عن أبان بن أبي عياش عن سليم بن قيس قال : سمعت سلمان الفارسي قال : لما أن قبض النبي وصنع الناس ما صنعوا جاءهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح فخاصموا الأنصار فخصموهم بحجة علي عليه السلام فقالوا : يا معاشر الأنصار ، قريش أحق بالأمر منكم لأن رسول الله صلى الله عليه وآله من قريش ، والمهاجرون خير منكم لأن الله بدأ بهم في كتابه وفضلهم وقد قال رسول الله : ( الأئمة من قريش ) . كيفية تغسيل النبي والصلاة عليه قال سلمان : فأتيت عليا وهو يغسل رسول الله . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله أوصى عليا أن لا يلي غسله غيره . فقال : يا رسول الله ، فمن يعينني على ذلك ؟ فقال : ( جبرائيل ) .
فكان علي لا يريد عضوا إلا قلب له . فلما غسله وحنطه وكفنه أدخلني وأدخل أبا ذر والمقداد وفاطمة والحسن والحسين .
فتقدم علي وصففنا خلفه وصلى عليه ، وعائشة في الحجرة لا تعلم قد أخذ الله ببصرها .
ثم أدخل عشرة من المهاجرين وعشرة من الأنصار ، فكانوا يدخلون ويدعون ويخرجون ، حتى لم يبق أحد شهد من المهاجرين والأنصار إلا صلى عليه .
أفراد قلائل بايعوا أبا بكر قال سلمان الفارسي : فأخبرت عليا - وهو يغسل رسول الله - بما صنع القوم ، وقلت : إن أبا بكر الساعة لعلى منبر رسول الله ، ما يرضون يبايعونه بيد واحدة وإنهم ليبايعونه بيديه جميعا بيمينه وشماله فقال علي : يا سلمان ، وهل تدري من أول من بايعه على منبر رسول الله ؟ قلت : لا ، إلا أني رأيته في ظلة بني ساعدة حين خصمت الأنصار ، وكان أول من بايعه المغيرة بن شعبة ثم بشير بن سعيد ثم أبو عبيدة الجراح ثم عمر بن الخطاب ثم سالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل . قال : لست أسألك عن هؤلاء ، ولكن هل تدري من أول من بايعه حين صعد المنبر ؟ قلت : لا ، ولكني رأيت شيخا كبيرا يتوكأ على عصاه ، بين عينيه سجادة شديدة التشمير ، صعد المنبر أول من صعد وخر وهو يبكي ويقول : ( الحمد لله الذي لم يمتني حتى رأيتك في هذا المكان ، ابسط يدك ) . فبسط يده فبايعه ، ثم قال : ( يوم كيوم آدم ) ثم نزل فخرج من المسجد .
فقال علي عليه السلام : يا سلمان ، أتدري من هو ؟ قلت : لا ، لقد ساءتني مقالته كأنه شامت بموت رسول الله . قال علي عليه السلام : فإن ذلك إبليس لعنه الله . إبليس ينتقم بالسقيفة من يوم الغدير أخبرني رسول الله : إن إبليس ورؤساء أصحابه شهدوا نصب رسول الله إياي يوم غدير خم بأمر الله ، وأخبرهم بأني أولى بهم من أنفسهم وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب . فأقبل إلى إبليس أبالسته ومردة أصحابه فقالوا : ( إن هذه الأمة أمة مرحومة معصومة ، فما لك ولا لنا عليهم سبيل ، وقد أعلموا مفزعهم وإمامهم بعد نبيهم ) . فانطلق إبليس كئيبا حزينا .
قال أمير المؤمنين عليه السلام : أخبرني رسول الله بعد ذلك وقال : يبايع الناس أبا بكر في ظلة بني ساعدة بعد تخاصمهم بحقنا وحجتنا . ثم يأتون المسجد فيكون أول من يبايعه على منبري إبليس في صورة شيخ كبير مشمر يقول كذا وكذا .
