ذكرى مولد الرّسول(ص) والإمام الصّادق(ع)لنصغِ إلى نداء الوحدة
بتاريخ : 08-01-2015 الساعة : 02:49 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
نلتقي في هذه الأيّام بذكرى سيّدنا؛ سيّد الخلق رسول الله(ص)، الَّذي أرسله الله تعالى كافّةً للنّاس بشيراً ونذيراً، وأرسله رحمةً للعالمين، ليخرج النّاس من الظّلمات إلى النّور، وليعلّمنا في مدى الزّمن الكتاب والحكمة، وليزكّينا، وليرتفع بنا إلى أن نكون المقرَّبين من الله تعالى في العقل والقلب والرّوح والحركة.
ونلتقي أيضاً بذكرى الإمام جعفر بن محمّد الصَّادق(ع)، الَّذي يمثّل الإمامة الحقّة المنفتحة على العلم كلّه، وعلى الإسلام كلّه، وعلى الواقع كلّه. وفي هذا اللّقاء، نحاول أن نستوحي هذه الذّكرى وتلك، ونزاوج فيما بينهما، لأنَّ هناك ارتباطاً عضوياً بينهما، كما هو ارتباط الفرع بالأصل، فالأصل هو رسول الله(ص)، وهو الأصل في النَّسب وفي الرّسالة وفي العلم، وفيه الحركيّة الرساليّة والامتداد الروحيّ والثقافيّ والعلميّ كلّه.
وفي البداية، نطرح السّؤال الآتي: كيف نتمثّل ذكرى المولد؟ هل نتمثّلها في الطّفولة الأولى الّتي انفتح فيها رسول الله(ص) على الحياة، حيث عاش يُتْمَ الأب وهو جنين، ويُتْمَ الأمّ وهو رضيع، ودرج في ساحة ليس فيها من الإيمان ما يملأ العقل والقلب والحياة؟ ولكنّ الله تعالى أعدَّه إعداداً خاصّاً في عناصر شخصيَّته التي غرس فيها الطّهر كلّه، والعصمة كلّها، والصّفاء كلّه، وكان يربّي عقله وخلقه وحياته، كما ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) وهو يحدّثنا عن طفولته(ص): "ولقد قرن اللّه به(ص) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته"[1]، بحيث كان هذا الملك ـ من قبل أن ينـزل الوحي على رسول الله(ص) ـ يلقي إليه ما يريد الله تعالى أن يلقيه في عقله، وفي قلبه، وفي عناصر شخصيته كلّها، فنشأ في عين الله سبحانه وتعالى، وقد ورد عنه(ص) أنّه قال: "أدّبني ربّي فأحسن تأديبي"[2].
الولادة الأعظم
وجاءت بعد ذلك مرحلة النبوّة الّتي أفاضت عليه النّور كلّه، بعدما كان، كما وصفه الله تعالى: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ}[3]. وسمع النّداء: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}[4]. وأيضاً: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}[5]. وانطلق في الولادة الثّانية، وهي الولادة الأعظم، لأنَّها ولادة الإنسان الرّسول، فقد ولدت الرّسالة في شخصيّته، وولد(ص) في عناصر الرّسالة كلّها، فلقد تجسّدت الرّسالة وتمثّلت فيه، حتّى كان رسالةً تتحرّك، فكان عقله عقل الرّسالة، وكان قلبه قلب الرّسالة، وكانت حركته حركة الرّسالة، ولم يكن فيه شيء غير الرّسالة. ولذلك، كان الكتاب النَّاطق، فكان النّاس يتمثّلون الآية في لسانه، عندما يستمعون إليه وهو يتلوها عليهم، ويتمثَّلونها في ذاته عندما يجدونها متجسِّدةً فيه.
