إنَّ الأئمة من أهل البيت ( عليه السلام ) مخلوقون من نُورٍ وَاحِد ، وهُم أكمَلُ أهلِ زَمَانِهِم في كُلِّ صِفَة فاضلة .
ولمَّا كانَت مُقتضَيات الزمان ومظاهر تلك الصفات فيهم متفاوتة بحسب الأزمان ، كان ظُهور آثارها منهم متفاوتاً بحسب الظروف .
فمثلاً آثارُ الشجاعة عند الإمامين علي وابنه الحسين ( عليهما السلام ) كانت ظاهرة فيهما ، لِمتَطلَّبات الدور الذي كانا عليهما أن يؤدِّيانه .
أما الإمام الصادق ( عليه السلام ) فقد ظَهَرَت عليه إمارات العلم ، ولا يَعني هذا أنَّه ( عليه السلام ) لم يَكنْ شَجاعاً ، لأنَّ الدور الذي أُمِرَ به هو التقيَّة والمُدَاراة .
فكلُّهم ( عليهم السلام ) مشتركون في الشجاعة ، وكلهم مشتركون في العلم ، وفي باقي الصفات الكمالية .
فتلقَّى الإمام الصادق ( عليه السلام ) العلوم والمعارف عن آبائه ، عن جَدِّهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وقام بِمَهَامِّهِ الشرعية كَإمَامٍ مسؤولٍ عن نشر الشريعة وحِفْظِ أصَالَتِها ، عن طَريق تأسيسِ جَامِعة أهل البيت في المسجد النبوي الشريف .
فأخذ الإمام الصادق ( عليه السلام ) ينشر العلم والمعرفة ، بين الفقهاء ، والمفسرين ، والمحدِّثين ، ورُوَّاد العُلوم المُختَلِفة ، فَتَتَلْمَذَ عَليه أئِمَة الفقه ، وعنهم أخذَ رُوَاة الحَديثِ .
لذلك نجدُ العلماءَ ، والفقهاءَ ، والمحدِّثينَ ، والفلاسفَةَ ، والمتكلِّمينَ ، وعُلمَاءَ الطبيعةِ ، وغيرهم ، يشهَدونَ بِمَجْدِ الإمامِ الصادق ( عليه السلام ) العِلمي ، ويشيدُونَ بِمَقَامِه .
فقال الشيخ المفيد : ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان ، وانتَشَر ذِكرُه في البُلدان .
فإنَّ أصحابَ الحَديثِ قد جمعوا أسمَاءَ الرُوَاة عنه من الثُقَاتِ على اختلافهم في الآراء والمقالات ، فَكَانوا أربعَةَ آلافِ رَجُل .
ويقولُ أحدُ الرُوَاة : أدركْتُ في هَذا المَسجِد [ مسجد الكوفة ] تِسعمِائةَ شيخٍ ، كلٌّ يَقول : حَدَّثني جَعفَر بن مُحمَّد ( عليهما السلام ) .
مواجهة الإمام الصادق ( عليه السلام ) للأفكارِ المُنحرِفة
اتَّسم العصرُ الذي عاشَهُ الإمام الصادق ( عليه السلام ) بظهور الحركات الفِكريَّة ، ووُفُورِ الآراءِ الاعتقاديَّة الغريبة إلى المجتمع الإسلامي . وأهمُّها عنده هي حركة الغُلاة الهدَّامة ، الذين تطلَّعَتْ رؤوسهم في تلك العاصفة الهوجاء إلى بَثِّ روح التفرِقَة بين المسلمين . وترعْرَعَتْ بناتُ أفكارهم في ذلك العصر ليقوموا بمهمَّة الانتصار لِمَبادِئِهم التي قضى عليها الإسلام . فقدِ اغتَنَموا الفُرصَة في بَثِّ تلك الآراء الفاسدة في المجتمع الإسلامي ، فكانوا يبثُّونَ الأحاديثَ الكاذبة ، ويسندونها إلى حَمَلَةِ العِلم من آل مُحمَّدٍ ، ليغرِّروا به العامَّة .
