السؤال: هل تستحبّ الصلاة في كلّ موضعٍ نزل فيه رأس الحسين (عليه السلام)؟
الإجابة: لقد أخذ قتلة الحسين (عليه السلام) ـ بعد أن فرغوا من كربلاء ـ آلَ بيت النبيّ (عليهم السلام) سبايا إلى الشام، وذلك بأمرٍ من عبيد الله بن زياد كما أراد يزيد (لعنهما الله)، وقد حمل أُولئك المجرمون رأس الحسين (صلوات الله عليه) علاوةً على رؤوس بني هاشم على الرماح والأسنّة، وبالطبع فإنّ لرأس الحسين (عليه السلام) بالنظر لذلك عدّة مواضع نزل فيها خلال الذهاب والإياب، ولقد أفتى فقهاء الإماميّة باستحباب الزيارة والصلاة ركعتين عند كلّ موضعٍ نزل فيه رأس الحسين، وقد استدلّوا لذلك بطائفةٍ من الروايات المعتبرة..
منها: ما أخرجه الكلينيّ (رضوان الله عليه) بسنده عن عدّةٍ من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن إبراهيم بن عقبة، عن الحسن الخزّاز، عن الوشّاء أبي الفرج، عن أبان بن تغلب قال: كنتُ مع أبي عبد الله (عليه السلام)، فمرّ بظهر الكوفة، فنزل فصلّى ركعتين، ثمّ تقدّم فصلّى ركعتين، ثمّ سار قليلاً فنزل فصلّى ركعتين، ثم قال: «هذا موضع قبر أمير المؤمنين (عليه السلام)»، قلت: جُعلت فداك، والموضعَين اللّذَين صلّيتَ فيهما؟! قال: «موضع رأس الحسين (عليه السلام) وموضع منزل القائم (عليه السلام)» (الكافي للكليني: ٤ / ٥٧١).
وقد وقع في السند الآنف خطأٌ من النسّاخ، فالوشّاء لقب الحسن الخزّاز، وليس هو لأبي الفرج عيسى السندي، يشهد له أنّ السند جاء في بعض كتب الحديث هكذا: الحسن الوشّاء عن أبي الفرج، وفي بعضها: عن أبي الفرج السندي.. وأبو الفرج ـ فيما ذكر النجاشيّ والطوسيّ ـ إماميٌّ من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام)، اسمه عيسى السندي، له كتاب (رجال الطوسي: ٢٩٥ رقم ٣٦٧٥)، مسكوتٌ عن حاله، ولم يليّن بشيء، أمّا سهل بن زياد فالأقوى وثاقته، وباقي الرواة ثقات، والحاصل فسند الحديث بنفسه لا يخلو من قوّة، يمكن اعتباره، وهو ظاهر المطلوب.
يشهد له ما أخرجه الشيخ الطوسيّ (رحمه الله) بسندٍ آخر عن الحسن بن عليّ الخزاز (الوشّاء)، عن خاله يعقوب بن إلياس، عن مبارك الخبّاز قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «أسرجوا البغلَ والحمار» في وقت ما قدم وهو في الحيرة، قال: فركب وركبت حتّى دخل الجوف، ثمّ نزل فصلّى ركعتين، ثمّ تقدّم قليلاً فصلّى ركعتين، ثمّ تقدّم قليلاً فصلّى ركعتين، ثمّ ركب ورجع، فقلت له: جُعلت فداك، ما الأُولتَين والثانيتَين والثالثتَين؟! قال (عليه السلام): «الركعتين الأُولتين موضع قبر أمير المؤمنين (عليه السلام)، والركعتين الثانيتين موضع رأس الحسين (عليه السلام)، والركعتين الثالثتين موضع منبر القائم (عليه السلام)» (تهذيب الأحكام للطوسي: ٦ / ٣٤).
ومنها: ما أخرجه الكلينيّ (رحمه الله) بسنده عن عليّ بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه إبراهيم بن هاشم، عن يحيى بن زكريا، عن يزيد بن عمر بن طلحة قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) ـ وهو بالحيرة ـ: «أما تريد ما وعدتك؟»، قلت: بلى ـ يعني الذهاب إلى قبر أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ـ. قال: فركب وركب إسماعيل وركبتُ معهما، حتّى إذا جاز الثويّة (مكانٌ قرب الكوفة) وكان بين الحيرة والنجف عند ذكوات بيض (حصيّات بيض)، نزل ونزل إسماعيل ونزلتُ معهما، فصلّى وصلّى إسماعيل وصلّيت، فقال (عليه السلام) لابنه إسماعيل: «قم فسلّم على جدّك الحسين»، فقلت: جُعلت فداك، أليس الحسين بكربلاء؟!! فقال: «نعم، ولكن لمّا حُمل رأسُه إلى الشام سرقه مولىً لنا فدفنه بجنب أمير المؤمنين (عليه السلام)» (الكافي: ٤ / ٥٧١).