مواجهة الاتّهامات
وانطلق(ص) لينذر ويبشّر، وواجه العنف كلّه، سواء الشّعوري منه، فكانت مشاعر المشركين تواجهه بأسلوب مضادّ، حتى إنّه كان يرى العنف في نظراتهم، وفي طريقة تعاملهم معه، أو الكلاميّ، فقد كانوا يبحثون عن أيّة كلمة تسقط مصداقيّته، حتى لا يكتشف الناس فيه معنى الرّسالة، فقالوا عنه إنّه كاذب، وكانوا بالأمس يقولون عنه إنّه الصّادق الأمين، وقالوا عنه إنّه كاهن، والكهانة إخبارٌ بالغيب مما لا يصدقونه، وقالوا عنه إنّه شاعر، ولم يكن للشّاعر عندهم قيمة في المعنى الروحيّ للقيمة، وقالوا إنّه ساحر، لأنَّ كلماته في عذوبتها وفي صدقها وروحيّتها، تمثّل السّحر الّذي يجذب العقل والقلب والشّعور.
وقالوا عنه، وهذا هو الأخطر، إنّه مجنون. وكان الذي يتولّى هذا العنف الكلامي عمّه (أبو لهب)، وهو يسير خلفه في جموع الناس ويقول: لا تصدّقوا ابن أخي، فإنّه مجنون. ولكنه رغم ذلك كلّه، صبر وصمد واستمرّ، وكان يواجه العنف بكلّ رفق، حتى إنَّ الله عزَّ وجلَّ علّمه، عندما أطلقوا في وجهه كلمة الجنون، أن يقول: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}[6]. فأراد(ص) لهم أن يتمثّلوا المنهج، فلم ينفِ التّهمة عن نفسه بشكل مباشر، ولكن قال لهم انفصلوا عن هذا الجوّ العدوانيّ العاصف الّذي لا يملك الإنسان فيه عقله، وتفرّقوا مثنى وفرادى، واستحضروا فكركم، فإذا رجعت إليكم عقولكم، أمكنكم أن تعرفوا أن ليس بي جنّة.. اقرأوني في كلماتي، فهي العقل كلّه، وفي علاقاتي، فهي الحكمة كلّها، وفي رسالتي، فهي الحقّ كلّه.
الدعوة إلى الإسـلام
ولذلك، كان(ص) يعيش المحبّة الرسالية لهؤلاء، فكان يقول: "اللّهمّ اهدِ قومي فإنّهم لا يعلمون"[7]. لأنَّ هؤلاء قد تحجّرت الجاهليّة في عقولهم، ولذلك، فهم يحتاجون إلى وقتٍ طويل حتى يتفتَّت هذا الصّخر الشركيّ في عقولهم وقلوبهم، فكان(ص) يجمع المؤمنين الفقراء من حوله، وكانوا يسلمون على يديه، وتنطلق شعلة الإيمان بكلمتي الشَّهادة في عقل هذا المؤمن وذاك، فلا يملك إلا أن يذهب إلى صديقٍ هنا وقريبٍ هناك ليدعوه إلى الإسلام، فكانت عظمة الَّذين آمنوا في البداية، هي أنّهم فهموا أنَّ معنى أن يكون الإنسان مسلماً، هو أن يكون داعية، فلم يفهموا الإسلام كما يفهمه بعض الَّذين فرض التخلّف عليهم، وهو أن يعيشوا الإسلام فكراً محصوراً في عقله، وعاطفةً محصورةً في قلبه، وأن يتجمّد ويبتعد عن ساحة الصّراع، وأن لا يحمّل نفسه جهد الدّعوة إلى الله. لذلك، كان المسلم على عهد النبيّ(ص) يسلم في اليوم الأول، ويأتي بمسلم آخر في اليوم الثاني، وهكذا بدأت الدعوة والحركيّة الإسلاميّة التي كان يعيشها المسلمون. واشتدّت التحدّيات والحصار والضّغط، فهاجر من هاجر إلى الحبشة، وبقي من بقي في مكَّة، وكانت مكّة هي الفرصة الّتي أراد الله تعالى لنبيّه(ص) أن يستفيد منها، ليستوعب أكبر قدرٍ ممكن من الناس الّذين يأتون إليها في مواسم الحجّ، أو التّجارة، .
