بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلّ على محمد و آل محمد الطيبين الطاهرين الأشراف و عجّل فرجهم يا كريم ..
اللهم صلّ على علي بن موسى الرضا المرتضى ..
أخترنا لكم سلسلة محاضرات قيّمة حول وظائف المُنتَظِر (المُمَهِّد لدولة الإمام الحُجّة - عجّل الله تعالى فرجه الشريف) في زمان الغيبة . نسأل الله تعالى أن يكون لكم فيها خالص الفائدة و المنفعة ببركة و سداد أهل البيت عليهم السلام.
إن العمل فرعٌ للمعرفة، والذي لا يعرف تكليفهُ لا يؤدي دوره.. لذا، فإن من أهم الأبحاث في زمان الغيبة، أن نتعرف على هذهِ التكاليف وعلى هذهِ الوظائف.. ومن هذه الوظائف التوسل.. وعليه، فإنه من الضروري جداً أن نعرف الخلفية الفكرية والإعتقادية والمعرفية لهذا العمل.. كثيرٌ منا يستعمل اصطلاح التوسل بأهل البيت عموماً، وعلى رأس من نتوسل بهم؛ النبي الأكرم (ص) وعندما نطلب الحوائج من الله -عز وجل- نقول: (نقدم بين يدي حوائجنا محمدا وآل محمد)، فنجعل النبي هو المحور، ثم نعطف عليه أهل البيت.. وفي خصوص حديث الكساء، هنالك ذكرٌ للزهراء (ع) (فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها)، وهذا قطعاً لا يعني أنها أفضل من أبيها أبداً، ولكن النبي الأكرم هو مركز الشفاعة، أليس هو القائل: (ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)!..
- التوسل.. إن من الوظائف في زمان الغيبة التوسل به (عج).. ورد في بعض الروايات توسل بالإمام صاحب العصر والزمان (عج) في الشدائد، منها: (اللهم!.. إني أسألك بحق وليك وحجتك صاحب الزمان، إلا أعنتني به على جميع أُموري، وكفيتني به مؤنة كل مؤذ وطاغ وباغ، وأعنتني به فقد بلغ مجهودي، وكفيتني كل عدوّ وهمّ وغمّ ودين، وولدي وجميع أهلي وإخواني ومن يعنيني أمره وخاصتي، آمين رب العالمين).. الإنسان عندما تنقطع بهِ السُبل، يتوجه بالخطاب إلى صاحب الأمرِ صلوات الله عليه.. حيث أن هنالك خصوصية في إمام زماننا لنا نحنُ، وهي أنه الإمام الذي سنحشر تحت لوائهِ يوم القيامة.
ما هي حقيقة التوسل؟..
إن أئمة أهل البيت (ع) وعلى رأسهم النبي (ص)؛ هؤلاء كلهم مخلوقون لله عز وجل.. رب العالمين عندما يخلق الخلق، يخلق الذات ويعطيها القابليات؛ فهو مبدأ الفيض ومبدأ الخير.. طبعاً هذهِ القابليات استثمرها النبي والمعصوم، فبلغ ما بلغ، ولو أن الله -عز وجل- خلق المعصوم معصوماً من دون مجاهدة، لما كان في ذلك فضل.. ولكن لماذا أعطى القابليات لهؤلاء؟.. فذلك بحثٌ آخر {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}.. هذهِ البذرة فيها القابلية أن تكون ثمرة، وهذهِ الثمرة فيها قابلية أن تكون شوكة.. لماذا هذهِ القابلية هنا، وهذهِ القابلية هناك؟.. ورد في الحديث النبوي الشريف: (الناسُ معادن كمعادن الذهب والفضة).
