مظاهر العزّة في مدرسة كربلاء
(يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ )
تتجلى مظاهر العزّة يوم الطف بأبهى صورها في خطابات الإمام الحسين(عليه السلام) وأول خطاب وتصريح ظهر من الامام الحسين(عليه السلام) حين افتتاح حركته المباركة عندما عرضت عليه بيعة يزيد بن معاوية فنجده يقول لأمير المدينة يا أمير إنا أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ويزيد رجل فاسق شارب للخمر قاتل للنفس المحترمة ومثلي لا يبايع مثله) فما معنى مثلي ومثله؟ إن لكل شخص مقاما اجتماعيا معينا , فرجل الدين له مقام اجتماعي و شيخ القبيلة له ذلك و كل شخص له مقامه الاجتماعي الخاص به, والشخص الذي يتخلّى عن مقامة الاجتماعي فإنه لا يذل نفسه هو بل يذلّ مقامه, وكان موقف طلب البيعة بتلك الطريقة يتطلب إذلالا لمقام الإمام الحسين عليه السلام منه شخصيا وليس من سواه وهذا مما لم يكن يقبل به الإمام بأي شكل من الأشكال.
العزّة والتقية
ولنقرّب هذا المعنى برواية, فهذا زرارة أحد أصحاب الأئمة (عليه السلام) يروي عن الإمام الصادق(عليه السلام ) فيقول سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد(عليه السلام) يقول ثلاثة لا أتقي فيهن أحدا , شرب المسكر و المسح على الخفين ومتعة الحج ) ونلاحظ أن زرارة يعلق ويقول قال لا اتقي ولم يقل لا تتقوا ) وهذا فيه اشارة صريحة وواضحة الى أن موقع الإمام يختلف عن موقعكم, وأن هناك أشياء يختلف فيها الإمام عن الإنسان العادي. وهنا قد يتساءل البعض.. كيف؟! وللإجابة نقول..إن الإنسان العادي مثلاً لو صار في مقام تقيّة كما لو تطلّب منه الأمر المسح على الخفّين ورأى أن هناك ضررا ولا يمكنه أن يدفع الضرر عن نفسه إلا إذا مسح على الخفين، والامام أعطى الحق للإنسان العادي أن يمسح على الخفين إذا كان في مقام التقية ورفع الضرر عن نفسه, ولكن هل يمكن للإمام المعصوم أن يقدم على مثل هذه التقية بالمسح على الخفّين؟
قد يعتقد البعض أن ذلك أمرا هيّنا وليس فيه إشارة إلى معنى المقام , ولكن ذلك مناف للواقع فالإنسان العادي يمكن أن يستخدم التقية في ذلك المورد لأنه إنسان مغمور أما القيادة فلو اتقت بالمسح على الخفّين فإن في ذلك إذلال لمقام الإمامة وإذلال لموقع القيادة.
ولنأخذ مثالا آخر معاصرا: لو أنّ مرجعاً من مراجعنا العظام يتكتف في الصلاة تقية فإن ذلك غير جائز عليه حتى لو كان في موقف الخطر, فيما يمكن للإنسان العادي أن يرفع الخطر عن نفسه بأن يتكتف أما المرجع المعروف بين الناس فإن استخدامه للتقية في مثل هذا المورد يعد إذلالاً لموقع القيادة وإذلالاً لموقع الزعامة, وهكذا يتبين أن التقيّة تتناسب مع شخص ولا تتناسب مع شخص آخر , وهي تختلف بإختلاف الموارد وباختلاف المقامات و المواقع. لذلك جاء معنى كلام الإمام الصادق (عليه السلام).. أنا كإمام لا يناسبني أن أشرب مسكرا أو أمسح على خفيَّ أو أترك متعة الحج وأقول تقية ؟! وإن فعلت ذلك فإني أكون قد قمت بإذلال موقف الإمامة، وبالنتيجة فإن لكل شخص موقعا وإن لم يعمل حسب ما يمليه عليه ذلك الموقع كان ذلك إذلالا للموقع الذي فيه.
المواقع والتقية
والحسين (عليه السلام) يمثل موقعا ويزيد(لعنه الله) يمثل موقعا, وموقع الحسين أنه إمام منصوص عليه لقيادة الشعب المسلم, أما موقع يزيد فإنه قيادة للأشرار والظلمة و للمتمردين , ووفق هذه المعادلة فإن خضوع الخط الأول للخط الثاني إذلال وليس عزّة. ولنأخذ هذا المعنى من حادثة أخرى:
كتب معاوية بن أبي سفيان للإمام الحسن الزكي( عليه السلام): (يا أبا محمد أنا خير منك) لماذا ؟
( لأن الناس أجمعت عليَّ ولم تجمع عليك) وقوله هذا يعني به أنني عندما أصبح الحكم بيدي أذعنت الناس كلها وأنت عندما كان الحكم بيدك حدثت خلافات وحروب فأنا خير منك, فأجابه الإمام الحسن(عليه السلام) قائلا هيهات هيهات لشر ما علوت يابن آكلة الأكباد المجتمعون عليك رجلان: بين مطيع ومكره فالطائع لك عاص لله والمكره معذور بكتاب الله { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ } وحاش لله ان اقول: انا خير منك فلا خير فيك ولكن الله برّأني من الرذائل كما برّأك من الفضائل. مناقب آل أبي طالب 4/22 البحار، 44/104.
إذن هناك خطان: الأول خط فضائل والثاني خط رذائل , والحسن والحسين عليهما السلام) يقودان(خط الفضائل) و معاوية ويزيد يقودان (خط الرذائل) وكلاهما في موضع قيادة وكلاهما في موقع ريادة, لذلك جاء رفض الإمام الحسين (عليه السلام) ليزيد (عليه لعائن الله) حاملة المعنى التالي:
( إن بيعتي ليزيد وأنا في موقع الإمامة والقيادة لخط الفضائل إذلال لهذا الخط ولهذا المقام , لذلك فإن من هو مثلي ومن هو في خطي ومن هو في موقعي القيادي , لا ينبغي له أن يحدّث نفسه لحظة واحدة بمبايعة من هو في موقع الرذيلة كيزيد) .
الذلّة المادية والذلّة المبدئية
إن الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء فرق بين الذلّة المادية والذلّة المبدئية، فكيف وما معنى ذلك ؟!
في ظاهر الحال فإن الأئمة (عليهم السلام) يمكن أن تقع عليهم الذلّة المادية , فهذا الإمام زين العابدين (عليه السلام) قد أذلّ ذلة مادية , فربط الحبل في عنقه وجرّ بين الأعداء وهو الذي قال عن نفسه (أقاد ذليلاً في دمشق كأنني.. من الزنج عبد غاب عنه نصير) (بلاغة الإمام علي بن الحسين ص275) والسيدة زينب (عليها السلام) أذلّت ذلّة مادية فضربت وسبّت ولكن الذلّة المادية شيء والذلّة المبدئية شيء آخر , فالذلّة المادية ليست عيباً لأنها ذلّة قهرية ليست باختيار الإنسان وهي واقعة على جسمه وقوته المادية فهي ليست عيباً وليست مذمّةً , ولكن العيب والعار والمذمّة في الذلّة المبدئية وذلك عندما يتنازل الإنسان عن بعض مبادئه وبعض قيمه.
أما عندما يأتي الإمام زين العابدين(عليه السلام) وهو في الأسر مكبّلا بالقيود فيتحدى يزيد بن معاوية ويصرّ على مبادئه ويبين للناس الحقائق فهذه عزّة وليست ذلّة, وكذلك سيدتنا زينب (عليها السلام) حينما قالت ليزيد أمام الملأ من قومه (فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ولا تدحض عنك عارها ،وهل رأيك إلا فند وأيامك إلا عدد وجمعك إلا بدد ؟) فهذه هي صورة جليّة لمعنى العزّة المعنوية والعزّة المبدئية وإن صاحَبتْها ذلّة ماديّة أي واقعة على الجسد.
وخير ما يمكن ختام الحديث به عن معنى العزّة قول الإمام الحسين «عليه السلام» يوم الطف (ألا وإن الدعيّ بن الدعيّ قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّة وهيهات منا الذلّة يأبى الله لنا ذلك، ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حميّة، ونفوس أبيّة من أن نؤثر طاعة اللئام، على مصارع الكرام) .