ثم يخرج فيجمع أصحابه وشياطينه وأبالسته فيخرون سجدا فيقولون : ( يا سيدنا ، يا كبيرنا ، أنت الذي أخرجت آدم من الجنة ) . فيقول : أي أمة لن تضل بعد نبيها ؟ كلا ، زعمتم أن ليس لي عليهم سلطان ولا سبيل ؟ فكيف رأيتموني صنعت بهم حين تركوا ما أمرهم الله به من طاعته وأمرهم به رسول الله وذلك قوله تعالى : ( ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين ) .
أمير المؤمنين يقيم الحجة على الأجيال قال سلمان : فلما أن كان الليل حمل علي عليه السلام فاطمة عليها السلام على حمار وأخذ بيدي ابنيه الحسن والحسين ، فلم يدع أحدا من أهل بدر من المهاجرين ولا من الأنصار إلا أتاه في منزله فذكرهم حقه ودعاهم إلى نصرته ، فما استجاب له منهم إلا أربعة وأربعون رجلا . فأمرهم أن يصبحوا بكرة محلقين رؤوسهم معهم سلاحهم ليبايعوا على الموت . فأصبحوا فلم يواف منهم أحد إلا أربعة . فقلت لسلمان : من الأربعة ؟ فقال : أنا وأبو ذر والمقداد والزبير بن العوام .
ثم أتاهم علي من الليلة المقبلة فناشدهم ، فقالوا : ( نصبحك بكرة ) فما منهم أحد أتاه غيرنا . ثم أتاهم الليلة الثالثة فما أتاه غيرنا . علي يجمع القرآن ويعرضه على الناس فلما رآى غدرهم وقلة وفائهم له لزم بيته وأقبل على القرآن يؤلفه ويجمعه ، فلم يخرج من بيته حتى جمعه وكان في الصحف والشظاظ والأسيار والرقاع .
فلما جمعه كله وكتبه بيده على تنزيله وتأويله والناسخ منه والمنسوخ ، بعث إليه أبو بكر أن اخرج فبايع . فبعث إليه علي : ( إني لمشغول وقد آليت نفسي يمينا أن لا أرتدي رداء إلا للصلاة حتى أؤلف القرآن وأجمعه ) . فسكتوا عنه أياما فجمعه في ثوب واحد وختمه ، ثم خرج إلى الناس وهم مجتمعون مع أبي بكر في مسجد رسول الله . فنادى علي بأعلى صوته : ( يا أيها الناس ، إني لم أزل منذ قبض رسول الله مشغولا بغسله ثم بالقرآن حتى جمعته كله في هذا الثوب الواحد . فلم ينزل الله تعالى على رسول الله آية إلا وقد جمعتها ، وليست منه آية إلا وقد جمعتها وليست منه آية إلا وقد أقرأنيها رسول الله وعلمني تأويلها ) . ثم قال لهم علي عليه السلام : لئلا تقولوا غدا : ( إنا كنا عن هذا غافلين ) .
ثم قال لهم علي : لئلا تقولوا يوم القيامة إني لم أدعكم إلى نصرتي ولم أذكركم حقي ، ولم أدعكم إلى كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته . فقال عمر : ما أغنانا ما معنا من القرآن عما تدعونا إليه ثم دخل علي بيته .
إقامة الحجة على أبي بكر في ما ادعاه من ألقاب وقال عمر لأبي بكر : أرسل إلى علي فليبايع ، فإنا لسنا في شئ حتى يبايع ، ولو قد بايع أمناه .
فأرسل إليه أبو بكر : ( أجب خليفة رسول الله ) فأتاه الرسول فقال له ذلك . فقال له علي : ( سبحان الله ما أسرع ما كذبتم على رسول الله ، إنه ليعلم ويعلم الذين حوله أن الله ورسوله لم يستخلفا غيري ) . وذهب الرسول فأخبره بما قال له . قال : اذهب فقل له : ( أجب أمير المؤمنين أبا بكر ) فأتاه فأخبره بما قال . فقال له علي : سبحان الله ما والله طال العهد فينسى .
