قال ( عليه السلام ) : ( الحمد لله الذي أعدم الأوهام أن تنال إلاّ وجوده ، وحجب العقول أن تخال ذاته ؛ لامتناعها من الشبه والتشاكل ، بل هو الذي لا يتفاوت ذاته ، ولا يتبعّض بتجزئة العدد في كماله ، فارق الأشياء لا باختلاف الأماكن ، ويكون فيها لا على الممازجة ، وعلمها لا بأداة ، لا يكون العلم إلاّ بها ، وليس بينه وبين معلومه علم غيره كان عالماً لمعلومه .
إن قيل : كان فعلى تأويل أزلية الوجود .
وإن قيل : لم يزل فعلى تأويل نفي العدم .
فسبحانه وتعالى عن قول من عبد سواه فاتخذ إلهاً غيره علواً كبيراً ، نحمده بالحمد الذي ارتضاه من خلقه ، وأوجب قبوله على نفسه ، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله .
شهادتان ترفعان القول وتضعان العمل ، خف ميزان ترفعان منه ، وثقل ميزان توضعان فيه ، وبهما الفوز بالجنّة والنجاة من النار ، والجواز على الصراط ، وبالشهادة تدخلون الجنّة ، وبالصلاة تنالون الرحمة ، فأكثروا من الصلاة على نبيكم ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) .
أيها الناس : إنّه لا شرف أعلى من الإسلام ، ولا كرم أعز من التقوى ، ولا معقل أحرز من الورع ، ولا شفيع أنجح من التوبة ، ولا لباس أجل من العافية ، ولا وقاية أمنع من السلامة ، ولا مال أذهب بالفاقة من الرضى والقنوع ، ومن اقتصر على بلغة الكفاف فقد انتظم الراحة ، والرغبة مفتاح التعب ، والاحتكار مطية النصب .
والحسد آفة الدين ، والحرص داع إلى التقحم في الذنوب ، وهو داع إلى الحرمان ، والبغي سائق إلى الحين ، والشره جامع لمساوي العيوب ، رب طمع خائب ، وأمل كاذب ، ورجاء يؤدي إلى الحرمان ، وتجارة تؤول إلى الخسران ، ألا ومن تورط في الأمور غير ناظر في العواقب ، فقد تعرّض لمفضحات النوائب ، وبئست القلادة الدين للمؤمن .
أيها الناس : إنّه لا كنز أنفع من العلم ، ولا عز أنفع من الحلم ، ولا حسب أبلغ من الأدب ، ولا نصب أوجع من الغضب ، ولا جمال أحسن من العقل ، ولا قرين شر من الجهل ، ولا سوأة أسوء من الكذب ، ولا حافظ أحفظ من الصمت ، ولا غائب أقرب من الموت .
أيها الناس : إنّه من نظر في عيب نفسه شغل عن عيب غيره ، ومن رضي برزق الله لم يأسف على ما في يد غيره ، ومن سل سيف البغي قتل به ، ومن حفر لأخيه بئراً وقع فيها ، ومن هتك حجاب غيره انكشفت عورات بيته ، ومن نسى زلته استعظم زلل غيره ، ومن أعجب برأيه ضل ، ومن استغنى بعقله زل ، ومن تكبّر على الناس ذل ، ومن سفه على الناس شتم ، ومن خالط العلماء وقر ، ومن خالط الأنذال حقر ، ومن حمل ما لا يطيق عجز .
أيها الناس : إنّه لا مال هو أعود من العقل ، ولا فقر هو أشد من الجهل ، ولا واعظ هو أبلغ من النصح ، ولا عقل كالتدبير ، ولا عبادة كالتفكر ، ولا مظاهرة أوثق من المشاورة ، ولا وحدة أوحش من العجب ، ولا ورع كالكف ، ولا حلم كالصبر والصمت .
أيها الناس : إنّ في الإنسان عشر خصال يظهرها لسانه ، شاهد يخبر عن الضمير ، وحاكم يفصل بين الخطاب ، وناطق يرد به الجواب ، وشافع تدرك به الحاجة ، وواصف تعرف به الأشياء ، وأمير يأمر بالحسن ، وواعظ ينهى عن القبيح ، ومعز تسكن به الأحزان ، وحامد تجلى به الضغائن ، ومونق يلهي الأسماع .
أيها الناس : إنّه لا خير في الصمت عن الحكم ، كما أنّه لا خير في القول بالجهل .