وعليه، فإن الكلام في أن هؤلاء مخلوقون، ونحنُ عندما نتوسل بهم، نطلب من الله -عز وجل- بجاه هؤلاء أن يستجيب لنا.. لأن أحدنا بسبب ذنوبه، وعلاقته المتوترة مع رب العالمين -إن صح التعبير- كأنهُ يقول: يا رب!.. أنا ليس لي وجه أن أطلب منكَ طلباً، أنا إنسان الذنوب أخرسته، وحبست دعاءه، كما نقرأ في دعاء كميل: (اللّهُمَّ!.. اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تَحْبِسُ الدُّعاء)، فأقدم بين يدي حوائجي من أمرت بحبهم، وصلتهم، وأمرت بالتوسل بهم.. فإذن، إن القضية فيها هدفان:
الهدف الأول: التوسل بالله عز وجل، ولكن لفرط ذنوبنا ومعاصينا وقلة وجاهتنا لديه، نتوسلُ بمن أمر رب العالمين بالتوسل بهم؛ وهذا أمر شائع في حياة البشر.. مثلا: ولد عندهُ علاقة متوترة مع أبيه، الأب لا يستجيب طلبه؛ لأنه ابن عاق ومتمرد.. ولكن علاقتهُ طيبة بأمه؛ قد يذهب إلى الأم ويطلب منها أن تتوسط له عند أبيه؛ لأن الوالد يحترم الأم، ومن ناحية الولد لا يجرؤ أن يكلم أباه.. فيقدم الواسطة؛ وهو تعبير متعارف جداً.. هذا التعبير "الواسطة" هو من نتوسل بهِ، هل هنالك من لا يجوّز هذا الأمر؟.. حتى موضوع الوساطة إذا لم يكن هنالك إخلال بالقانون، وليس هنالك من تضييع لحق أحد، لا أحد يفتي بحرمتها.. والهدية المعطاة لا تعتبر رشوة، إذا كانت بعنوان "الهدية المتعارفة" لأجل تسريع المعاملة، طبعاً دون إخلال بالقوانين أبداً؛ ليكن هذا القيد معلوماً!..
وبالتالي، فإن تلك الحركة؛ حركة فطرية بشرية.. ورب العالمين أوحى هذا المضمون إلى نبيهِ الأكرم في حديث، وراوي الرواية سلمان عندما مر بقوم من اليهود، فسألوه أن يجلس إليهم، ويحدثهم بما سمع من محمد -صلى الله عليه وآله- في يومه هذا، فجلس إليهم لحرصه على إسلامهم، فقال: سمعت محمدا -صلى الله عليه وآله- يقول: (إن الله -عز وجل- يقول: يا عبادي!.. أو ليس من له إليكم حوائج كبار لا تجودون بها، إلا أن يتحمل عليكم بأحب الخلق إليكم تقصونها كرامة لشفيعهم؟.. ألا فاعلموا إن أكرم الخلق عليّ، وأفضلهم لديّ: محمد، وأخوه علي، ومن بعده من الأئمة الذين هم الوسائل إلي.. ألا فليدعني من هم بحاجة يريد نفعها، أو دهته داهية يريد كف ضررها، بمحمد وآله الأفضلين الطيبين الطاهرين، أقضها له أحسن مما يقضيها من تستشفعون إليه بأعز الخلق عليه).. يقول ربُ العالمين: أنتم فيما بينكم تجعلون أحب الخلق إليكم وسائط، وأنا عندي أحب الوسائط هم النبي وآله.. إذن لا غرابة أبداً في هذهِ المسألة!..
الهدف الثاني: تبيان منزلة الشفيع.. إن الله -عز وجل- عندما يجعل شفعاء في الخلق، يريدُ أن يُبين منزلتهم عند الناس.. مثلا: عندما يُريد الملك أن يقدم هدية لإنسان: بعض الأوقات يختار الملك أباً لشهيد، شخصية متميزة ويطلب منه أن يقدم هذهِ الهدية نيابة عنه.. هي هدية الملك، ولكن بهذهِ الحركة أراد أن يقول: هذا إنسان مجهول الحال، أردت أن أجري الخير على يدهِ لتعرفوا قدره.. فإذن، إن الهدية هي هدية رب العالمين، والكرامة كرامة رب العالمين.. هذهِ الكرامة يعطيها لعبدهِ، ولكن من خلال ولي من أوليائهِ ليحقق هدفين:
الهدف الأول: قضاء حاجة عبده.
والهدف الثاني: إظهار كرامة من أجرى على يديه هذا الخير.
ولهذا نقول في الدعاء: اللهم أجرِ الخيرَّ على أيدينا لعبادك المؤمنين!.. أنت أجرِ الخير، ولكن الخير لابد أن يجري على يد إنسان، ذلك الإنسان أجعلهُ أنا هذا العبد الفقير.. يا لهُ من تعبير!..
إن دعاء التوسل: هو عبارة عن تكرار للفظ الجلالة، والمعصوم يُذكر في أول العبارة.. وهذا قمة التوسل!.. هذا منطقنا في خطابنا مع أئمة أهل البيت، أين الغضاضة؟.. وأين الشرك؟.. وأين الإشكالية؟.. على الإنسان أن يُحكم المنطق والعقل؛ وإلا فإن رفع الشعار ما أسهله!.. علينا أن نخاف رب العالمين، المؤمن بل كل إنسان يأتي يوم القيامة ليدافع عن كل ما يقول.. إن دافع بنجاح؛ دخل الجنة وإلا عوتبَ وعوقب!..
- دعوة الناس إلى الله عز وجل: ومن وظائفنا في زمان الغيبة أيضاً؛ أن ندعو الناس إلى الله -سبحانهُ وتعالى- ونحببهم إليه.. فالذي يحبب الناس إلى الله -عز وجل- قد ادخرت لهُ جائزة من الجوائز العظام.. مثلا: إنسان يُعلّم إنسانا مسألة شرعية؛ هذا ممتاز.. أو إنسان ينهى إنسانا عن منكر؛ هذا أيضا ممتاز.. ولكن إذا كان هناك عبد آبق؛ إنسان متوغل في المعاصي، وعمل على هذا الشخص مدة ليخرجهُ من الظُلماتِ إلى النور؛ هذا هو العمل الذي يُعتد به!.. طبعاً كل الأعمال يُعتد بها، ولكن أن تبني إنساناً، وأن تغير مسيرة إنسان، فهذا عمل عظيم!.. ولطالما ابتلى أحدنا بولد عاق، منحرف عن الطريق، فتراه لا يفكر بولدهِ، بل يفكر في فقراء أفريقيا مثلاً.. بينما ابنهِ الذي لا يعلم معالم الدين، هذا أولى من غيرهِ بالعمل!..
قال علي بن الحسين (ع): (أوحى الله -تعالى- إلى موسى (ع): حببني إلى خلقي، وحبب خلقي إلي.. فقال موسى (ع): يا رب كيف أفعل؟.. قال تعالى: ذكّرهم آلائي، ونعمائي ليحبوني.. فلا تردّ آبقاً عن بابي، أو ضالاً عن فنائي.. إن ذلك أفضل لك من عبادة مائة سنة، يصام نهارها ويقام ليلها.. قال موسى (ع): من هذا العبد الآبق منك؟.. قال تعالى: المتمرد.. قال (ع): فمن الضال عن فنائك؟.. قال تعالى: الجاهل بإمام زمانه، والغائب عنه بعدما عرفه، الجاهل بشريعة دينه.. تعرّفه شريعته، وما يعبد به ربه تعالى، ويتوصل به إلى مرضاته).. أنت عندما تُذكر الناس بآلاء الله -عز وجل- تحببه به؛ لأن طبيعة الإنسان السوي أنهُ يحب المحسن إليه، فالإنسان أسير الإحسان..
التعبير جميل: (فلا تردّ آبقاً عن بابي)؛ إبحث عن هؤلاء المتمردين.. ولهذا بعض المؤمنين عندما يقال لهُ: لماذا تذهب إلى بلاد الغرب، ألا يُعد هذا تعرب بعد الهجرة؟.. يقول: نعم، للبعض تعرب، ولكن أنا أذهب إلى بلاد الغرب لألقي القبض على الفارين من طاعة الله عز وجل.. ففي بلاد المسلمين هنالك: علماء، وأئمة مساجد، وخطباء، وغيره.. أما أنا فأذهبُ إلى بلدٍ ليس فيهِ عالم، كي أرجع هؤلاء الفارين إلى طريق الهداية.. فإذن، إن هناك حركة أخلاقية للعبد الآبق، وحركة عقائدية معرفية للعبد الضال عن طريق الهداية.
- انتظار الفرج.. إن كلمة "انتظار الفرج" استعمال شائع في صفوف المؤمنين، الفرق واضح بينَ الانتظار الصادق، وبين الانتظار الكاذب.. بين الانتظار الادعائي، وبين الانتظار الواقعي.. مثلا: إن الذي ينتظر ضيفا، ترى آثار الضيافة واضحة في بيته: الجو مفعم، والمائدة ممدودة، والعائلة في عمل مستمر؛ هذا هو المنتظر.. أما الإنسان الذي يبدي أشواقهُ من دون عمل؛ هذا الإنسان إنسان لهُ منطق شعري، شاعري، هذا ليس لهُ واقع أبداً.. المنتظر لفرج الإمام -عليه السلام- هو الذي يقوم بدور ما في زمان الغيبة، ولو كان دوراً بسيطاً.. عندما أمر نمرود الظالم بجمعِ نارٍ لإحراق إبراهيم -عليه السلام- كان تأتي المرأة والرجل وبيدهم شوكة يلقونها في تلك النار؛ لأنهم يريدون أن يكون لهم دور في تأجيج هذهِ النار.. هكذا في الباطل، فلماذا نحنُ لا نعمل بهذا الدور في الحق؟!.. الذي ينشرُ كتاباً بصفحاتٍ محدودة من أجل بيان وظائف زمان الغيبة، هذا الإنسان لهُ دور في تعجيل الفرج.. مثلا: صاحب كتاب "مكيال المكارم" هذا الإنسان يوم القيامة ماذا سيعطيه الإمام عليه السلام؟.. حيث أنه في زمان الغيبة ألفَ كتاباً حول فوائد الدعاء لهُ صلواتُ اللهِ وسلامهُ عليه.