فوالله إنه ليعلم أن هذا الاسم لا يصلح إلا لي ، ولقد أمره رسول الله وهو سابع سبعة فسلموا علي بإمرة المؤمنين . فاستفهم هو وصاحبه عمر من بين السبعة فقالا : أحق من الله ورسوله ؟ فقال لهما رسول الله : نعم ، حقا حقا من الله ورسوله إنه أمير المؤمنين وسيد المسلمين وصاحب لواء الغر المحجلين ، يقعده الله عز وجل يوم القيامة على الصراط ، فيدخل أوليائه الجنة وأعداءه النار .
فانطلق الرسول فأخبره بما قال . قال : فسكتوا عنه يومهم ذلك . إتمام الحجة على الأنصار ومطالبتهم بالوفاء ببيعتهم فلما كان الليل حمل علي فاطمة على حمار وأخذ بيدي ابنيه الحسن والحسين ، فلم يدع أحدا من أصحاب رسول الله إلا أتاه في منزله ، فناشدهم الله حقه ودعاهم إلى نصرته . فما استجاب منهم رجل غيرنا الأربعة ، فإنا حلقنا رؤوسنا وبذلنا له نصرتنا ، وكان الزبير أشدنا بصيرة في نصرته .
شهادة فاطمة الزهراء هجوم قبائل قريش على بيت الوحي وإحراقه فلما رآى علي عليه السلام خذلان الناس إياه وتركهم نصرته واجتماع كلمتهم مع أبي بكر وطاعتهم له وتعظيمهم إياه لزم بيته .
فقال عمر لأبي بكر : ما يمنعك أن تبعث إليه فيبايع ، فإنه لم يبق أحد إلا وقد بايع غيره وغير هؤلاء الأربعة . وكان أبو بكر أرق الرجلين وأرفقهما وأدهاهما وأبعدهما غورا ، والآخر أفظهما وأغلظهما وأجفاهما .
فقال أبو بكر : من نرسل إليه ؟ فقال عمر : نرسل إليه قنفذا ، وهو رجل فظ غليظ جاف من الطلقاء أحد بني عدي بن كعب . فأرسله إليه وأرسل معه أعوانا وانطلق فاستأذن على علي عليه السلام ، فأبى أن يأذن لهم .
فرجع أصحاب قنفذ إلى أبي بكر وعمر - وهما جالسان في المسجد والناس حولهما - فقالوا : لم يؤذن لنا . فقال عمر : اذهبوا ، فإن أذن لكم وإلا فادخلوا عليه بغير إذن فانطلقوا فاستأذنوا ، فقالت فاطمة : ( أحرج عليكم أن تدخلوا على بيتي بغير إذن ) .
فرجعوا وثبت قنفذ الملعون .
فقالوا : إن فاطمة قالت كذا وكذا فتحرجنا أن ندخل بيتها بغير إذن .
فغضب عمر وقال : ما لنا وللنساء ثم أمر أناسا حوله أن يحملوا الحطب فحملوا الحطب وحمل معهم عمر ، فجعلوه حول منزل علي وفاطمة وابناهما .
ثم نادى عمر حتى أسمع عليا وفاطمة : ( والله لتخرجن يا علي ولتبايعن خليفة رسول الله وإلا أضرمت عليك بيتك النار ) فقالت فاطمة : يا عمر ، ما لنا ولك ؟ فقال : افتحي الباب وإلا أحرقنا عليكم بيتكم . فقالت : ( يا عمر ، أما تتقي الله تدخل على بيتي ) ؟ فأبى أن ينصرف .
ودعا عمر بالنار فأضرمها في الباب ثم دفعه فدخل فاستقبلته فاطمة عليها السلام وصاحت : ( يا أبتاه يا رسول الله ) فرفع عمر السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها فصرخت : ( يا أبتاه ) فرفع السوط فضرب به ذراعها فنادت : ( يا رسول الله ، لبئس ما خلفك أبو بكر وعمر ) .
