بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين
ورد عن النبي محمد(ص) أنه قال: "فاطمة بضعة مني، يرضى الله لرضاها، ويغضب لغضبها".
كثير من الباحثين عندما وقف على فقرة "يرضى الله لرضاها، ويغضب لغضبها" فسرها بالعصمة، فقال أن النبي(ص) أراد أن يبين للمسلمين أن فاطمة معصومةٌ من الخطأ والزلل فدل على العصمة بقوله "يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها" إذ لا يتصور أن يناط رضا الله برضا شخصاً إلا إذا كان معصوماً، ولكن عند التأمل في هذه الفقرة نجد أن المعنى الذي قصد بيانه بها معنى أعمق وأوسع من مقام العصمة، مقام العصمة أحد المقامات المنطوية تحت هذه الفقرة وتحت مضمونها إلا أن مغزاها ومعناها أعمق وأوسع من مسألة العصمة عصمة الزهراء(ع).
هذه الفقرة ترشد إلى مقام المرآتية أن ذات الزهراء(ع) مرآة لذات الله، مقام المرآتية يتجلى لنا من خلال ثلاث وجوه:
الوجه الأول: أننا إذا حللنا معنى الرضا سوف يتضح لنا من خلال توضيح معنى الرضا مرآتية ذات الزهراء لذات الله تبارك وتعالى، بيان ذلك:
الرضا رضا الإنسان بفعله، (إذا رضي الإنسان بفعلهِ) مستبطن لعناصر ثلاثة:
1- إرادة.
2- أمر.
3- رضا.
لا يمكن لشخصٍ أن يرضى بفعله حتى تجتمع فيه هذه العناصر، مثلاً: عندما أقول أنا رضيت بصلاتي، رضيت بعبادتي، ما معنى رضيت بصلاتي ورضيت بعبادتي؟
رضاي بصلاتي وعبادتي تعني عناصر ثلاثة:
أولاً: أردت هذه الصلاة.
ثانياً: أوجدت هذه الصلاة خارجاً.
ثالثاً: لما رأيت آثارها رضيت بها، فهناك مراحل ثلاث، لما علمت أن هذه الصلاة في مصلحتي دنياً وآخرة صممت عليها فهذه هي المرحلة الأولى مرحلة الإرادة.
المرحلة الثانية: هي مرحلة إعمال القدرة وإيجاد هذه الصلاة، أنا قمت بحركة أوجدت من خلالها الصلاة فهذه المرحلة الثانية.
المرحلة الثالثة: لما رأيت آثارها على سلوكي وعلى تصرفاتي وعملي رضيت بها عبادةً، إذن لا يمكن لإنسان أن يرضى بفعل حتى تجتمع العناصر الثلاثة: الإرادة، والأمر ثم الرضا، هذا أيضاً بالنسبة إلى الله تبارك وتعالى.
لا يمكن أن يرضى الله تبارك وتعالى بفعل جميل حتى تجتمع عناصر ثلاثة: إرادته تبارك وتعالى، ثم أمره ثم ثنائه على ذلك العمل الجميل، مثلاً الله تبارك وتعالى رضي بفعل عليّ(ع)، ما معنى أن الله رضي بفعل عليّ(ع)؟ الله رضي بهذا الوجود الذي كله حياة وعطاء، هذا الوجود الذي كله حياة وعطاء رضي به الله، ما معنى رضي به؟
معناه أولاً أراده، وثانياً أمر به، وثالثاً رضي به فرضا الله عن فعل، وعن شخص، وعن أي أمرٍ من الأمور رضاه تبارك وتعالى يستبطن عناصر ثلاثة: إرادة ثم أمر ثم رضا، يعني ثناءٌ على ذلك العمل «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ» الله أراد هذه البيعة ثم هيأ المقدمات والمعدات لتحقيق هذه البيعة، فلما تحققت البيعة وتبينت آثارها العظيمة الجميلة أثنى عليها وذلك رضاه بها.
إذن، رضاه بعمل جميل مسبوق بإرادته، وأمره، ثم تأتي مرحلة الرضا ألا وهي مرحلة ثنائه، قال تبارك وتعالى «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ»، يعني إذا علم بالمصلحة الفعلية في أمر من الأمور، العلم بالمصلحة الفعلية هذا معنى الإرادة حسب المصطلح الفلسفي، حسب المصطلح الفقهي أو المصطلح عند فقهائنا إرادته (إيجاده)، حينما يعلم بالمصلحة الفعلية في شيء من الأشياء.