فكان المغيرة بن سعيد يدَّعي الاتِّصالبأبي جعفر الباقر( عليه السلام) ، ويروي عنه الأحاديث المكذوبة ، فأعلَن الإمامُ الصادق ( عليه السلام ) كذبَه والبراءةَ منه . وأعطى الإمام ( عليه السلام ) لأصحابه قاعدةً في الأحاديث التي تروى عنه ، فقال ( عليه السلام ) : ( لا تَقبَلوا عَليْنا حَديثاً إِلاَّ مَا وَافَقَ القُرآنَ وَالسُّنَّةَ ، أوْ تَجِدُونَ مَعَه شَاهِداً مِنَ أحَادِيثِنَا المُتقدِّمَة ) .
ثم إن الإمام ( عليه السلام ) قام بهداية الأمَّة إلى النهج الصواب ، في عصرٍ تضارَبَتْ فيه الآراء والأفكار واشتَعَلَتْ فيه نار الحرب بين الأمويِّين ومُعارِضيهم من العباسيِّين .
ففي تلك الظروف الصعبة و القاسية استغلَّ الإمام ( عليه السلام ) الفرصة ، فنشر من أحاديثِ جَدِّه المصطفى ( صلى الله عليه وآله ) ، وعلوم آبائه ( عليهم السلام ) ما سارت به الرُكبان ، وتربَّى على يَديه آلافُ من المحدِّثين والفقهاء . ولقد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة عنه من الثقاة - على اختلافِ آرائهم ومقالاتهم - فكانوا أربعة آلاف رَجُل ، وهذِه سِمَة امتاز بها الإمام الصادق عن غَيرِه من الأئمَّة ( عليهم السلام ) .
شرع الإمام ( عليه السلام ) بالرواية عن جدِّه و آبائه ( عليهم السلام ) عندما اندفع المسلمون إلى تدوين أحاديث النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد الغفلة التي استمرَّت إلى عام ( 143 هـ ) . حيث اختلط آنذاك الحديث الصحيح بالضعيف ، وتسرَّبت إلى السُنَّة العديد من الروايات الإسرائيلية الموضوعة من قبل أعداء الإسلام ، من الصليبيِّين والمجوس ، بالإضافة إلى المختَلَقَات والمجعولات على يد علماء السلطة ، ومرتزقة البلاط الأموي .
ومِن هنا فقد وجد الإمام ( عليه السلام ) أنَّ أمر السنَّة النبوية قد بدأ يأخذ اتِّجاهات خطيرة ، وانحرافات واضحة . فعمد ( عليه السلام ) للتصدِّي لهذه الظاهرة الخطيرة ، وتفنيد الآراء الدخيلة على الإسلام ، والتي تسرَّب الكثير منها نتيجة الاحتكاك الفكري والعقائدي بين المسلمين وغيرهم .
إن تلك الفترة شكَّلتْ تحدِّياً خطيراً لوجود السنة النبوية ، وخلطاً فاضحاً في كثير من المعتقدات ، لذا فإنَّ الإمام ( عليه السلام ) كان بحقٍّ سَفينَة النجاة من هذا المُعتَرَك العَسِر .
إن علوم أهل البيت ( عليهم السلام ) متوارثة عن جَدِّهم المصطفى ( صلى الله عليه وآله ) ، الذي أخذها عن الله تعالى بواسطة الأمين جبرائيل ( عليه السلام ) ، فلا غرو أن تجدَ الأمَّة ضالَّتها فيهم ( عليهم السلام ) ، وتجدُ مَرْفأ الأمان في هذه اللُّجَجِ العظيمة .
ففي ذلك الوقت ، حيث أخذ كلٌّ يحدِّث عن مجاهيل ونكرات ، ورموز ضعيفة ومطعونة ، أو أسانيد مشوَّشة ، تجد أنَّ الإمام الصادق ( عليه السلام ) يقول : ( حَديثِي حَديثُ أبِي ( عليه السلام ) ، وحَديثُ أبي حَديثُ جَدِّي ( عليه السلام ) ، وحَدِيثُ جَدِّي حَديثُ عَليِّ بن أبي طَالِب ( عليه السلام ) ، وحَديثُ عَليٍّ حَديثُ رَسولِ اللهِ ( صلى الله عليه وآله ) ، وحَديثُ رَسولِ اللهِ ( صلى الله عليه وآله ) قولُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ) .
