة ..
فلم أستطع النهوض ..
فكلَّما أردتُ النُّهوضَ يحتضنني الثَّرى ..
وتلاحقُكَ عيني .. وأنت تجولُ بين الخيام ..
وتنادي .. وحقَّ جدِّي أنا عُطشان ..
فيهتزُّ من على الرَّمضاء جسدي ..
فهل لي من عذرٍ أخي يا حُسين ..؟؟
.. حديت الإمام الحسين ( ع ) ..
أخي يا عباس ..
يعزُّ عليَّ أن أراكَ ولا أحتضنُك ..
ولكن أين صدري وأضلاعي ..؟؟
حطَّمتها الخيولُ الأعوجية ..
وبعثرت جسدي بحوافرِها ..
وأمتلئ جسدي من السِّهام ..
وأحتزوا رأسي ورفعوهُ فوقَ الأسنَّة الرِّماح ..
ورأسي من فوقِ السِّنان يُراقبُ النِّساء والأطفال ..
وأرى أختي زينباً في حيرةٍ وبُكاء ..
تلملمُ النِّسوةَ والأطفال ..
وتنادي بصوتها .. أدركنا أخي يا حُسين ..
فأُلملمُ أشلائي للنُّهوض ..
فكلما أرتفعَ جانب ..
سقطَ الجانبُ الآخر ..
أخي يا عباس ..
لقد أوفيتَ حقَّ السِّقاية ..
وجسَّدتَ معنى الأخوَّةَ والفِداء ..
فتقبَّلَ اللهُ منَّا ومنكَ هذا القربان ..
( انتهي حديث الأجساد )
وقفتُ بجانبِ الجسدينِ باكياً ..
أضربُ كفَّي التَّحسُّرِ والنّدم ..
وكأني بروحي يُعرجُ بها إلى السَّماء ..
آناتُ الزَّمانِ تسارعت ..
حتى تلاشت .. فأصبحت ألاّ آن ..
وإذا بالسَّماءِ تفتَّحت أبوابُها ..
وكأنَّ كفوفُ السَّماء ..
تسحبُ روحي .. دونَ شعورٍ بالإرتفاع ..
نعم .. هي الحقيقةُ تجسدت ..
فرأيتُ سُكَّانَ السَّموات ..
تبكي في حالةٍ يُرثى لها ..
فهناكَ يبكي جبرائيل ..
وهناكَ ينعى ميكائيل..
وهُنا يقودُ الملائكةَ في النِّياحِ إسرافيل..
وأرى حشوداً من الملائكة ..
تلبسُ إِحرامَها .. في تلبيةٍ وعويل ..
فقد آنَ الحجُ الأكبرِ .. يا حُسين ..
يا قطبَ دائرةِ الوجود ..
ويا قبلةَ الأرضِ والسَّموات ..
ميقاتُكَ العباس .. ومسعَاكَ زينب ..
فعشقنَاكَ حجاً كلَّ عام ..
فتقبلنا سيدي يا حُسين ..