التجربة الإسلاميّة: مدرسة متحركة
وبذلك، كان النّبيّ(ص) يواجه الشّبهات كلّها، والتحدّيات كلّها، حتى إنهم عجزوا عن إسقاط شخصيّته في النفوس، لأنها كانت تفرض نفسها على كلّ من يستمع إليها ومن يحدّق فيها، وحاولوا أن يشكّكوا في القرآن، فتارةً يقولون، كما يصف القرآن ذلك: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}، وأنّه كان يجلس إلى قين يصنع الحديد، وهو ليس عربياً، وردّ القرآن على افترائهم بكلّ هدوء: {لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ}[8]. ثم قالوا إنَّ الكتاب لا بدَّ من أن ينـزل على الرسول(ص) كما أنزل الله تعالى التوراة على موسى(ع) دفعةً واحدة، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً}، ولكنَّهم لم يعرفوا أنّ هناك فرقاً بين التّجربة الَّتي خاضها النّبيّ(ص)، حيث كانت تجربة حركيّة في ساحة الصّراع، تحرّك فيها كلّ الثقافات والسّياسات والتّقاليد والعادات المختلفة، وتلك الّتي خاضها موسى(ع)، والّتي كانت بعكس ذلك.
لذلك، كانت المسألة هي أن يواكب الوحي ساحة الصِّراع كلّها، لينـزل آيةً تعلّم الناس خطوط الإيمان، وأخرى تعلّمهم أصول العبادة، وثالثة تردّ على إشكالٍ هنا وشبهةٍ هناك، ورابعة تتحرّك من أجل أن تحلّ مشكلةً فرضت نفسها على الواقع الإسلاميّ، أو تعالج تجربة الحرب عندما ينتصر المسلمون أو ينهزمون فيها، أو عندما يعيشون الهزيمة والنَّصر في موقع واحد، كما في موقعة أحد. وكان القرآن يريد أن يثقّف المسلمين ثقافةً تتحرّك في ساحة الواقع، بحيث يواجهون المشكلة، وينـزل القرآن بالحلِّ بعد أن تتفاعل المشكلة، فتتفاعل في وجدان النّاس، بحيث يعيشون التّجربة، ثم لم يلبث أن ينـزل القرآن لينقذ التّجربة أو يثمّنها.
ومن هنا، كانت التّجربة الإسلاميّة، سواء في مكّة أو في المدينة، مدرسة متحركة. ولذا، يذكر المفسِّرون أنَّ الآيات المكيّة تتحرّك في إطار تأصيل العقيدة في مواجهة التّحدّيات الثقافيّة، بينما كانت الآيات المدنيّة تواجه الحاجات الاجتماعيّة للمجتمع المسلم في عالم التّشريع، والتّحدّيات العسكريّة والأمنيّة، {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}[9]، حتى ينطلق النبيّ(ص) بقلب ثابتٍ قويّ، ينفتح على التّحدّيات كلّها، ويواجه المشاكل التي تعترضه من خلال وحي الله سبحانه وتعالى، لأنَّ الله لا يريد لنبيّه، وهو البشر، أن يهتزّ أمام مشكلة، بل كان يريده أن يكون الصَّلب القويّ الثّابت، الّذي يعطي الأمّة الثّبات، من دون أن يحتاج إلى ما يمثّله الناس من قوى ليمنحوه الثّبات، كما يفعل الكثير من القادة باستعانتهم بالنّاس حتى يثبّتوا قلوبهم. فلقد كان الله عزّ وجلّ هو الذي يثبّته: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}[10]. فقد كان الله تعالى معه في إيمانه الّذي ليس فوقه إيمان في درجته العليا، وكان الله معه في كلّ آيةٍ ينـزلها، وفي كلّ ما يلهمه مما يفتح به عقله وقلبه.
صناعة العقل والفكر
وسقطت التّهمة، ولكنّهم وصلوا إلى مرحلة طرح الأساليب التعجيزيّة الّتي لا معنى لها، وذلك قوله: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً}[11]، وكان جواب النّبيّ(ص) للرّجل الّذي يريد أن يستعرض عضلات القوّة جواب الحكمة: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً}[12]، فإنّي لم آتِ إليكم لأمنّيكم، بأن أحوِّل الجبال ذهباً، أو الصَّحراء إلى بساتين وأنهار، وإنما جئت إليكم لأبلّغكم رسالات ربي، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ}[13]. {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ}[14]. فقيمة هذه النبوّة هي أنها تنطلق لتخاطب العقل، فكان(ص) يقول أعطوني عقولكم وسأغنيها بكلّ ما يثبّتها ويقوّيها ويفتحها على الحقائق كلّها، وكان(ص) يريد أن يخترق العقل، وأن يصنع المعجزة فيه، بمعنى أن ينتج عقولاً تستطيع أن تبدع الفكر ووعي الحقيقة. ولذلك، كان يتحدَّث عن الَّذين لا يعقلون، وعن الَّذين لهم قلوب لا يعقلون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها.
فلقد جاء ليجعل الإنسان في حالة طوارئ، فتحدِّق عيناه في الواقع لتجمع المفردات البصريّة، وتسمع أذناه كلّ ما يمكن أن يجمع من المسموعات، ثم ينطلق العقل ليجمع ذلك كلّه، ليكوّن الفكر من خلال المفردات الثقافيّة التي يمكن للإنسان أن يعيشها.
ولقد كان الإسلام يريد للإنسان المسلم أن يعيش مسؤوليّة عقله، لأنَّ عقلك ليس شيئاً ذاتياً يمكن أن تهمله وأن تجمِّده، بل هو جزء من عقل الأمَّة، لأنَّ عقلها موزَّع بين عقول أفرادها، فأنت لست حرّاً في أن تجمِّد عقلك، أو تهمله وتزيّفه، فكما أنَّ عليك أن تحافظ على صحّتك الجسديّة حتى لا تمرض وتموت، وكما لا يجوز لك أن تلقي بيديك إلى التّهلكة، كذلك، لا بدَّ من أن تحافظ على الصّحّة العقليّة، فلا تجعل عقلك يموت بالإهمال.
ولهذا، انطلق النّبيّ(ص) ليصنع للإنسان عقله، وليتوازن العقل في المنهج، وفي أسلوبه في إنتاج الحقيقة أو اكتشافها، كما أراد(ص) من خلال الوحي، أن يصنع للإنسان قلبه، فلا يجوز لنا أن نلقي قلوبنا للصّدف لتتحرَّك فيها عاطفة من هنا وعاطفة من هناك، بل لا بدَّ من أن تعمل على أن تصنع عاطفتك، وأن تختار القاعدة الّتي تنطلق منها عاطفتك، وأن لا يكون هناك فاصل بين الخطّ الإيماني الَّذي أنتجه عقلك، والخطّ الّذي ينتجه قلبك، لأنَّ الإنسان وحدة واحدة، فلا يمكن أن يكون عقله في اتجاه وقلبه في اتجاه آخر، وهو إنما يتكامل بتزاوج العقل والقلب، تماماً كما هو تزاوج الطّاقات في عمليّة حماية حياة الإنسان. فالمعدة ليست كياناً مستقلاً عن القلب، والقلب ليس كياناً مستقلاً عن الدِّماغ، وهكذا بالنّسبة إلى الدّم والأعصاب وغيرها من أجهزة جسم الإنسان، فهي تتكامل في وظائفها. فلا بدَّ لك من أن تحقِّق الارتباط العضويّ بين ما ينطلق به عقلك وما ينبض به قلبك، لأنَّ النبضات إذا انحرفت عن الخطّ الصَّحيح، فستترك تأثيرها في حركتك في الواقع. ولعلّ مشكلة الكثير من الناس، هي هذه المسافة الفاصلة بين حركة العقل وحركة القلب.
تأسيس الدّولـة الإسلاميَّـة
وهاجر النبيّ(ص) إلى المدينة، وأسَّس الدّولة بحسب ما تتَّسع له الأوضاع في ذلك الوقت، وأكمل الله له دينه، وأتمّ عليه نعمته، ورضي له الإسلام ديناً. وانطلقت الخطوات في اتجاه تحويل الإسلام إلى كيانٍ يركّز الجانب السّياسيّ بحسب ما تتَّسع له السّياسة، إلى جانب الكيان الثقافي الّذي يمثّل القاعدة، والكيان الاقتصاديّ والأمنيّ وغيرهما. وقال الله تعالى لنا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}[15]. ضعوا رسول الله(ص) أمامكم، وحدّقوا به جيّداً.. ادرسوه في عناصر شخصيّته كلّها لتتمثّلوه، لأنَّ عناصر شخصيّته ليست عناصر الذّات في طبيعتها، ولكنّها عناصر الرّسالة الّتي استطاعت الذّات أن تحتويها لتكون هي الرّسالة.
وعندما نطلّ على عناصر شخصيَّة الرّسول(ص)، نجد قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[16]. وقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}[17]. وقوله تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}[18]. ونجد أنَّ قلبه كان يتقطّع حسراتٍ على الّذين لا يؤمنون، {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}[19]. فالرَّسول(ص) هو الإنسان في عمق العناصر الإنسانيَّة كلّها، فكيف نتمثَّل إنسانيّة الرَّسول(ص) في إنسانيَّتنا، ليكون الأسوة؟!
ونجد أنَّ النبيَّ(ص) فيما يريدنا الله تعالى أن نتأسَّى به، كان رجل الرِّسالة، وعلينا أن يكون كلّ واحد منَّا إنسان الرّسالة، فلقد جعل الله تعالى الإسلام أمانةً في أعناقنا. وفي ضوء ذلك، فهل نستوحي من رسول الله(ص) حركيّة الرّسالة التي تجعل الإنسان يفقد ذاته كلّها، ويتحمّل أقسى الآلام وأبشع الاتهامات، في سبيل تأصيل رسالته في الوجدان العامّ للنّاس، "إن لم يكن بك غضبٌ عليّ فلا أبالي"[20]؟ فهل نملك أن نقولها بصدق، أو أننا ننسحب من السّاحة عندما يحاول البعض أن يرجمنا، أو يشير إلينا باتهام، أو يواجهنا بإضعاف بعض مصالحنا؟ ألسنا ـ أيها الأحبة ـ ننصح الرساليّين بأن لا يقولوا كلمة الحقّ، لئلا يعانوا كلام هجر هنا واضطهاداً هناك، أو تكفيراً هنا أو تضليلاً هناك؟ ألسنا نقول لبعض الرساليّين: لم تقول الحقّ؟ دعه حتى تحافظ على نفسك وشأنك وموقعك، إنَّ لك موقعاً كبيراً فحافظ عليه، ولا تقل ما لا يقبله النّاس، حتى لو كان النّاس لا يقبلون الحقّ، أليس هذا هو ما نسمعه من كثير من النّاس الّذين يتحركون في خطّ الرّسالة؟
"إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي"، إنها كلمة أضحت تحلّق في الهواء، فنحن نقرأها في التَّاريخ، ولا يعيش الكثيرون منّا معناها على أرض الواقع. فلقد انطلق النبيّ(ص) في ساحة الصّراع بكلّ قوّة ومرارة، ولكنَّه لم ينسحب من الساحة، لكنّنا نعيش في هذه المرحلة التاريخيّة من حركة الإسلام، التّحدّيات الكبرى الّتي تواجهه في ثقافته، فهناك الثّقافات المضادّة الّتي تريد أن تسقط الإسلام من فكر المسلمين، وأن تمنع الفكر الإسلاميّ من أن يمتدّ إلى غير السّاحة الإسلاميّة.. وهناك التّحدّيات السّياسيّة الّتي تريد أن تسقط الواقع السّياسيّ في السّاحة الإسلاميّة، حتى لا يملك المسلمون أيّ قرار سياسيّ يتعلّق بحركة الواقع باتجاه المستقبل. وإذا جئنا إلى التّحدّيات الاقتصاديّة، نجد أنَّ المسلمين لا يملكون ثرواتهم، وأنهم تحوّلوا إلى عناصر استهلاكيّة لمنتجات الآخرين، ولم يعملوا على أن يكونوا عناصر إنتاجيّة. ونجد أنَّ المسلمين شغلوا بخلافاتهم حتى كفّر بعضهم بعضاً، وضلّل بعضهم بعضاً، وحتّى أصبح المسلمون أحياناً يشيرون إلى بعضهم البعض بما كان يشير به اليهود إلى المشركين، {هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً}[21]. وهذ، للأسف، موجود في الواقع الدّينيّ على أكثر من مستوى، أمَّا الإسلام، فما شغلنا به؟ فليسقط الإسلام، ولينتصر المذهب، وليتنا نظرنا إلى المذهب في خطوطه الإسلاميَّة الأصيلة المنفتحة على الإنسان كلّه، لكنَّنا حصرناه في دائرة ضيِّقة، لنعيش بذهنيَّة طائفيَّة، لا ذهنيّة فكريّة، وهناك فرق بين المذهبيّتين أوضحته قبل عقود، فالمذهبيَّة الفكريَّة هي حركة فكر في دراسة الإسلام، والمذهبية الطائفيّة هي حركة عشائريّة في الدّائرة الضيّقة الّتي يعيشها المسلمون في الواقع البشريّ لا في الواقع الفكريّ.
من وصايا الإمام الصّـادق(ع)
والآخرون يوسّعون الهوّة، ويعمّقون التخلّف في طريقتنا وأساليبنا، وقد حاول الإمام جعفر الصّادق(ع) أن يردم الكثير من الهوّة، فأوصانا قائلاً: "صلّوا في عشائرهم، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم... فإنّكم إذا فعلتم ذلك، قالوا رحم الله جعفراً ما كان أحسن ما يؤدّب أصحابه[22]. وقال لنا: "كونوا زيناً ولا تكونوا شيناً"[23]. فلقد كان يريد أن يجمع المسلمين في صلاة واحدة، وفي مساجد واحدة، مع مراعاة الشّروط الشرعيّة.
وكان يستقبل في مدرسته الاتجاهات كلّها والمذاهب كلّها، حتى إنّه كان يستقبل المثقّفين المادّيّين الذين يناقشونه في العقيدة، فيفتح لهم عقله وقلبه، لأنّه كان يعتقد أنَّ على المسلم أن لا يضطهد الكافر في شخصه، بل في كفره، لأنّ مشكلتنا مع الكافر ليست مشكلة ذاته، ولكنّها مشكلة كفره، وإذا استطعت بالفكر أن تهزم كفره، فإنَّ بإمكاننا أن نربح مسلماً جديداً، وأن لا ننطلق من موقع عقدة إزاء الآخرين، بل من موقع الرسالة، والرسالة ـ كما تعلمون ـ لا تعرف الحقد ولا البغضاء، وقد ورد في رواية عليّ(ع) عن رسول الله(ص) في (نهج البلاغة): "إنّ الله يحبّ العبد ويبغض عمله، ويحب العمل ويبغض بدنه"[24]. فقد يكون مؤمناً، لكن عمله سيّئ، ولذلك، فهناك فاصل بين الذات والعمل، وربما يحبّ الله العمل ويبغض البدن الذي يتحرّك في طريق الانحراف.
حقيقة الوحدة الإسلاميـَّة
أيّها الأحبَّة، عندما نتحدَّث من موقع أئمَّتنا(ع) عن الوحدة الإسلاميَّة، فإنَّ علينا كما أكّدنا أكثر من مرَّة، أن نفهم أنَّ الوحدة الإسلاميَّة لا تعني تمييع المذهبيَّة، بمعنى الانتقال من مذهبٍ إلى آخر لحساب الوحدة، دون اقتناع. ولذا، فمن خلال كونك مسلماً، لا بدَّ من أن تردّ النـّزاع والخلاف إلى الله والرّسول، ليكون الحوار من خلال ما قال الله تعالى وقاله الرّسول(ص)، لا على ضوء ما قال فلان وفلان.
أيّها الأحبَّة، إنَّ الوحدة الإسلاميَّة لا تمثِّل مجرَّد شعار سياسيّ، بل هي قاعدة القوَّة الّتي يرتكز عليها الإسلام، ولن نستطيع أن نصنع القوَّة في العالم الإسلاميّ إذا لم نرتكز على الوحدة الإسلاميَّة، ما دمنا نمزّق بعضنا بعضاً، ونكفِّر بعضنا بعضاً، وما دمنا نحوّل خصوصيّاتنا إلى أوثان نعبدها، وما دامت الكيانات الّتي صنعها الاستكبار من خلال مصالحه قد تحوّلت إلى مقدَّسات، حتى إذا تحدَّث أحدنا بوحدة عربيَّة، أو وحدة إسلاميَّة، نادينا بالويل والثبور وعظائم الأمور، فكيف يمكن أن نهدم هذه الحدود فيما بيننا؟ لقد هدمها الله تعالى فقال: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[25]. وقال: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}[26]. وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[27]. ونحن نقول إنَّ المؤمنين غرباء، ونعتبر الحدود الَّتي صنعها المستكبرون من خلال اقتسامهم لمصالحهم مقدّسات، بل وأصبحنا نحارب بعضنا بعضاً، لأنَّ هذا أخذ عدّة أمتار من حدودنا، وذاك أخذ بضعة أمتار أخرى، والمستكبر يزيد النّار حطباً.
نـداء المَولديْـن
لن تقوم للمسلمين قائمة ما داموا يعيشون في زنزانات الطائفيّة والعرقيّة والإقليميّة، ويبقى الإسلام هو الّذي يجمعنا. وفي ولادة النبيّ(ص)، وولادة الإمام الصّادق(ع)، نكتشف الجسر الّذي يربطنا ويوحِّدنا ويجعلنا ننطلق في الشَّهادة التي نلتقي عليها جميعاً: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمداً رسول الله"، وهذا هو نداء المولد، فهو ليس تصفيقاً، ولا زينة في الشوارع، ولا كلمات فضفاضة.. خطوة واحدة نحو الوحدة، كما كان المسلمون في البداية، إذا أسلم أحدهم جاء في اليوم الثّاني بمسلم آخر، فهل نفكّر إذا عشنا روح الوحدة أن نأتي بوحدويّ آخر، ووحدويّ ثالث، حتى تنتشر الوحدة بين المسلمين؟ هل هذا النّداء هو الّذي نستوحيه من ذكرى المولدين؟!
أيها الأحبّة، المرحلة صعبة صعبة على مستوى العالم الإسلاميّ كلّه، والتّحدّيات كبيرة كبيرة، فهل ندفن رأسنا في الرّمال، حتى لا نرى الصّياد المستكبر على مستوى الدّول والمحاور.. أو نفتح عيوننا جيّداً، ونمسك بأيدينا ما نستطيع به أن نصرع الّذين يصطادون سياستنا واقتصادنا وثقافتنا وأمننا؟ السّاحة مفتوحة، فهل نتحرّك في الخطّ المستقيم؟
-------------------------------------------------------
[1] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 2، ص 159.
[2] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 16، ص 210.
[3] [الشورى: 52]
[4] [العنكبوت: 84].
[5] [الفلق: 1].
[6] [سبأ: 64].
[7] بحار الأنوار، ج 20، ص 21.
[8] [النحل: 103].
[9] [الفرقان: 32].
[10] [التوبة: 40].
[11] [الإسراء: 90].
[12] [الإسراء: 93].
[13] [الكهف: 110].
[14] [الأنعام: 50].
[15] [الأحزاب: 21].
[16] [القلم: 4].
[17] [آل عمران: 159].
[18] [التوبة: 128].
[19] [فاطر: 8].
[20] بحار الأنوار، ج 19، ص 23.
[21] [النساء: 51].
[22] الحقائق الناضرة، المحقق البحراني، ج 11، ص 71.