اعلموا أيها الناس : إنّه من لم يملك لسانه يندم ، ومن لا يتعلّم يجهل ، ومن لا يتحلم لا يحلم ، ومن لا يرتدع لا يعقل ، ومن لا يعقل يهن ، ومن يهن لا يوقر ، ومن يتق ينج ، ومن يكسب مالاً من غير حقّه يصرفه في غير أجره ، ومن لا يدع وهو محمود يدع وهو مذموم ، ومن لم يعط قاعداً منع قائماً ، ومن يطلب العز بغير حق يذل ، ومن عاند الحق لزمه الوهن ، ومن تفقّه وقر ، ومن تكبّر حقر ، ومن لا يحسن لا يحمد .
أيها الناس : إنّ المنية قبل الدنية ، والتجلد قبل التبلد ، والحساب قبل العقاب ، والقبر خير من الفقر ، وعمى البصر خير من كثير من النظر ، والدهر يومان : يوم لك ويوم عليك ، فاصبر فبكليهما تمتحن .
أيها الناس : أعجب ما في الإنسان قلبه ، وله مواد من الحكمة وأضداد من خلافها ، فإن سنح له الرجاء أذلّه الطمع ، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص ، وإن ملكه اليأس قتله الأسف ، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ ، وإن اسعد بالرضى نسي التحفظ ، وإن ناله الخوف شغله الحزن ، وإن اتسع بالأمن استلبته الغرة ، وإن جددت له نعمة أخذته العزة ، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى ، وإن عضته فاقة شغله البلاء ، وإن أصابته مصيبة فضحه الجزع ، وإن أجهده الجزع قعد به الضعف ، وإن افرط في الشبع كظته البطنة ، فكل تقصير به مضر، وكل إفراط له مفسد .
أيها الناس : من قل ذل ، ومن جاد ساد ، ومن كثر ماله رأس ، ومن كثر حلمه نبل ، ومن فكر في ذات الله تزندق ، ومن أكثر من شئ عرف به ، ومن كثر مزاحه استخف به ، ومن كثر ضحكه ذهبت هيبته ، فسد حسب من ليس له أدب ، إنّ أفضل الفعال صيانة العرض بالمال ، ليس من جالس الجاهل بذي معقول ، من جالس الجاهل فليستعد لقيل وقال ، لن ينجو من الموت غني بماله ، ولا فقير لإقلاله .
أيها الناس : إنّ للقلوب شواهد تجري الأنفس عن مدرجة أهل التفريط ، فطنة الفهم للمواعظ ممّا يدعو النفس إلى الحذر من الخطأ ، وللنفوس خواطر للهوى ، والعقول تزجر وتنهى ، وفي التجارب علم مستأنف ، والاعتبار يقود إلى الرشاد ، وكفاك أدبا لنفسك ما تكرهه من غيرك ، عليك لأخيك المؤمن مثل الذي لك عليه ، لقد خاطر من استغنى برأيه ، والتدبير قبل العمل يؤمنك من الندم ، ومن استقبل وجوه الآراء عرف مواقف الخطاء ، ومن أمسك عن الفضول عدلت رأيه العقول .
ومن حصر شهوته فقد صان قدره ، ومن أمسك لسانه أمنه قومه ونال حاجته ، وفي تقلب الأحوال علم جواهر الرجال ، والايام توضح لك السرائر الكامنة ، وليس في البرق الخاطف مستمتع لمن يخوض في الظلمة ، ومن عرف بالحكمة لحظته العيون بالوقار والهيبة ، وأشرف الغنى ترك المنى ، والصبر جنّة من الفاقة ، والحرص علامة الفقر ، والبخل جلباب المسكنة ، والمودة قرابة مستفادة ، ووصول معدم خير من جاف مكثر ، والموعظة كهف لمن وعاها ، ومن أطلق طرفه كثر أسفه ، ومن ضاق خلقه مله أهله .
ومن نال استطال قل ما تصدقك الأمنية ، التواضع يكسوك المهابة ، وفي سعة الأخلاق كنوز الأرزاق ، من كساه الحياء ثوبه خفي على الناس عيبه ، تحر القصد من القول ، فإنّه من تحرى القصد خفت عليه المؤن ، في خلاف النفس رشدها ، من عرف الأيام لم يغفل عن الاستعداد ، ألا وإنّ مع كل جرعة شرقا ، وفي كل أكلة غصصا ، لا تنال نعمة إلاّ بزوال أخرى ، لكل ذي رمق قوت ، ولكل حبة آكل ، وأنت قوت الموت .