والحديث صريحٌ في أنّ الرأس الشريف قد دُفن جنب أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وقد أوّله غير واحدٍ من الجهابذة ـ كصاحب الجواهر (جواهر الكلام للنجفي: ٢٠ / ٩٣) ـ على الدفن المؤقّت لا المؤبّد، مع إشكاليّة ضعفه بيحيى بن زكريا المجهول.
لكن قد يمكن اعتباره بما أخرجه الشيخ الطوسيّ من طريقٍ آخر: عن عمر بن عبد الله بن طلحة النهدي، عن أبيه قال: دخلتُ على أبي عبد الله (عليه السلام)، فمضينا معه حتّى انتهينا إلى الغريّ، فأتى (عليه السلام) موضعاً فصلّى، ثمّ قال لإسماعيل: «قم فصلِّ عند رأس أبيك الحسين (عليه السلام)». قلت: أليس قد ذُهب برأسه إلى الشام؟! قال: «بلى، ولكنّ فلان مولانا سرقه فجاء به فدفنه هاهنا» (تهذيب الأحكام: ٦ / ٣٥).
كما قد أخرج ابن قولويه (رحمه الله) بسندٍ معتبر طريقاً خامساً، قال فيه: حدّثني محمّد بن الحسن ومحمّد بن أحمد بن الحسين جميعاً، عن الحسن بن عليّ بن مهزيار، عن أبيه عليّ بن مهزيار قال: حدّثني عليّ بن أحمد بن أشيم، عن يونس بن ظبيان قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) بالحيرة أيّام مقدمه على أبي جعفر (المنصور العبّاسي) في ليلةٍ صحيانة مقمرة، قال: فنظر إلى السماء فقال: «يا يونس، أما ترى هذه الكواكب ما أحسنها؟ أما أنّها أمانٌ لأهل السماء، ونحن أمانٌ لأهل الأرض»، ثمّ قال: «يا يونس، مُر بإسراج البغل والحمار»، فلمّا أُسرجا قال: «يا يونس، أيّهما أحبُّ اليك، البغل أو الحمار؟». قال: فظننتُ أنّ البغل أحبّ إليه لقوّته، فقلت: الحمار، فقال: «أُحبّ أن تؤثرني به». قلت: قد فعلت. فركب وركبت، ولماّ خرجنا من الحيرة قال: «تقدّم يا يونس». قال: فأقبل يقول: «تيامن، تياسر»، فلمّا انتهينا إلى الذكوات الحمر قال: «هو المكان»، قلت: نعم. فتيامَن، ثمّ قصد إلى موضعٍ فيه ماءٌ وعينٌ فتوضّأ، ثمّ دنى من أكمة فصلّى عندها، ثمّ مال عليها وبكى، ثمّ مال إلى أكمةٍ دونها ففعل مثل ذلك، ثم قال: «يا يونس، إفعل مثل ما فعلت»، ففعلتُ ذلك، فلمّا تفرّغت قال لي: «يا يونس، تعرف هذا المكان؟»، فقلت: لا، فقال: «الموضع الّذي صلّيت عنده أولاً هو قبر أمير المؤمنين (عليه السلام)، والأكمة الأُخرى رأس الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليهم السلام)، إنّ الملعون عبيد الله بن زياد (لعنه الله) لمّا بعث برأس الحسين (عليه السلام) إلى الشام رُدَّ إلى الكوفة فقال: أخرجوه عنها لا يفتن به أهلها. فصيّره الله عند أمير المؤمنين (عليه السلام)، فالرأس مع الجسد والجسد مع الرأس» (كامل الزيارات لابن قولويه: ٨٦ ط مؤسّسة النشر الإسلاميّ).
كما أنّ هناك طريقاً سادساً أخرجه الطوسيّ بسنده عن عليّ بن محمّد بن متويه، عن حمزة بن القاسم، عن سعد، عن محمّد بن الحسين، عن محمّد بن أبي عمير، عن مفضّل بن عمر قال: جاز الصادق (عليه السلام) بالقائم المائل في طريق الغري، فصلّى عنده ركعتين، فقيل له: ما هذه الصلاة؟ فقال: «هذا موضع رأس جدّي الحسين بن علي (عليه السلام)، وضعوه هاهنا» (الأمالي للطوسي: ٦٨٢ ح ١٤٤٨ ط ١ دار الثقافة).
ومنها: ما أخرجه ابن قولويه في طريقٍ سابع: عن أبيه، عن سعد ابن عبد الله، عن الحسن بن موسى الخشّاب، عن عليّ بن أسباط رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إنّك إذا أتيتَ الغريّ رأيتَ قبرَين؛ قبراً كبيراً وقبراً صغيراً، فأمّا الكبير فقبر أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأمّا الصغير فرأس الحسين (عليه السلام)» (كامل الزيارات: ٨٦ ط مؤسّسة النشر الإسلامي).
