نرى في بعض
روايات الأنبياء والأئمة (ع)، أن الإنسان تارة يوكل أمره إلى الله عز وجل، ولا يطلب
منه شيئا وشعاره دائما وأبدا: (علمك بحالي يغني عن
سؤالي)
..
وهذه حالة
إبراهيمية،
عندما بدأ قوم إبراهيم (ع) الاستعداد لإحراقه، وحفروا حفرة عظيمة
ملئوها بالحطب والخشب والأشجار، وأشعلوا فيها النار.. وأحضروا المنجنيق وهو آلة
جبارة، ليقذفوا إبراهيم فيها فيسقط في حفرة
النار..
ووضعوا
إبراهيم بعد أن قيدوا يديه وقدميه في المنجنيق.. واشتعلت النار في الحفرة، وتصاعد
اللهب إلى السماء.. وكان الناس يقفون بعيدا عن الحفرة من فرط الحرارة اللاهبة..
وأصدر
كبير الكهنة أمره بإطلاق
إبراهيم في النار.. جاء جبريل -عليه السلام- ووقف عند رأس إبراهيم، وسأله: يا
إبراهيم.. ألك حاجة؟.. قال إبراهيم: أما إليك فلا.
هذه حالة
إبراهيمية:
وهي أن
الإنسان لا يطلب من الله شيئا، ولعل ما يؤيد هذا المعنى الإبراهيمي قوله تعالى:
{وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ
بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}..
مثال ذلك في عالم
المحاماة، عندما يفوض الإنسان أمره إلى المحامي، ثم يتصل به ليعلمه كيف يعمل.. هنا
تقع المشكلة، فيقول له: أنت وكلتني وفوضتني، فلماذا تتدخل في
شؤوني؟!..
هذه حالة، وفي المقابل هناك حالة معاكسة: نرى الأئمة (ع)
في جزئيات الأمور، يطلبون من الله -عز وجل- المدد والقوة، حتى أن المعصوم (ع) يقول:
(إن لم تكن ساخطاً علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع
لي)؛
أي يا رب أريد منك العافية.. ونحن نقول في السجود: (اللهم!.. إنا نسألك العفو والعافية؛ في الدين والدنيا
والآخرة).
فإذن، إن هناك روايتين: تلك رواية إبراهيمية، وهناك
رواية موسوية كليمية، ورد في حدث قدسي: (يا موسى!.. سلني كلّ ما تحتاج إليه، حتّى
علف شاتك، وملح عجينك).. أي الحالتين هي الأقرب:
حالة إبراهيم (ع) عندما ألقي في النار وشعاره
(أفوض أمري إلى الله)، أو الحالة الموسوية.. وكلاهما من أنبياء أولي
العزم، فبأي السنتين نقتدي؟..
إن هناك أجوبة مختلفة على هذا
التساؤل، ومنها:
أولا:
الاختلاف في الحالات: لا موسى (ع) كان هكذا دائما، ولا إبراهيم (ع) كان دائما هكذا؛
أي لا يطلب من الله شيئا.. والدليل على ذلك عندما أسكن ذريته في واد غير ذي زرع، لم
يفوض أمره لله فحسب!.. بل قال: {رَّبَّنَا إِنِّي
أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ
رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي
إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ
يَشْكُرُونَ}..
إذن،
تمسك بعالم الأسباب.. فالحالات مختلفة:
إبراهيم وهو يلقى في النار أحس بالانقطاع التام،
ورأى أن الفرج لا يكون إلا من عند رب العالمين.. وأما في مكة عندما ترك هاجر
وإسماعيل، كان يعيش حالة أخرى..
فالمؤمن له حالات
، ولهذا ينوع: تارة يطلب تفاصيل الأمور، وتارة يبلغ
حالة من حالات التفويض، كأنه يستحي أن يطلب من الله عز وجل..
عندما يذهب الإنسان
إلى المدينة أو إلى طوس، وله حوائج مادية كبيرة، عندما يقف أمام الضريح، وتجري
دمعته ويتفاعل بالدعاء؛ ينسى حاجته ويقول: وأنا بهذا الحال أطلب من الإمام أشياء
مادية؟.. هذا أمر مخجل!..
ثانيا: الجمع بين الحالتين: لا مانع من
الجمع بينهما؛ أي أن يقول الإنسان: أفوّض أمري إليك، ولكن ميلي الباطني، أن تصلح لي
زوجتي.. أنا رغبتي أن تجمع لي زوجتي وولدي، ولكن إذا أنت لا تريد ذلك، الأمر إليك
في النهاية..
كأن
يقول الموكل للمحامي: أنا أقترح عليك كذا وكذا، ولكن الأمر إليك في
النهاية..
فإذن،
إن المؤمن وهو يطلب جزئيات الأمور يختمها بقوله: (يا
رب!.. أفوض الأمر إليك).. (اللهم!.. فاجعل نفسي مطمئنة بقدرك، راضية
بقضائك)..
لا مانع أن نجمع بين الحالة الإبراهيمية
والحالة الموسوية .