هو يعلم بتمام المصالح من الأزل، من الأول، لكن المصلحة الفعلية (يعني أن الوقت مناسب للمصلحة الآن) متى ما علم [بها] تحققت الإرادة ويعقبها الأمر «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» فإذا كان رضي به.
فعندما يقول النبي محمد(ص): "فاطمة بضعة مني يرضى الله لرضاها" يعني رضاها رضا الله، النتيجة ما هي؟ كما أن رضا الله يستجمع إرادته وأمره وثناءه، رضا فاطمة رضا الله؛ أي أن فاطمة(ع) وعاء لإرادة الله ثم هي وعاء لأمر الله ثم هي وعاء لرضا لله تبارك وتعالى.
لا يتحقق رضا الله في أمرٍ إلا بعد مرحلتين، مرحلة إرادته ومرحلة أمره.
إذن، لا يتحقق رضا فاطمة الذي هو رضا الله، مرآة لرضا الله، رضا فاطمة رضا الله، ورضا الله يعني عناصر ثلاثة إرادته، أمره ثم ثناءه، فرضا فاطمة(ع) يعني (اشتمالها على إرادة الله وأمر الله ثم اشتمالها على رضا الله وثناءه صلوات الله وسلامه عليها) فإرادتها مظهرٌ لإرادة الله، وأمرها مظهرٌ لأمر الله، ورضاها مظهرٌ لرضا الله، علمها مظهرٌ لعلمه، وولايتها التكوينية على هذا الوجود من أصغر ذرة إلى أعظم مجرة مظهرٌ لولايته تبارك وتعالى، ورضاها عن كل فعلاً جميل رضاه تبارك وتعالى.
إذن، كلمة "يرضى الله لرضاها" ليست بهذا المعنى العرفي البسيط وإنما هي تشير إلى جامعية الزهراء(ع) لإرادة الله وأمر الله ورضاه تبارك وتعالى. هذا هو الوجه الأول.
الوجه الثاني: "يرضى الله لرضاها"، نحن نعلم أن الله تبارك وتعالى له صفات ذاتية وفعلية.
صفاته الذاتية: عين ذاته، علمه عين ذاته، قدرته عين ذاته، حياته عين ذاته هذه تسمى صفات ذاتية، الصفات الذاتية لا تتحقق في عالم المادة لأن عالم المادة محدود، والصفة الذاتية لو تحققت في عالم المحدود لكانت ذاته محدودة، علمه عين ذاته فلا يمكن أن يتحقق علمه في عالم المادة، عالم المادة مظهر لعلمه لا أنه علمه، هذا الوجود المادي بل الوجود بأسره مادياً أو مجرداً كل الوجود محدود لا محالة، هذا الوجود المحدود مظهرٌ لعلمه وقدرته وحياته لا أنه علمه وقدرته وحياته، [الله] لا محدود فلا يمكن أن يكون المحدود مجسداً للامحدود.
أما صفاته الفعلية: فتتحقق في عالم المادة لأن صفاته الفعلية هي فعله، هي خلقه، هي إفاضته، والخلق يمكن أن يكون "محدود" ويمكن أن يكون "لا محدود" بما أن صفاته الفعلية هي فعله.
وفعله يتجسد، يتحقق في عالم المادة، مثلاً: الشمس خَلقه، أموالنا رزقه، إماتتنا إماتته، إحياؤنا إحياؤه، أفعاله تتحقق في عالم المادة بنفسها سواءً كانت "محدودة" أو "لا محدودة".
بعد أن نفرق بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية، الصفات الذاتية لا تتحقق في عالم المادة، الصفات الفعلية تتحقق في عالم المادة، نأتي الآن ونقول:
ما يتحقق به صفاته الفعلية قد يكون محدوداً ضيقاً وقد يكون لا حد له من جهة المنتهى، مثلاً: رحمة الأم بولدها وجنينها هي رحمة الله[...] رحمته تبارك وتعالى أودعها في قلب الأم، فرحمة الأم بولدها هي رحمة الله تبارك وتعالى.
رحمة الأستاذ بتلميذه هي رحمة الله تبارك وتعالى، لكن هذه محققات محدودة، رحمة الأم بولدها من جهة معينة وهي جهة الشفقة، رحمة الأستاذ بتلميذه من جهة معينة وهي جهة العلم والتعليم.
