كانَ يجلسُ في زاويةٍ معتمة ..
حين فُتح الباب الذي كان صريرهُ يصكُ سمعي وهو يغلق
بعد أول خطوةٍ لي داخل المكان البارد
أولُ شيءٍ وقعت عليه عيني هي التماعةُ عينيه ..
لم أكُن أميز أهذا بسببِ انعكاس الضوء المُندلق من فوهةِ الشباك اعلى السقف ..!
أم أنهُ حزنٌ شفيف شدني لعيونه ..!!؟
المكانُ موحِش والرطوبة تنبعثُ في كل مكان
وتسري لجسدي النحيل حتى بتُ أرتجف دون شعور ..!
حين قاطع المشهد البارد صوتهُ الدافئ : جد لك مكان واجلس فيه ..!!
اقتربتُ منه بهدوء واستأذنتهُ للجلوس بقربه فأومأ برأسه أن أجلس
فجلست وانا مفعمٌ بالصمت والموت ..!!
فالموت ليس فقط أن يقطع هذا الذي يدفعني للكتابة الآن بل هناك موتٌ أشد..
حين تصادر كل حريتك في الحياة بحرية ..!!
حين تمتهن كرامتك تحت أقدام العابثين والفاشلين و.... ......
وضع كل الصفات السيئة بدل النقاط التي وضعتها أنا ..
المُهم بادر بالحديث وهو يتسائل ما الجريمة التي ارتكبتها وبسببها زجوك في المعتقل ..!
فانفجرت كما الأطفال بالبكاء وسرد تفاصيل عبثية
ربما لاتدخل ضمن اهتمام البالغين من القهرِ عتيّا..؛
إلّا أنهُ كان متفاعل مع حديثي وأبدى اهتماماً كبيرا
وهو يتعاطى بكل تفاصيل وجهه التي لم اتطرق لها حتى الآن ..!؟
نعم لأُخبركم كم كان وجهه المتعب يحملُ تفاصيل تأريخٍ من الألم
وبعض التضاريس على جبيه كانت توحي بالكبرياء والصمود..
أما عينيه التي حدثتكم عنها اول كلامي فكانت تحمل نبوءات المطر ..!
وتنفذٌ كما الماء في جدب وجوهنا تستشفُ حكايانا فنستغرقُ سرداً
واعترافات حتى دونما يطلب منا وكأنهُ حصادٌ دون حاصد ..!
أخالهُ كان قديساً يتلوا عليه الجميع اعترافاتهم ثُم لايغفر لهُم ..!
مرت ايام وقد اعتدتُ الجلوس قربه في الزنزانة وبات رفيق زنزانة الظُلم
في كل الأيام التي مرت كنتُ أنا بلبل البستان ..!
نعم يليقُ بي هذا الوصف بلبل لأني كنتُ اغرد قهري على مسامعه
وكان يمنحني منهُ الكثير يحاول ان يخفف عني
في كل مرةٍ أُستدعى للتعذيب كان قبلها يمنحني طاقة عظيمة
وهو يقول لي إياك أن تعترف لهم بشيء أنت أكبر من أن تعترف
الضعف لايلق بمثلك .. الجُبن منقصة .. أنت إنسان ..!!
وكانت هذه الأخيرة تشعل طاقة في اعماقي
فأنقادُ للسجانين وادخل غرفة التحقيق وأنالُ ما أنالُ فيها ولا أستكين
فمازالت كلماته كطاقة الكهرباء تنتشر في جسدي لتشعل كل القوة والثبات فيه ..؛
كنتُ أشد ما أخشاه بعد كل جلسة تحقيق ان اعود للزنزانة ولا أجدهُ
فصديقي كطاقة الكهرباء ما ان انفصلت عن جسد المتصل بها حتى مات ..!
كنتُ أخشى الموت بغيابه وحين يُفتح نفس الباب لأجدهُ في مكانه
رغم جراحي النازفة إثر التعذيب أتنفس الصعداء..
حين تتلقاني يديه وهم يلقون بي للأرض بركلات أقدامهم
ويودعوني بباقةِ شتائم والفاظ نابية ..
تسائلتُ مرة وأنا أنظرُ اليهِ وهو يشعل سيكارتهُ
التي كان نصفُ عمرها قد نفذ بعد جلسةِ سمرٍ مع شفتيه في اليوم السابق ..
لِم للآن لَم أسألهُ ما الجريمة التي ارتكبها هذا القديس ليدخل المُعتقل ..!؟
تفاجأتُ من سهوي وانشغالي بنفسي وهمومي
كيف لم أسألهُ بعد كل هذه المدة لماذا هو هنا ..!؟
نظرتُ اليه والسؤال حائرٌ على شفتي ..!!
وإذا هو يبادرني أنا هنا يا صديقي
ذرفتُ على ألاربعين أوجاعاً كثيرة فقط لأني مثلك إنسان ..!