بَيْدَ أنَّ ما يثير العجب أن تجدَ من يُعرض عن دَوحَةِ النُبوَّة إلى رجالٍ قَدْ كانوا وبالاً على الإسلام وأهلِه ، وتلك وَصْمَةُ عارٍ وتقصيرٍ لا عُذرَ فيه ، خُصُوصاً في صَحيح البُخاري .
الإمام الصادق ( عليه السلام ) مع هشام بن الحكم
كان عند الإمام الصادق ( عليه السلام ) جماعة من أصحابه ، فيهم هشام بن الحكم وهو شاب ، فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( يا هشام ) !، قال : لبيك يا ابن رسول الله .
قال ( عليه السلام ) : ( ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد وكيف سألته ) ؟، قال هشام : جعلت فداك يا ابن رسول الله ، إني أُجِلُّكَ واستحييك ، ولا يعمل لساني بين يديك .
فقال ( عليه السلام ) : ( إذا أمرتكم بشيء فافعلوه ) ، قال هشام: بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد وجلوسه في مسجد البصرة ، فعظم ذلك عليَّ فخرجت إليه ، ودخلت البصرة يوم الجمعة . وأتيت مسجد البصرة فإذا أنا بحلقة كبيرة ، وإذا بعمرو بن عبيد عليه شملة سوداء مؤتزر بها من صوف وشملة مرتدٍ بها ، والناس يسألونه . فاستفرجت الناس فأفرجوا لي ، ثم قعدت في آخر القوم على ركبتي ثم قلت : أيها العالم ! أنا رجل غريب ، أتأذن لي فأسألك عن مسألة ؟
قال عمرو بن عبيد : سَلْ . قلت له : أَلَكَ عين ؟ قال عمرو : يا بني أي سؤال هذا ؟!!
فقلت : هذه مسألتي . فقال عمرو : يا بني ، سَلْ ، وإن كانت مسألتك حمقاء . قلت : أجبني فيها . قال : نعم .
قلت : فما تصنع بها ؟ قال : أرى بها الألوان والأشخاص .
قلت : أَلَكَ أنف ؟ قال : نعم .
قلت : فما تصنع به ؟ قال : أَشَمُّ به الرائحة .
قلت : أَلَكَ لسان ؟ قال : نعم .
قلت : فما تصنع به ؟ قال : أتكلم به .
قلت : أَلَكَ أذن ؟ قال : نعم .
قلت : فما تصنع بها ؟ قال : أسمع بها الأصوات .
قلت : أَلَكَ يدان ؟ قال : نعم .
قلت : فما تصنع بهما ؟ قال : أبطش بهما ، وأعرف بهما اللَّيِّن من الخشن .
قلت : أَلَكَ رجلان ؟ قال : نعم .
قلت فما تصنع بهما ؟ قال : انتقل بهما من مكان إلى آخر .
قلت : أَلَكَ فَم ؟ قال : نعم .
قلت : فما تصنع به ؟ قال : أعرف به المطاعم والمشارب على اختلافها .
قلت : أَلَكَ قلب ؟ قال : نعم .
قلت : فما تصنع به ؟ قال : أُميِّز به كلما ورد على هذه الجوارح .
قلت : أفليسَ في هذه الجوارح غنىً عن القلب ؟ قال : لا .
قلت : وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة ؟ قال : يا بني ، إن الجوارح إذا شكَّت في شيء شمَّتهُ أو رأتهُ أو ذاقَتْهُ ، ردَّته إلى القلب فَتَيَقَّنَ لها اليقينُ وأُبطِلَ الشك .
فقلت : فإنما أقام الله عزَّ وجلَّ القلب لشك الجوارح ؟ قال : نعم .
قلت : لا بد من القلب وإلا لم تستيقن الجوارح ؟ قال : نعم .
قلت : يا أبا مروان ، إن الله تبارك وتعالى لم يترك جوارحكم حتى جعل لها إماماً يصحح لها الصحيح وينفي ما شكَّت فيه ، ويترك هذا الخلق كله في حيرتهم وشكِّهم واختلافهم ، لا يقيم لهم إماماً يردُّون إليه شكَّهم وحيرتهم ويقيم لك إماماً لجوارحك تَرِدُّ إليه حيرتك وشكك ؟!!