فهذه طرق سبعة عن الإمام الصادق (عليه السلام)، أخرجَتها الكتب المعتبرة الّتي عليها المدار، قد سردناها جميعاً حتّى لا تبقى شبهة الضعف عند أحد؛ ضرورة أنّ مجموعها ينبئ عن أنّ لها أصلاً عن الشرع، خاصّةً وأنّ بعض هذه الطرق حجّةٌ بنفسه ناهضٌ للدليليّة بذاته، لهذا وذاك لا حاجة لبسط القول وتطويل الكلام في أسانيد هذه الروايات المتضافرة المعتبرة بمجموعها، والّتي أفتى بمضمونها فقهاء الشيعة من دون تردّد.
ومن ثمّ فهي ظاهرةٌ في المطلوب، ففعل المعصوم كقوله وتقريره حجّةٌ على المكلّفين، ويكفي هذا للقول باستحباب الصلاة ركعتين عند موضع الرأس الشريف علاوةً على الزيارة، بل في بعض الطرق الآنفة أنّ أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) أمر ابنه اسماعيل، وفي البعض الآخر يونس بن ظبيان، أن يفعلا مثل ما فعل هو (عليه السلام)، وعلى أيّ تقدير يكفي فعل المعصوم لتأسيس حكم في مثل ما نحن فيه، ولا أقل من مطلق الرجحان.
إلّا أنّ مدار السؤال هو: هل يمكن تعميم حكم الاستحباب لكلّ موضعٍ نزل فيه الرأس الشريف، أم هو خاصّ بمورده عند الذكوات البيض أو الأكمة القريبة من قبر سيّد الأولياء والصدّيقين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)؟!
الظاهر من فعل الإمام وحسبما فهم جماعةٌ من كبار الفقهاء التعميم، وأنّ الحكم بالزيارة واستحباب الصلاة ركعتين لا لخصوصيّة الأكمة عند الذكوات ـ وإن كانت أرض الغريّ في نفسها بقعة مقدّسة أيضاً ـ، بل لمجردّ كينونة الرأس الشريف هناك عهداً ما، وواضح من ذلك عموميّة العلّة واتّحاد المناط.
وعلى سبيل المثال فقد قال المجلسي (قدّس سرّه) في هذا الشأن: وإنّما يُزار ويُصلّى هاهنا لكونه محلّاً للرأس المقدّس وقتاً ما (بحار الأنوار: ٩٧ / ٢٤٤). كما قد قال في موضعٍ آخر: ثمّ اعلم أنّه يظهر من الأخبار المتقدّمة أنّ رأس الحسين (صلوات الله عليه وآله) وجسد آدم ونوح وهود وصالح (صلوات الله عليهم) مدفونون عند قبر أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، فينبغي زيارتهم جميعاً بعد زيارته (عليه السلام) (بحار الأنوار: ٩٧ / ٢٥١).
وقال النجفيّ (رحمه الله): ولا بأس بالصلاة وزيارته (عليه السلام) بمكان وضعه (جواهر الكلام: ٢٠ / ٩٢). بل قال في موضعٍ آخر: فينبغي حينئذٍ أن تكون الصلاة عند قبر أمير المؤمنين اثني عشر ركعة؛ ثمانية لزيارته (عليه السلام)، واثنان لزيارة الرأس الشريف، وركعتان لمنبر القائم أو منزله (جواهر الكلام: ٢٠ / ٩٣).
وقد عنون الحرّ العامليّ (رحمه الله) باباً صدّره بقوله: إستحباب زيارة رأس الحسين (عليه السلام) عند قبر أمير المؤمنين (عليه السلام)، واستحباب صلاة ركعتين لزيارة كلٍّ منهما (وسائل الشيعة: ١٤ / ٣٩٨). ولا يخفى على أهل العلم أنّ أبواب الحرّ (قدّس سرّه) في كتابه الوسائل فتاوى!
ثمّ إنّ الّذي يظهر من متون الأخبار السبعة المتقدّمة أنّ حكم موضع رأس الحسين (عليه السلام) صلاةً وزيارةً كحكم موضع جسده الشريف في كربلاء، فإنّه يستحبّ أن يدعو زائر موضع رأسه الشريف ـ أينما كان الموضع ـ بأصل الزيارات المعهودة الّتي يُدعى بها عند قبره الشريف في كربلاء، كذلك تستحبّ صلاة الزيارة، ركعتين في الأقلّ، كما هو الحال عند قبره الشريف في كربلاء، لكن لا مساواة بين مواضع رأسه الشريف المتفرّقة في البقاع وبين موضع قبره المقدّس في كربلاء، إلّا من جهتَي الصلاة وأصل الزيارة، فحليّة أكل شيءٍ من التربة المحترمة بقدر الحمّصة مثلاً، أو إتمام الصلاة للمسافر، من خصائص القبر الشريف دون ما سواه.
وهل يُستحبّ الغسل لزيارة موضع الرأس الشريف بماء الفرات أو غيره من المياه كما هو حال زيارة قبره الشريف في كربلاء؟! الأخبار ساكتةٌ عن هذا الأمر، بل في بعض الأخبار السبعة المتقدّمة أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) اكتفى بالوضوء لا غير، وفي الحقيقة لا يوجد دليل من الشرع يُلزِم الفقيه القول باستحباب الغسل في الفرض، وقد يقال بمطلق الرجحان، ولا بأس به.