اعلموا أيها الناس : إنّه من مشى على وجه الأرض ، فإنه يصير إلى بطنها ، والليل والنهار يتسارعان في هدم الأعمار .
أيها الناس : كفر النعمة لؤم ، وصحبة الجاهل شوم ، من الكرم لين الكلام ، إياك والخديعة فإنّها من خلق اللئام ، ليس كل طالب يصيب ، ولا كل غائب يؤوب ، لا ترغب فيمن زهد فيك ، رب بعيد هو أقرب من قريب ، سل عن الرفيق قبل الطريق ، وعن الجار قبل الدار ، استر عورة أخيك لما تعلمه فيك ، اغتفر زلة صديقك ليوم يركبك عدوك ، من غضب على من لا يقدر أن يضره طال حزنه وعذب نفسه ، من خاف ربّه كف ظلمه ، ومن لم يعرف الخير من الشر فهو بمنزلة البهيمة .
إنّ من الفساد إضاعة الزاد ، ما أصغر المصيبة مع عظم الفاقة غداً ، وما تناكرتم إلاّ لما فيكم من المعاصي والذنوب ، ما أقرب الراحة من التعب ، والبؤس من التغيير ، ما شر بشر بعده الجنة ، وما خير بخير بعده النار ، وكل نعيم دون الجنّة محقور ، وكل بلاء دون النار عافية ، عند تصحيح الضمائر تبدو الكبائر ، تصفية العمل أشد من العمل ، تخليص النية عن الفساد أشد على العاملين من طول الجهاد ، هيهات لولا التقى كنت أدهى العرب .
عليكم بتقوى الله في الغيب والشهادة ، وكلمة الحق في الرضى والغضب ، والقصد في الغنى والفقر ، وبالعدل على العدو والصديق ، وبالعمل في النشاط والكسل ، والرضى عن الله في الشدّة والرخاء .
ومن كثر كلامه كثر خطاؤه ، ومن كثر خطاؤه قل حياؤه ، ومن قل حياؤه قل ورعه ، ومن قل ورعه مات قلبه ، ومن مات قلبه دخل النار .
ومن تفكّر اعتبر ، ومن اعتبر اعتزل ، ومن اعتزل سلم ، ومن ترك الشهوات كان حراً ، ومن ترك الحسد كانت له المحبّة عند الناس ، عز المؤمن غناه عن الناس ، القناعة مال لا ينفد ، ومن أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا اليسير ، ومن علم أنّ كلامه من عمله ، قل كلامه إلاّ فيما ينفعه .
العجب ممّن يخاف العقاب فلا يكف ، ويرجو الثواب ولا يتوب ، ويعمل الفكرة تورث نوراً ، والغفلة ظلمة ، والجهالة ضلالة ، والسعيد من وعظ بغيره ، والأدب خير ميراث ، حسن الخلق خير قرين ، ليس مع قطيعة الرحم نماء ، ولا مع الفجور غنى ، العافية عشرة أجزاء ، تسعة منها في الصمت إلاّ بذكر الله ، وواحد في ترك مجالسة السفهاء ، رأس العلم الرفق ، وآفته الخرق ، ومن كنوز الإيمان الصبر على المصائب ، والعفاف زينة الفقر ، والشكر زينة الغنى .
كثرة الزيارة تورث الملالة ، والطمأنينة قبل الخبرة ضد الحزم ، إعجاب المرء بنفسه يدل على ضعف عقله ، لا تؤيس مذنباً ، فكم من عاكف على ذنبه ختم له بخير ، وكم من مقبل على عمله مفسد في آخر عمره ، صائر إلى النار بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد ، طوبى لمن أخلص لله عمله وعلمه ، وحبه وبغضه ، وأخذه وتركه وكلامه وصمته ، وفعله وقوله .
لا يكون المسلم مسلماً حتّى يكون ورعاً ، ولن يكون ورعاً حتّى يكون زاهداً ، ولن يكون زاهداً حتّى يكون حازماً ، ولن يكون حازماً حتّى يكون عاقلاً ، وما العاقل إلاّ من عقل عن الله ، وعمل للدار الآخرة ، وصلى الله على محمّد النبي وعلى أهل بيته الطاهرين )