إن هذا الرواية المنقولة عن الإمام الصادق (ع) تستحق أن تكتب بالنور.. قال الإمام الصادق (ع): (إن القلب إذا صفا، ضاقت به الأرض حتى يسمو).
أولاً: ما معنى القلب إذا صفا؟..
إن القلب مجمع لأمور ثلاثة:
1- العقائد: القلب مستقر العقيدة، فهي لا ترى.. بخلاف الصوم والحج والصلاة، فالإنسان في الحج يضع ثوبي الإحرام على بدنه، ويطوف ويسعى ويصلي.. إذن، أعمال الأبدان واضحة، أما أعمال القلوب فهي غير واضحة.. فالذي يكون كافرا ثم يصير مؤمنا بالله -عز وجل- عندما يدخل الإيمان قلبه الباطني؛ عندئذ يصلي ويصوم.. هذا الإيمان أين دخل، في أي زاوية من وجوده، نحن لا نعلم أين ذلك القلب؟!..
2- المشاعر: أي الحب والبغض، والفرح والحزن، وغير ذلك من المشاعر، هذه مكانها القلب.. فالذي يحب، يحب بقلبه، والإنسان بإمكانه أن يتظاهر بالحب، وقلبه لا يحب.. والذي يبغض، يبغض بقلبه.. وكذلك يفرح ويحزن بقلبه.
3- الخيالات والأوهام: لا هي عقائد؛ لأنها أوهام وخيالات تمر على الذهن مرورا، ولا هو حب وبغض.. الإنسان قبل النوم تهجم عليه الأفكار، لذلك البعض يتناول الحبوب المنومة، لأنه لا يتحمل شوارد الخواطر المزعجة.
إذن القلب فيه: عقائد، ومشاعر، وأوهام وخيالات.. إذا صفا؛ أي صفا من الشوائب في هذه المجالات الثلاث.
العقائد: العقيدة عقيدة حقة، ولا نعني بالعقيدة الحقة إلا الإيمان بالله عز وجل.. ومن عدله بعث الأنبياء (ع)، والنبي إذا ذهب عن الأمة، لا بد له من وصي.. فموسى (ع) غاب عن قومه أربعين ليلة، فاستخلف أخاه هارون عليهم، {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}.
المشاعر: أن لا يجعل الإنسان في قلبه حبا، غير حب الله -عز وجل-.. يقول الإمام الصادق (ع): (القلب حرم الله، فلا تسكن حرم الله غير الله).. قد يقول قائل: ولكن نحن مأمورون بحب الأولاد.. إن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قبل حسينا وضمه إليه، وجعل يشمه، وعنده رجل من الأنصار، فقال الأنصاري: إن لي ابنا قد بلغ ما قبلته قط!.. فقال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (أرأيت إن كان الله قد نزع الرحمة من قلبك، فما ذنبي)؟!.. فإذن، كيف نجمع بين حب الأولاد، وحب الزوجة، وحب الله عز وجل؟..
الجواب: هذا يسمى بالحب الطولي، لا بالحب العرضي.. أي نحن نحب الأولاد؛ لأن الله -عز وجل- أمرنا بحبهم.. والدليل على ذلك: أننا نربي الولد، ونعطيه كل اهتمامنا، وإذا بلغ أشده وأصبح في مرحلة النضج، وانحرف عن طاعة الله -عز وجل- نطرده.. نوح (ع) عندما رأى ولده يغرق؛ تركه {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}.. وبالتالي، فإن هذا الحب حب طولي، مادام الولد على طريق الاستقامة نحبه.. وهذا الحب حب مقدس!..
ثانياً: لماذا تضيق الأرض بالإنسان؟..
إن هناك طائفتين يعيشون في ضيق، هما:
الطائفة الأولى: إنسان يعيش في وطنه، ولكنه يعاني من عدة أمور، منها: الديون الكثيرة، والزوجة المشاكسة، والأولاد المتمردين.. فهذا يضيق به البلد، ولهذا إذا وجد مجالا، فإنه يذهب إلى بلد آخر.
الطائفة الثانية: إنسان وضعه جيد في وطنه، ولكنه في الصيف ذهب إلى دولة أخرى، فرأى: طبيعة أجمل، وزوجة أجمل، ووظيفة أفضل.. أيضا هذا تضيق به الأرض، ويتمنى ساعة الذهاب إلى تلك الدولة.
فإذن، إن الناس في الدنيا على قسمين: قسم تضيق بهم الأرض بما هم فيه من مشاكل.. وقسم من المؤمنين استذوق حلاوة العالم الآخر، هذا الإنسان لماذا يتمنى الموت؟.. يقول أمير المؤمنين (ع): (فو الله!.. لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل إلى محالب أمّه).. لأن أمير المؤمنين يعيش في خراب الكوفة، ويعلم أنه إذا مات سيكون عند الزهراء (ع)، والنبي الأعظم (ص)، فهل يتمنى البقاء على هذه الأرض؟..
إن المؤمن تضيق به الأرض، ليس من باب المشاكل، وليس من باب المرض النفسي؛ بل لأنه يرى أن ما بعد الموت أفضل وأجمل!.. يقول أمير المؤمنين (ع) في وصف المتقين: (لولا الآجال التي كتب الله لهم، لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين).
ثالثاً: ما معنى سمو الروح؟..
إن القلب إذا صفا سما، فما هذا السمو الآخر في نهاية الرواية: (حتى يسمو)؟..
السمو هنا؛ أي أن يصل الإنسان إلى درجة القلب السليم.. والقلب السليم بالمعنى الدقيق: هو ذلك القلب الذي يلقى الله -عز وجل- وليس فيه أحد سواه.. فالإنسان الذي لا يرى في الوجود مؤثراً إلا هو؛ لا بد أن تكون عيشته من أرقى صور المعيشة في الوجود!.. وكل قلب فيه شرك أو شك؛ فهو ساقط.. وهذا معنى لا إله إلا الله؛ أي لا مؤثر في الوجود إلا الله عز وجل.