تسالم الأُدباءُ والساسة ممّن يقدِّر مكانة الأديب ودوره في المجتمع، على أنّ الكلمة سلاحٌ فعّال في ساحة المواجهة الثقافيّة منها والعسكريّة، ولا تخلو معركة عسكرية من قاعدة فكرية وثقافية وأدبيّة إليها يستند المحارِب، فالقوّة البدنيّة التي كانت عليها البشريّة في بادئ نشأتها، تطوّرت إلى مهارة في المعدّات العسكريّة ومهارة في الخطط العسكرية وتطوُّرٍ في الأسلحة، ولكن مع كلّ هذا التطوّر والطفرات الجنونيّة في التسليح العسكري، فإنّ الكلمة تظلّ هي السلاح الناجز على طول الخط، وإن كانت هي الأُخرى لَحِقها ما لحق الماكنة العسكرية من تطوُّرٍ وتجدُّد، غير أنّ البارز من كل هذا الحراك على صعيد الكلمة عمودياً وأُفقيّاً، أنّ حقل الشعر لازال يحتفظ برونقه وتأثيره الفاعل على النفوس.
ومن المفارقات الفكهة أنّ الكلمة المقفّاة أو المنثورة خضعت هي الأُخرى لحسابات الحرب والسلم، فتزهو في فترةٍ وتخبو في فترة أُخرى، ويكثر النظم في عصرٍ وتحت سلطةٍ معيّنة ويقلّ تحت سلطة أُخرى، ولكن من الواضح من خلال معاينة مؤشّر النظم خلال القرون المتمادية، أنّ الشاعر هو الآخر يخضع لنظام التوازن العسكري أو توازن القوى بين معسكرَين متصارعَين أو سلطتَين متنافستَين، وهذا ما نلاحظه بشكل جليّ في النظم الخاص بالنهضة الحسينية، لما تمثّله الحركة الحسينية في مسار التاريخ الإسلامي والإنساني من قبّان في ميزان الصراع بين عصائب الحقّ وأحزاب الباطل، وهذا التوازن يُعدّ عاملاً مساعداً على التحشيد الفكري والثقافي والأدبي، وبخاصّة لدى الأديب الشاعر الذي يرى في أجواء توازن القوى بين جبهتين أو حكومتين فرصة طيبة، تنفتح فيه قريحته على نظم ما يريد وما يرغب فيه، بل وقد يصبح في مثل هذه الأجواء جزءاً من الماكنة العسكرية عبر سلاح القلم والقافية، فيشخذ شاعريته ويركب أمواج البحور بسفينة القوافي دون خوفٍ أو وجل، من هنا يُعدُّ الكمُّ المنتَج من الأدب نثراً أو نظماً ونوعيّته مؤشراً يساعد الباحثين على فهم الفترة التي عاشها الأديب والتأثير الذي تركته التحوّلات السياسيّة على يراع الناثر وقريحة الناظم.
والقرن الثالث عشر الهجري الواقع في الفترة (١٧٨٦ – ١٨٨٣ م) أنتج أدباً غزيراً في شِقّيه النثري والشعري، مثَّلَ في أحد أوجهه توازن القوى بين دولتين متنافستين حكَمَتا شرق العالم الإسلامي وغربه، فمن جانب الشرق الدولة القاجارية وفي الغرب الدولة العثمانية، وفي ظلّ هذا التوازن العسكري والسياسي نما الشعر الحسيني بنسخته العربية بشكل كبير على مساحات جغرافية واسعة.
• قرن العطاء والانتشار:
وفي قراءةٍ متأنّيةٍ لواقع الأدب الحسيني المنظوم الذي توزّع على سنيّ القرن الثالث عشر الهجري، نكتشف أنّ هذا القرن يحمل البصمات التالية:
أولاً: الكمّ الهائل من القصائد والمقطوعات وبالقوافي كافَّة.
ثانياً: على غير العادة، فإنّ قافية الراء صارت هي مطيّة الشعراء كبديلٍ عن قافية الدال، وتأتي بعدها بالتتابع قوافي اللّام والميم والنون والباء، مع دورٍ ضئيل لقوافي الظاء والشين والغين التي تُعتبر من القوافي العصيّة والتي غالباً ما يهملها الشعراء.
ثالثاً: في المقابل فإنّ الشعراء لم يركبوا أمواج البحور الخليليّة كلّها، حيث اقتصر الأمر على البحور المتداولة، كالطويل والكامل والبسيط والوافر والرمل والخفيف والسريع والرجز والمتقارب.
رابعاً: تُعدُّ قصائدُ القرن الثالث عشر من الطِّوال، حيث بلغ بعضها أكثر من ١٥٠ بيتاً، وتوزعت في أغراضها بشكل عام على الرثاء ثم المديح ثم الولاء، كما أنّ القصائد والمقطوعات بشكلٍ عام جاءت محبوكةً أكثر من قبلها، ممّا يعني أنّ الشعراء استرجعوا عافيتهم وأعادوا إلى الشعر قواعده وأُصوله.