دفاع علي عن سليلة النبوة فوثب علي عليه السلام فأخذ بتلابيبه ثم نتره فصرعه ووجأ أنفه ورقبته وهم بقتله ، فذكر قول رسول الله وما أوصاه به ، فقال : ( والذي كرم محمدا بالنبوة - يا بن صهاك - لولا كتاب من الله سبق وعهد عهده إلي رسول الله صلى الله عليه وآله لعلمت إنك لا تدخل بيتي ) .
أبو بكر يصدر أمره بإحراق البيت مرة أخرى فأرسل عمر يستغيث ، فأقبل الناس حتى دخلوا الدار وثار علي عليه السلام إلى سيفه . فرجع قنفذ إلى أبي بكر وهو يتخوف أن يخرج علي إليه بسيفه ، لما قد عرف من بأسه وشدته . فقال أبو بكر لقنفذ : ( إرجع ، فإن خرج وإلا فاقتحم عليه بيته ، فإن امتنع فاضرم عليهم بيتهم النار ) .
فانطلق قنفذ الملعون فاقتحم هو وأصحابه بغير إذن ، وثار علي إلى سيفه فسبقوه إليه وكاثروه وهم كثيرون ، فتناول بعضهم سيوفهم فكاثروه وضبطوه فألقوا في عنقه حبلا وحالت بينهم وبينه فاطمة عند باب البيت ، فضربها قنفذ الملعون بالسوط فماتت حين ماتت وإن في عضدها كمثل الدملج من ضربته ، لعنه الله ولعن من بعث به .
بيعة أمير المؤمنين عليه السلام بالجبر والإكراه ثم انطلق بعلي عليه السلام يعتل عتلا حتى انتهي به إلى أبي بكر ، وعمر قائم بالسيف على رأسه ، وخالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل والمغيرة بن شعبة وأسيد بن حضير وبشير بن سعيد وسائر الناس جلوس حول أبي بكر عليهم السلاح الدخول إلى بيت فاطمة بغير إذن قال : قلت لسلمان : أدخلوا على فاطمة بغير إذن ؟ قال : إي والله ، وما عليها من خمار فنادت : ( وا أبتاه ، وارسول الله يا أبتاه فلبئس ما خلفك أبو بكر وعمر عيناك لم تتفقأ في قبرك ) - تنادي بأعلى صوتها - .
فلقد رأيت أبا بكر ومن حوله يبكون وينتحبون ما فيهم إلا باك غير عمر وخالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة وعمر يقول : إنا لسنا من النساء ورأيهن في شئ .
أمير المؤمنين عليه السلام يقيم الحجة على قريش قال : فانتهوا بعلي إلى أبي بكر وهو يقول : أما والله لو وقع سيفي في يدي لعلمتم أنكم لن تصلوا إلى هذا أبدا . أما والله ما ألوم نفسي في جهادكم ، ولو كنت استمكنت من الأربعين رجلا لفرقت جماعتكم ، ولكن لعن الله أقواما بايعوني ثم خذلوني . ولما أن بصر به أبو بكر صاح : ( خلوا سبيله ) فقال علي : يا أبا بكر ، ما أسرع ما توثبتم على رسول الله بأي حق وبأي منزلة دعوت الناس إلى بيعتك ؟ ألم تبايعني بالأمس بأمر الله وأمر رسول الله ؟ وقد كان قنفذ لعنه الله ضرب فاطمة بالسوط - حين حالت بينه وبين زوجها وأرسل إليه عمر : ( إن حالت بينك وبينه فاطمة فاضربها ) - فألجأها قنفذ لعنه الله إلى عضادة باب بيتها ودفعها فكسر ضلعها من جنبها فألقت جنينا من بطنها . فلم تزل صاحبة فراش حتى ماتت صلى الله عليها من ذلك شهيدة .