عن أبي الجارود قال : قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : يا بن رسول الله!.. هل تعرف مودّتي لكم وانقطاعي إليكم وموالاتي إيّاكم؟..
قال: فقال: نعم.
قال: قلت: فإنّي أسألك مسألة تجيبني فيها، فإنّي مكفوف البصر، قليل المشي، ولا أستطيع زيارتكم كل حين؟.. قال: هات حاجتك.
قلت: أخبرني بدينك الذي تدين الله -عزّ وجلّ- به أنت وأهل بيتك، لأُدين الله -عزّ وجلّ- به.
قال: إن كنت أقصرت الخطبة فقد أعظمت المسألة، والله لأعطينّك ديني ودين آبائي الذي ندين الله -عزّ وجلّ- به: (شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والإقرار بما جاء به من عند الله، والولاية لوليّنا والبراءة من عدوّنا، والتسليم لأمرنا، وانتظار قائمنا، والإجتهاد، والورع).
أنظروا إلى سمو الإنسان!.. يصل الإنسان -أحياناً- إلى درجة راقية، كم من الذينَ عاشوا مع النبي ومع أمير المؤمنين ومع الحسنِ -عليه السلام- ولم يتعلموا أولويات الشريعة!.. بينما هذا الإنسان يسأل الإمام عن دينه الذي يدين الله به!.. الشاهد هنا: أن الإمام الباقر -عليه السلام- يقول: من عناصر الدين هو (انتظار قائمنا)، هذا من ديننا، هذهِ من أصول شريعتنا، أن ننتظر الإمام.. والإمام الباقر -عليه السلام- فرقهُ عن الإمام المهدي -عليه السلام- سنوات طويلة.. ثم يختم الإمام -عليه السلام- بقوله: (والاجتهاد والورع)؛ أي ليس فقط الولاية والتبري من أعدائهم.. إذن، إن الانتظار الحقيقي، هو ذلك الانتظار الذي يستتبع العمل.
الخلاصة:
1- من أهم الأبحاث في زمان الغيبة، أن نتعرف على تكاليفنا و وظائفنا فيه فالعمل فرعٌ للمعرفة، والذي لا يعرف تكليفهُ لا يؤدي دوره، ومن هذه الوظائف التوسل..
2- إن من الوظائف في زمان الغيبة التوسل به (عج).. حيث أن هنالك خصوصية في إمام زماننا لنا نحنُ، وهي أنه الإمام الذي سنحشر تحت لوائهِ يوم القيامة.
3- رب العالمين عندما يخلق الخلق، يخلق الذات ويعطيها القابليات؛ فهو مبدأ الفيض ومبدأ الخير.. طبعاً هذهِ القابليات استثمرها النبي والمعصوم، فبلغ ما بلغ.
4- إن قضية التوسل فيها هدفان: الهدف الأول: التوسل بالله عز وجل ،ولكننا لفرط ذنوبنا ومعاصينا وقلة وجاهتنا لديه، نتوسلُ بمن أمر رب العالمين بالتوسل بهم.الهدف الثاني: تبيان منزلة الشفيع..فالله -عز وجل- عندما يجعل شفعاء في الخلق، يريدُ أن يُبين منزلتهم عند الناس.
5- ومن وظائفنا في زمان الغيبة أيضاً؛ أن ندعو الناس إلى الله -سبحانهُ وتعالى- ونحببهم إليه.
6- إن المنتظر لفرج الإمام -عليه السلام- هو الذي يقوم بدور ما في زمان الغيبة، ولو كان دوراً بسيطاً.. أما الإنسان الذي يبدي أشواقهُ من دون عمل؛ هذا الإنسان إنسان لهُ منطق شعري، شاعري، هذا ليس لهُ واقع أبداً.. فالانتظار الحقيقي، هو ذلك الانتظار الذي يستتبع العمل.