خامساً: وفي الوقت الذي بلغ عدد القصائد نحو ستمائة قصيدة ومقطوعة، إرتفع بالمقابل أعداد الشعراء ليصل إلى نحو ١٥٠ شاعراً توزّعوا على العراق والبحرين والحجاز ولبنان وإيران، وفي العراق توزّعوا على النجف الأشرف وبغداد وكربلاء المقدسة، وللبنان خصوصيّة كما يراها الدكتور الكرباسي: ”ففي لبنان يشير البنانُ إلى جبل عامل جنوب لبنان، والعامليّون وإن هجروا جنوبهم إلّا أنّهم لم يهجروا ولاءَهم، فأينما كانوا نظم شعراؤهم في أهل البيت (عليهم السلام) وبخاصّة الإمام الحسين (صلوات الله عليه)“.
وهذه القفزة الملحوظة في عدد القصائد والشعراء لها عواملها، ولعلَّ من أهمّها:
أ - زيادة عدد نفوس البشريّة قرناً بعد آخَر.
ب - إنطلاق الأدب الحسينيّ بشطريه المنثور والمنظوم منذ القرن الثاني عشر الهجري، مع سعيٍ مشهودٍ لتوثيقه واستنساخه وخروجه من إطاره المحلي وانفتاحه على البلدان والشعوب الأُخرى، ممّا أخرجه من حافظة الصدور الخاضعة لمدّ وجزر الذاكرة والنسيان إلى حافظة الكتب، مع تطوّر أنماط الاستنساخ والطباعة.
ت - وساهم الاستقرار الأمني بشكلٍ عام في نموّ الأدب وازدهاره، وبخاصّة أنّ المنطقة الإسلامية بجانبَيها الشيعي والسني عاشت توازناً في القوى بين السلطتين القاجارية والعثمانية، ساهم بشكلٍ كبير على النظم والإنشاء والإنشاد والتدوين والنشر، بل استطاعت القصيدة الحسينيّة أن تتجاوز حدود توازن القوى، ولاسيّما في القرن الرابع عشر والخامس عشر الهجريَّين، وهذا ما ساعد بشكل كبير على خلق جبهةٍ إصلاحية في بلدان عدة تتخذ من شعار الإصلاح الحسيني عنواناً.
• فنون لا جنون:
أُشيع في الوسط الأدبي والفني أنّ الفنون جنون، ولم يبتعد قائلها عن مركز الحقيقة كثيراً، لأنّ بعض الفنون جنون، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أنّ الجنون هو الخروج عن حدّ المألوف، ففي الوسط الثقافي جنون، وفي الوسط الفنّي جنون، وفي الوسط التشكيلي جنون، وفي الوسط السياسي جنون، وفي الوسط الأدبي جنون، وهكذا في كل وسطٍ بشري، لكنّ بعض الجنون فنٌّ جديد يتذوّقه بعضٌ ويستهجنه بعضٌ آخر إلى أمدٍ معيَّن ثمّ يألفه بعد حين.
بيد أنَّ المقولة تتراجع على استحياء خجلى عندما تقترب من ماء مدين الشعر، ففنونه إبداع وإبداعه فنون، وإن أصابه الجنون فهو إدواريّ لا دائمي، إلّا شعر (الكلمات المتقاطعة) الذي يُسمّى عند المتشاعرين شعراً، فهو في عالم القصيدة العموديّة جنونٌ دائم، وإن ذاد قائلها أو سقى حين صدر الشعراء عن عيون القوافي.
ومن إبداعات الشعر فنّ التصدير، أي ردّ عجز البيت على صدره، وهذا الفن لا نجده متكاملاً مستوفياً لغرضه إلّا في القصيدة العمودية، فيكون البيت في القصيدة كالقمر في قلب السماء، ومن ذلك قول الشاعر محمّد علي بن محمّد آل كمونه المتوفى عام ١٢٨٢ هـ، من قصيدةٍ من ٤٤ بيتاً من بحر الكامل، ومطلعها:
ما بالُ عَيْنِكَ بعدَ كَشْفِ غِطائها * قَذفَ الأسى إنسانها في مائها
ثم يصل بيت الشاهد:
عن كربلا وبلائها سَلْ كربلا * سَلْ كربلا عن كربلا وبلائها
ومن ذلك قول الشاعر صالح بن مهدي الكوّاز المتوفى عام ١٢٩٠ هـ، في مرثيّةٍ له في الإمام الحسين (صلوات الله عليه) وأنصاره، من بحر الخفيف:
أينَ حُبِّي إنْ لم أمُتْ لكَ حُزناً * أين حُزني إنْ لم أمُتْ لكَ حُبّا
وقد أحسن الشاعر الكوّاز في تصوير ثنائيّة موسى والحسين (عليهما السلام)، في قصيدةٍ من ٤٢ بيتاً من بحر الكامل، ومطلعها: