... اللهم صل على محمد وال محمد وعجل فرجهم وارحمنا بهم ياكريم ...
جاء في مقدمة الجزء الأوّل من "خاتم الأنبياء" وبشأن "الرسالات" ما يلي: "إنّ الرسالات الّتي ظهرت بين الناس لم تكن على منوال واحد، كما لم يكن شعاع تأثيرها متساوياً. بعض الدعوات والأنظمة الفكرية كان ذا بعد واحد، تقدم باتجاه واحد، وقد عم في بداية ظهوره شرائح واسعة من الناس ويتبعه الملايين منهم. ولكن ما أن انتهى زمانه حتّى طوي بساط وجوده وأُسلم إلى النسيان. وبعض آخر كان ذا بعدين، بعث شعاعه إلى اتجاهين، وشمل طبقات واسعة من الناس وتقدم في عصور عديدة، ولم يقتصر على البعد المكاني بل تعداه إلى البعد الزماني أيضاً. وثمة دعوة تقدمت في اتجاهات مختلفة، وضمت جماعات من البشر واسعة تحت نفوذها، بحيث أننا نرى آثارها في كلّ قارة من القارات، وكان لها بعد زماني أيضاً، أي إنّها لم تكن خاصة بزمان وعصر معينين، بل حكمت بكلّ اقتدار خلال قرون طويلة، وتعمقت جذورها في دخائل النفوس واستولت على ضمائر الناس وهيمنت على قلوبهم وأمسكت بزمام مشاعرهم. إنّ دعوات كهذه هي الدعوات ذوات الأبعاد الثلاثة الّتي اضطلع بها الأنبياء. فأين يمكن العثور على مدرسة فكرية وفلسفية استطاعت مثل الأديان العظيمة أن تحكم ملايين الناس مدة ثلاثين قرناً أو عشرين قرناً أو أربعة عشر قرناً كحد أدنى، وأن تستولي على جماع مشاعر أتباعها وما في أعماقهم؟".
كذلك هي القوّة الجاذبة، فبعض ذات بعد واحد، وبعض ذات بعدين، وبعض ذات ثلاثة أبعاد..
جاذبة عليّ(عليه السلام) من النوع الأخير، فهي قد جذبت مجاميع واسعة من البشر، وليست مقصورة على قرن واحد أو قرنين اثنين، بل استمرت خلال القرون الماضية كلها واستمرت.. إنّها حقيقة ما زالت تتلألأ على ملامح القرون والعصور، وقد غارت حتّى أعماق القلوب، بحيث أن الناس بعد قرون إذا ذكروه وذكروا أخلاقه وسجاياه انهمرت دموع الشوق من عيونهم وبكوا على مصائبه، الأمر الّذي أثر حتّى في نفوس الأعداء واستذرف دموعهم. وهذه أشد الجاذبات قوة.
من هنا يمكن أن ندرك أن صلة الإنسان بالدين ليست من الصلات المادية، بل هي ارتباط مختلف لا يشبهه أي ارتباط بين الإنسان وبين أي شيء آخر.
ولو لم يصطبغ عليّ(عليه السلام) بصبغة الله ولم يكن من رجال الله لكان قد طواه النسيان، إن في تاريخ البشر أبطالا كثيرين: أبطالا في القول، وأبطالا في العلم والفلسفة، وأبطالا في القوّة والسلطة، وأبطالا في ميادين الحروب.. ولكن الإنسان قد نسيهم جميعاً، أو أ نّه لم يعرفهم أصلا، غير أن عليّاً لم يمت بموته وإنما ازداد حياة إن صح التعبير وهو نفسه يقول: "هَلَكَ خُزَّانُ الاَْمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالْعَُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ: أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، وأَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ".
ويقول عن نفسه: "غَداً تَرَوْنَ أَيَّامِي، وَيُكْشَفُ لَكُمْ عَنْ سَرَائِرِي، وَتَعْرِفُونَنِي بَعْدَ خُلُوِّ مَكَانِي وَقِيَامِ غَيْرِي مَقَامِي".
في الحقيقة، عليّ(عليه السلام) أشبه بقوانين الفطرة الّتي تظل خالية أبداً. إنّه منبع فياض لا ينضب، بل يزداد فيضه على مر الأيام. وهو كما يقول عنه جبران خليل جبران: "شخصية ولدت قبل زمانها".
بعض الناس يصل إلى مركز القيادة في زمانه، وبعض يستمر في قيادته قليلا بعد زمانه حتّى ينساه الناس، أمّا عليّ(عليه السلام)، وبعض آخرون من الناس، فهم من الهداة والقادة دائماً وأبداً.
الشهيد مطهري _ كتاب الإمام علي في قوته الجاذبة والدافعة