ولكن هناك رحمة لله لا حد لها «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ»، أما رحمة محمد فهي رحمة الله من دون حدٍ ومن دون قيد، رحمة جميع الخلق رحيمية، رحمة الأم بولدها رحمة رحيمية، ولكن رحمة النبي محمد(ص) بالعالمين جميعاً، بتمام أنحائهم، وألوانهم، وأنواعهم، رحمانية لله تبارك وتعالى، رحمته هي المجسدة للرحمة العامة لله تبارك وتعالى في عالم التشريع وعالم التكوين.
أيضاً الرضا، الرضا من صفاته الفعلية، إذن يتحقق في عالم المادة، رضا الوالدين عن ولدهما رضا الله، ولكن رضا محدود، رضا الأستاذ عن تلميذه، من حيث مستواه، رضا الله لكنه رضاً محدود[...]، فمن هو الذي يجسد رضاه، رضا الله الذي لا حد له؟
"فاطمة بضعة مني يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها"؛ أي أن رضاها(ع) محققٌ لرضا الله بنحو لا حد له ولا أمد له، رضاه بتمام تفاصيله ومراحله ومراتبه متحققٌ في رضا فاطمة(ع).
إذن فبالنتيجة، هذا لا يُتصور ولا يُتعقل إلا إذا كانت فاطمة مرآة لله، ذاتها مرآة لذات الله، لذلك كان رضاها محققاً لرضا الله بتمام صوره ومراحله وألوانه.[...]
إذن، هذه الكلمة "يرضى الله لرضاها" قلنا لها تجليات:
التجلي الأول: أن رضاها مجمع لإرادته وأمره عز وجل، ثم رضاه.
التجلي الثاني: بأن رضاها مجسدٌ ومحققٌ لرضاه المطلق تبارك وتعالى.
احتضانها للقيادة:
منذ أول يوم منذ النبي محمد(ص) إلى الإمام علي(ع)؟ من الذي احتضن القيادة؟
الذي احتضن القيادة فاطمة، النبي(ص) كان محمّل بأعظم مسؤولية لم يحمل شخصٌ مسؤوليةً كما حمل النبي(ص) الذي حُصر في شعب أبي طالب، وحُرب، وكسرت رباعيته يوم أحد، وأثخن بالجراح وأوذي من قبل المنافقين بجميع أنواع الإيذاء "ما أؤذي نبيٌ مثلما أوذيت" هذا الشخص الذي يتحمل الآلام كل يوم، هذا الشخص الذي يتجرع الآلام والمصاعب والغصص كل يوم، هذا الشخص وهو النبي كان يحتاج إلى عضد ويد تمتد إليه، كان يحتاج حاجة ماسة إلى من يقف إلى جانبه حتى يواجه هذه الآلام الصعبة والمواقف الخطيرة، كان يحتاج إلى مدد روحي يملؤه روحانيةٍ، يملؤه قرباً وإقداماً، وذلك المدد فاطمة.
[...] كان النبي(ص) يرى فيها ذات الله، كان يراها مرآة لذات الله، كان يرى عطفها عطف الله، وحنانها حنان الله، ورحمتها رحمة الله، كان يرى فيها الرحمة الإلهية بتمام صورها، كان آخر من يودع فاطمة، وأول من يستقبل فاطمة، وإذا أقبلت قام إليها وقبل ما بين عينيها وأجلسها مجلسه وصار يصغي إليها "فاطمة بضعة مني" بضعة!! البضعة هي القلب.
لاحظوا النبي عبر عن أهل البيت قال: "إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي" عبر عنهم بالثقل، عبر عن الإمام علي والحسين بـ (من)، "حسين مني وأنا من حسين"، "علي مني وأنا منه"، لكن عبّر عن فاطمة بتعبير أقوى "فاطمة بضعة مني"[...]، فاطمة أم أبيها.
إذن، النبي كان مسئولاً عن إصلاح الأمة وفاطمة كانت مسئولة عن رعاية النبي واحتضان القيادة واحتوائها، فكان أول عضد للقيادة امرأة، فاطمة يد القيادة عضد القيادة مظلة القيادة[...]، استمرت على ذلك إلى عصر الإمام أمير المؤمنين(ع)، [...] فهي لعليّ كما كانت لرسول الله، وهذا كاشفٌ عن مرآتية ذاتها لذات الله تبارك وتعالى.