فسكت عمرو ولم يقل لي شيئاً ، ثم التفت إليَّ فقال لي : أنت هشام بن الحكم ؟
فقلت : لا . فقال لي : أَجَالَسْتَهُ ؟
فقلت : لا . قال عمرو : فمن أين أنت ؟
قلت : من أهل الكوفة . قال عمرو : فأنت إذاً هو ، ثمَّ ضمني إليه وأقعدني في مجلسه ، وما نطق حتَّى قمتُ ، فضحك الإمام الصادق ( عليه السلام ) ثم قال : ( يا هشام ، من علَّمَك هذا ) ؟!
قلت : يا ابن رسول الله ، جرى على لساني .
قال ( عليه السلام ) : ( يا هشام ؟! هذا والله مكتوب في صحف إبراهيم و موسى ) .
مدرسة الإمام الصادق ( عليه السلام ) العلمية
شهد القاصي والداني ، والمُؤالف والمخالف ، أنَّ الإمام الصادق ( عليه السلام ) هو صاحب المقام العلميِّ الرفيع ، الذي لا ينازعه فيه أحد . حتى توافدت كلمات الثناء ، والإكبار ، والإعجاب عليه ( عليه السلام ) ، من قِبَل الحكَّام ، وأئمَّة المذاهب ، والعلماء ، والمؤرِّخين ، وأصحاب السِيَر ، وتراجم الرجال ، ما تزدحم ، فلا يجمعها إلاَّ كتاب .
نكتفي من تلك الكلمات بإشارات :
يقول أبو حنيفة : ما رأيت أفقهَ مِن جعفر بن محمَّد ، لمَّا أقدمه المنصور بعث إليَّ فقال : يا أبا حنيفة ، إنَّ الناس قد افتُتِنُوا بجعفر ، فهيِّئ له من المسائل الشِداد . فهيَّأتُ له أربعين مسألة ، فلمَّا أبصرتُ به دخلَتْني من الهيبة لجعفر ( الصادق ) ما لم يدخلني لأبي جعفر ( المنصور ) . فجعلتُ أُلقي عليه فيُجيبني فيقول : ( أنتم تقولون كذا ، وأهل المدينة يقولون كذا ، ونحن نقول كذا ، فربَّما تابعناهم ، وربَّما خالفنا جميعاً ) . حتى أتيت على الأربعين مسألة ، ثم قال : ( ألَسْنا رَوينا أنَّ أعلم الناس ، أعلمُهم باختلاف الناس ) ؟ .
واعترف أبو جعفر المنصور ، وأقرَّ بفضله حين قال : إنَّ جعفراً كان ممَّن قال اللهُ فيه : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) ، ( فاطر : 32 ). وكان ممَّن اصطفاه الله ، وكان من السابقين في الخيرات .
ورغم اعترافه بفضل الإمام الصادق ( عليه السلام ) في قوله : سيِّدُ أهل البيت ، وعالِمُهم ، وبقيَّة الأخيار منهم ، إلا أنه كان يضيِّق على الإمام ( عليه السلام ) ، ويكيد له ، حتى اغتاله بعد أن قال : هذا الشجا المعترِضُ في حَلْقي مِن أعلم الناس في زمانه . وقد امتازت الفترة التي عاشها الإمام الصادق ( عليه السلام ) بأنها مرحلة نمو العلوم ، وتزاحم الثقافات المتنوِّعة . وذلك لانفتاح البلاد الإسلاميَّة على الأمم الأخرى ، ولانتشار الترجمة التي ساعدت على نقل الفلسفات الغربيَّة إلى العرب .
فبدأ الغزو الفكري باتجاهاته المنحرفة ، وعاداته الهجينة ، ونشأت على أثره تيَّارات الإلحاد ، وفِرَق الكلام ، والآراء الغريبة ، والعقائد الضالَّة . وقد تطلَّبت تلك الظروف أن ينهض رجل ، عالِم ، شجاع ، يردُّ عادِيَة الضلال عن حصون الرسالة الإسلاميَّة .
فكان أن قيَّض الله جلَّ وعلا وليَّه الإمام الصادق ( عليه السلام ) الذي فاضت حياته بالعطاء ، والعلوم الغزيرة المتعدِّدة ، من : الحديث ، والتفسير ، والعقيدة ، وسائر أبواب الفقه ، والشريعة .