روي عن الإمام الصادق سبب استشهادها : أن قنفذ مولى عمر لكزها بنعل السيف بأمره فأسقطت محسنا ، ومرضت من ذلك مرضا شديدا ، وكان علي يمرضها بنفسه ، وتعينه على ذلك أسماء بنت عميس ، وفي يوم دخلت نسوة من المهاجرين والأنصار على فاطمة بنت رسول الله يعدنها فقلن : السلام عليك يا بنت رسول الله كيف أصبحت ؟ فقالت : أصبحت والله عائفة لديناكن قالية لرجالكم ، لفظتهم بعد إذ مججتهم وسئمتهم بعد أن سبرتهم ، فقبحا لأفون الرأي وخطل القول وخور القناة ، ولبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون لا جرم والله لقد قلدتهم ربقتها وشننت عليهم عارها فجدعا ورغما للقوم الظالمين .
ويحهم أنى زحزحوها عن أبي الحسن ، ما نقموا والله منه إلا نكير سيفه ونكال وقعه ، وتنمره في ذات الله ، وتا الله لو تكافوا عليه عن زمام نبذه إليه رسول الله لأتميله ، ثم لسار بهم سيرة سجحا فإنه قواعد الرسالة ورواسي النبوة ، ومهبط الروح الأمين ، والطبيب بأمر الدين والدنيا والآخرة إلا ذلك هو الخسران المبين .
والله لا يلتكم خشاشة ، ولا يتعتع راكبه ، ولأوردهم منهلا رويا فضفاضا تطفح ضفته ، ولأصدرهم بطانا قد خثر بهم الري ، غير متحل بطائل إلا تغمر الناهل وردع سورة سغب ، ولو فتحت عليهم بركات من السماء والأرض وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون ، فهلم فاسمع ، فما عشت أراك الدهر عجبا ، وإن تعجب بعد الحادث ، فما بالهم بأي سند استندوا ، أم بأي عروة تمسكوا ، لبئس العشير ، وبئس للظالمين بدلا ، استبدلوا الذنابى بالقوادم ، والحرون بالقاحم ، والعجز بالكاهل ، فتعسا لقوم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، ألا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ، أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدي لكم كيف تحكمون . لقحت قنطرة فنظرة ريثما تنتج ، ثم احتبلوا طلاع القعب دما عبيطا ، وذعافا ممضا ، هنالك يخسر المبطلون ، ويعرف التالون غب ما أسس الأولون ، ثم طيبوا بعد ذلك بأنفسكم لفتنها ، ثم اطمأنوا للفتنة جأشا وأبشروا بسيف صارم ، وهرج دائم شامل ، واستبداد من الظالمين . يدع فيئكم زهيدا ، وجمعكم حصيدا ، فيا حسرة لهم ، ولقد عميت عليهم الأنباء أنلزمكموها وأنتم لها كارهون .
الهموم المتراكمة ليس المرض لوحده سبب آلام الزهراء ، ووجدها وحزنها ، وإنما كانت الهموم تجتاحها من كل حدب وصوب ، فحينما كانت تمد جسدها النحيل المكدور على جلد الكبش وتتكئ على وسادة الليف ، تنساب الخواطر إلى رأسها الشريف ، وتهجم عليها الهواجس ، وكأن لسان حالها الشريف : آه . . تركوا وصية أبي . . . وغصبوا الخلافة من زوجي ؟ ! ولن تنتهي آثارها إلى يوم القيامة . . . فبئس عاقبة الخلافة التي توسلت بالحيلة والجور . . بماذا سار المسلمون وانتشرت كلمة الإسلام ؟ ! بوحدة الكلمة ! والاتحاد بين فصائل المجتمع وصلوا إلى العظمة والرقي . . آه . . اذهبوا ريحهم . . وأوقعوا الخلاف بينهم ، وبدلوا قوة الإسلام الواحدة وطاقة المسلمين المهيبة إلى قوى وطاقات متناثرة ، وجروا العالم الإسلامي إلى العجز والضعف والفرقة والذلة . . آه . . . أنا فاطمة - عزيزة رسول الله - ارقد الآن على فراش المرض ؟ ! لم يخف أنيني من ضربات هذه الأمة المبرحة . . وأقف على أعتاب الموت ؟ . . . أين وصايا أبي رسول الله ؟ . . . رباه . . أعلي الشجاع القوي أراه - اليوم - مضطرا إلى السكوت عن حقه المشروع لحفظ مصلحة الإسلام العليا ؟ . . . اقتربت ساعتي . . وحان أجلي . . وها أنذا أودع الحياة في ربيع عمري وأيام شبابي . . . وسأنجو من الهموم والغصص . . ولكن . . ماذا عن أيتامي الذين سيبقون بعدي ؟ . . أولادي . . . الحسن . . الحسين . . زينب . . أم كلثوم . . آه . . يا للمصائب التي تصب عليهم - أيتامي الأعزاء على قلبي - . . فإني سمعت أبي يقول - مرارا - : يموت ولدك الحسن مسموما ، والحسين مقتولا بالسيف شهيدا عطشانا . . وهذه علامات ذلك وإمارته تلوح لي وأراها بعيني . . . كان يأخذ صغيري الحسين - مرة - ويقبل نحره ويبكي لمصيبته ، ويأخذ الحسن - أخرى - ويلصق صدره بصدره ويقبله في فمه ، ويذكر مصائب زينب ، وأم كلثوم فيبكي . . . نعم . . كانت تمر هذه الخواطر في ذهن فاطمة وتؤلمها ، فتشحب يوما بعد يوم ، وتنحل ساعة بعد ساعة ، وقد ورد في الأثر أن فاطمة لما حضرتها الوفاة بكت ، فقال لها أمير المؤمنين : يا سيدتي ما يبكيك ؟ قالت : أبكي لما تلقى بعدي ، فقال لها : لا تبكي ، فوالله إن ذلك لصغير عندي في ذات الله .
العيادة المبغوضة كان الصحابة رجالا ونساء يعودون فاطمة بين الحين والحين ، إلا عمر وأبا بكر لم يعوداها لأنها قاطعتهم ورفضتهم ولم تأذن لهم بعيادتها ، وحينما ثقل عليها المرض وقاربتها الوفاة لم يجدا بدا من عيادتها لئلا تموت بنت النبي ، وهي ساخطة عليهما ، وتبقى وصمة العار تلاحق الخليفة وجهازه الحاكم إلى يوم القيامة .
فجاءا لعيادتها تحت ضغط الرأي العام ، فسألا عنها ، وقالا لأمير المؤمنين : قد كان بيننا وبينها ما قد علمت فإن رأيت أن تأذن لنا لنعتذر إليها من ذنبنا . قال : ذلك إليكما . فقاما فجلسا الباب .
ودخل علي على فاطمة فقال لها : أيتها الحرة ، فلان وفلان بالباب ، يريدان أن يسلما عليك فما تريدين ؟ قالت : البيت بيتك ، والحرة زوجتك ، افعل ما تشاء ! فقال : شدي قناعك ، فشدت قناعها ، وحولت وجهها إلى الحائط . فدخلا وسلما وقالا : أرضي عنا رضي الله عنك ، فقالت : ما دعا إلى هذا ؟ فقالا : اعترفنا بالإساءة ورجونا أن تعفي عنا . فقالت : إن كنتما صادقين فأخبراني عما أسألكما عنه ، فإني لا أسألكما عن أمر إلا وأنا عارفة ، بأنكما تعلمانه ، فإن صدقتماني علمت أنكما صادقان في مجيئكما . قالا : سلي عما بدا لك . قالت : نشدتكما بالله ، هل سمعتما رسول الله يقول : " فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني " ؟ قالا : نعم . فرفعت يدها إلى السماء ، فقالت : اللهم إنهما قد آذاني ، فأنا أشكوهما إليك وإلى رسولك ، لا والله لا أرضى عنكما أبدا حتى ألقى أبي رسول الله ، وأخبره بما صنعتما فيكون هو الحاكم فيكما . قال : فعند ذلك دعا أبو بكر بالويل والثبور ، فقال عمر : تجزع يا خليفة رسول الله من قول امرأة ؟.