عبادتها:
عبادة فاطمة كانت عبادة متميزة، ليست متميزة بالصلاة أو الصوم (الكثير يصلي و الكثير يصوم و الكثير يطيل الوقوف بين يدي لله تبارك وتعالى)، إذن ما هي الميزة لعبادة فاطمة التي جعلت فاطمة مرآة لذات الله " يرضى الله لرضاها و يغضب لغضبها"؟؟
الميزة في عبادة فاطمة إحساسها بالمسؤولية، فاطمة إذا وقفت غمرها الإحساس بالمسؤولية، عبادتها هي إحساسها بالمسؤولية الاجتماعية، فاطمة لم تكن كمريم امرأة متبتلة في محرابها لا، فاطمة محرابها يربطها بالمسؤولية الاجتماعية والقيادية، الإمام الحسن الزكي(ع) يقول: "ما رأيت أعبد من أمي فاطمة" هذا أقرب شخص إلى فاطمة ابنها الحسن، لأنه هو أول ولد وعاصرها وعاصر آلامها وشجونها وحياتها وكل شيء فيها، فهو أقرب راوي يعكس لنا فاطمة "ما رأيت أعبد من أمي فاطمة، كانت إذا قامت إلى صلاتها لا تنفتل حتى تتورم قدماها من طول الوقوف بين يدي ربها وما رأيتها دعت لنفسها قط وإنما تدعوا للمؤمنين والمؤمنات فأقول لها أماه فاطمة لما لا تدعين لنفسكِ فتقول بني حسن الجار ثم الدار" إحساس بالمسؤولية، وهي في محرابها يغمرها الإحساس بالمسؤولية، هي مسؤولة عن إصلاح هذا المجتمع، ومن طرق إصلاحه الدعاء له بالتوفيق بالمدد، بالغفران، بالعفو، تشعر بالمسؤولية وهي في محرابها وهي في آخر لحظات عمرها تخرج يديها من تحت سترها وتقول: "اللهم نجي شيعتي ومحبّي من النار"، ما رأيتها دعت لنفسها قط وإنما تدعوا للمؤمنين والمؤمنات، هذا هو تميز عبادتها الذي يدلنا على أن ذاتها مرآة لذات الله، إحساسها بالمسؤولية عندما تقف بين يدي الله تبارك وتعالى، فاطمة نهرٌ من البذل وبحرٌ من العطاء والتضحية، ما خلقت فاطمة لتعيش!! وتبني دنيا!! وقصوراً وتجمع ثروة، ما خلقت فاطمة إلا للتضحية ولتعلم الأجيال معنى التضحية والبذل والعطاء.[...]
حنانها:
حنان فاطمة على أبيها لا حد له، وحنان الزوجة على زوجها مثّلته فاطمة[...]، ما رآها عليّ إلا وهي تبتسم في وجهه وتقبل عليه، كانت تخفف عنه الآلام كلها[...] أتدرون ما هي ابتسامة فاطمة؟ ابتسامة فاطمة ابتسامة الجنة، لأنها تفاحة من الجنة، كما كان الرسول يشتاق إليها ويقول إذا شممتها شممت رائحة الجنة، كانت بسمتها ابتسامة الجنة، إذا ابتسمت لعليّ أحسّ كأنّ الجنة أمامه بأفيائها وألوانها ومفاتنها، ابتسامة فاطمة لعلي(ع) كان له أثر كبير على نفس علي(ع).[...]من شدة حنان الزوجة على زوجها ما فارقتها الابتسامة أبداً، وهذا يؤكد لنا مرآتية ذاتها لذات الله.
أما حنان فاطمة(ع) على أولادها، أيّ حنان أغدقت به حسناً وحسيناً وزينباً وأم كلثوم، ما كان حناناً مادياً ولا حناناً دنيوياً، وإنما كان حناناً روحياً ربّت هؤلاء الأربعة على أن يكونوا أبطال التاريخ، لم تكتفي أن تربيهم على الصلاة أو الصوم أو النافلة، ربتهم على أن يكونوا أبطال التاريخ وكوكبة يقودون مسيرة التاريخ، [...]ربّتهم على العطاء أن لا شيء في الكون اسمه أنانية، أو احتكار، أواستقلال. [...]*