ونَقلَها ( عليه السلام ) نقلاً أميناً ، عن معارف النبوَّة المُحمَّديَّة الخاتمة ، ونقلاً نزيهاً عن منابع التشريع ، والرسالة ، حتى لُقِّب ( عليه السلام ) بـ( المحقِّق ) ، و( كاشف الحقائق ) . لأنه ( عليه السلام ) كان مَرجِعَ الأمَّة بِحَقٍّ ، وإمامَها الذي تتلمذ على يديه مئات الأعلام من الفقهاء ، والمشايخ ، بعد أن فتح لهم باب التخصص العلمي في العلوم العقلية ، والطبيعيَّة ، كالكلام ، والكيمياء ، والرياضيات ، إضافةً إلى أبواب الشريعة الإسلاميَّة .
كما وضع ( عليه السلام ) القواعد الواضحة لمسائل الأصول ، والفقه ، ليُربِّي في تلامذته مَلَكةَ الاجتهاد ، والاستنباط ، كقاعدة الاستصحاب ، والبراءة ، والضمان ، والتخيير ، وغيرها . وبما أنَّ الغزو الفكري الغربي قد رافقَتْه حريَّة غير موجَّهة ، وانفتاح في إبداء الآراء ، هيَّأتهما السلطة الحاكمة . لذا أحدث ذلك الغزو ارتباكاً في عقائد المسلمين ، فجنَّد الإمام الصادق ( عليه السلام ) جهوده العلمية الهائلة لمواجهة الانحراف والتحريف ، بمواقف علميَّةٍ ، وعقائدية . وذلك كان من خلال إجابته ( عليه السلام ) على كلِّ المسائل ، وردِّ كل الشبهات ، وإفحام كلِّ التشكيكات ، والأضاليل ، وبيان كلِّ أمرٍ من أمور الدين ، والدنيا ، ممَّا يُتساءَل عنه . حتى استطاع ( عليه السلام ) بذلك الجهاد العلمي المؤيَّد برعاية الله وعنايته ، أن يوقف الزحف الضلالي على العالم الإسلامي ، ويكشف زيفه ، ويبين أباطيله .
تأسيس المدرسة :
كان الإمام الصادق ( عليه السلام ) قد ساهم مع أبيه الإمام محمَّد الباقر ( عليه السلام ) ، في تأسيس مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) في المدينة المنورة . وقد اتخذا من الحرم النبوي المنور مركزاً لإلقاء الدروس ، حتى تحوّل إلى أكبر معهدٍ من المعاهد الإسلامية في زمانه . فربّى جيلاً عالماً انتشر في أنحاء البلاد ، يبث حقائقَ الدين ، ويُبيِّن معالمه .
وقد أجمع العلماء ، مثل : الشيخ المفيد ، والشيخ الطبرسي ، والفتَّال النيسابوري ، والشهيد الثاني ، وابن شهر آشوب وغيرهم ، أنّه نُقل عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) من العلوم ما لم يُنقَل عن أحد . حتى أن أصحاب الحديث جمعوا أسماء الرواة الذين رووا عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) - على اختلاف آرائهم - ، فكانوا أربعةَ آلاف راوٍ .
وهكذا كانت جهوده المباركة ( عليه السلام ) جهاداً علميّاً كبيراً ، أرسى من خلاله قواعدَ الدين ، وثبَّت أصوله ، وفروعه ، وعقائده .
واليوم ، وبعد مُضِيِّ ما يقرب من ثلاثة عشر قرناً على تأسيس مدرسة الإمام الصادق ( عليه السلام ) لا تزال العلوم الإسلاميَّة ، من : فقهٍ ، أو حديثٍ ، أو تفسير ، أو فلسفة ، أو أخلاق ، وغيرها من العلوم الإسلامية ، عيالاً على مدرسة الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) . تستمد من آراء مؤسسها الحكيمة ، وتوجيهاته القَيِّمَة .وليست العلوم الإسلاميّة وحدها عيالاً على مدرسة الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، بل إنَّ كثيراً من العلوم الحديثة كان له ( عليه السلام ) اليدُ الطُّولَى في تأسيسها ، وإنمائها .