صفحة من مذكرات طالبة مشاكسة
كلمة (مشاغبة) أو (مشاكسة) قليلة علي أيام المراهقة.. أيام العناد والتمرد والشطانة
ومرت الأيام، وكبرت.. وكبر عقلي معاي، ودخلت بلاط صاحبة الجلالة.. الصحافة، من 6 سنوات... وكان أول مقال لي عن موقف ما أنساه أيام الدراسة.. أيام الشقاوة اللذيذة!
صفحة من مذكرات طالبة مشاكسة
في كل مدرسة أدرس بها لا بد وأن أجمع حولي الكثير من المعجبات من الطالبات.. بل والمعلمات أحياناً.
كنت شخصية ذات شعبية كبيرة.. ولكنني لم أكن أشعر بمتعة الصداقة الحقيقية إلا مع صديقة استمرت صداقتي بها لسنوات، وقد كانت زميلة مخلصة لي، فقد كانت تدرس معي في كل مدرسة ألتحق بها.. وقد كنا أشبه بتوأمين في الطباع.
ربما كانت الصفة المشتركة بيننا هي شقاوتنا ومرحنا المزعج في بعض الأحيان!، وهواياتنا المفضلة التي لطالما مارسناها في كل مكان وإحداها "وهي الأكثر متعة".. كانت صنع وتدبير المقالب للغير!
ومازلت أذكر ذلك الصباح الذي كانت الرتابة تتحكم في حصصه وأجوائه، فأخرجت من حقيبتي تلك المادة الخبيثة التي كانت تباع في محلات الخدع والألعاب المخصصة لصنع المقالب، وبعد انتهاء الحصص الأولى رن جرس البريك لأرافق صديقتي (شروق) إلى الساحة حيث التجمعات والشلل والمناخ الخصب للتحرش!
وهناك أخذت أنا وصديقتي الشقية نرش البودرة المثيرة للحكة على الطالبات اللاتي نعرفهن واللاتي لا تربطنا بهن أي علاقة... لم تصدر ردود أفعال من بعضهن.. أما الأخريات فكن ينظرن إلينا باستغراب واستنكار!؟
..وانتظرنا قليلاً حتى يبدأ مفعولها، وكم كنا تواقتين لرؤية تلك الأعداد الهائلة من الطالبات يهرشن أجسادهن سوياً.. وكنا نظن بأنه سيكون مشهداً ممتعاً ومضحكاً بعد عدة دقائق بسبب المفعول الذي لا يزول إلا مع الاستحمام... ولكن كل ما فعلناه انقلب ضدنا في النهاية، بعد أن أخطأنا في طريقة استعمال البودرة، إذ أفرطنا في تفريغ محتوياتها على رؤوس الفتيات وأطرافهن!.. لتصاب إحدى الطالبات بإغماء والأخرى بنوبات إعياء متكررة بسبب الحساسية والربو الذي تعاني منه.. وأخريات بشراتهن لم تتحمل كل تلك الحكة حتى شوهت الجروح أعناقهن والأطراف!!
وقد هز ذلك المقلب من العيار الثقيل أرجاء المدرسة عندما تطورت المشكلة ليتدخل أولياء الأمور ويتم رفع الشكاوى والتهديدات لصاحب المدرسة الذي كاد أن يصدر قراراً بفصلنا أنا و(شروق).. وكان من ضمن هؤلاء والد أضعف واحدة من المصابات.. وكان رجلاً بدوياً معروف عنه الشدة والغلظة!
وأخذ ذلك الرجل يهدد ويتوعد قائلاً بأنه لن يغفر لنا "تلك الجريمة" إن حدث وأصاب ابنته مكروه بعد أن أصبحت كثيرة التردد على المستشفيات!
وما زلت أذكر كيف كانت تلك المجموعة من الطالبات المصابات يترددن على أحد المستشفيات بشكل منتظم، في كل يوم دراسي.. ومع بداية الحصة الرابعة، حيث كانت تأتيهن الحالة حسب الموعد الذي رميناهن فيه بتلك البودرة اللعينة، ليأخذن الحقنة المهدئة اليومية بينما اضطررنا- أنا وصديقتي (شروق)- للذهاب معهن للمستشفى أكثر من مرة بناءً على طلب الأطباء الذين كانوا يحققون معنا لمعرفة ما هي تلك المادة وما هي مكوناتها لعمل اللازم بإيجاد مواد مضادة لها كدواء فعال.. لوضع حد لمأساة الطالبات اللاتي كن يعانين من الحمى تارة ومن الغثيان والدوار تارة أخرى، بالإضافة إلى تشوه البشرة بشكل فظيع!
ولم يكن يمضي نهار إلا ونقابل فيه الأطباء الذين أرهقونا بكثرة الأسئلة.. حتى أصبحنا نعرف موعد حضور تلك الإدارية التي كانت تطلبنا من المعلمة، لنخرج من الحصة قبل قدومها بدقائق!
وفي المستشفى فقد رأيت الزميلات وهن يأخذن الحقنة وأشياء أخرى، وكل واحدة على وجهها آثار التعب والألم وكل ما تعنيه الكلمة من معاناة!.. ولا أخفيكم سراً بأنني حقدت على نفسي وكرهت الساعة التي اشتريت فيها تلك البودرة الشريرة!
.. وما كان بيدنا للخلاص من المتاعب والكآبة التي كانت تحاصرنا من جميع الجهات سوى شراء تلك البودرة مرة أخرى لعرضها على الأطباء.. ولكن لسوء حظنا أنها مُنعت من كافة المحلات والأسواق فجأة!.. وياللصدفة الغريبة!
ووقعت في حيرة من أمري.. وعجزت أنا و(شروق) عن مواجهة تهديدات الإدارة في المدرسة ومحاصرة الأطباء لنا بالأسئلة المتكررة وتأنيب أهالينا في البيت وتأنيب الضمير!.. ولم يكن بأيدينا أنا وصديقتي في تلك الفترة العصيبة أي شيء نفعله حتى نرتاح من هذا العذاب!!
كنت أعود من المدرسة كل يوم متجهة إلى غرفتي فأغلق الباب، لأستلقي على سريري.. مشتتة الفكر.. أبحث لساعات عن حل يخرجني من تلك الورطة.. وكلما تذكرت تهديد والد تلك الفتاة المريضة أشعر بالمزيد من القلق لأن حالتها خطرة وقد توعدني بالانتقام!
هكذا كنت كل يوم في غرفتي.. منعزلة عن الجميع لأنني لم أعد أستحمل المزيد من التوبيخ !
لقد ندمت أنا و(شروق) لأننا رمينا بمغلف البودرة في التواليت بعد انتهاءنا من عمل ذلك المقلب الذي انقلب ضدنا فيما بعد!.. فلو كنا قد احتفظنا على الأقل بذلك المغلف لكان شاهداً على حسن نوايانا بتلك الصورة التي يحملها غلاف العلبة والتي يظهر فيها رجل بكامل أناقته، يهرش كل جسده!.. لنثبت للجميع أن تلك البودرة ليست سوى لعبة بريئة.. وليس كما أشيع في المدرسة وخاصة بين أوساط المعلمات، حينما أطلقن إشاعة تقول بأنها مخدرات!!
نعم.. لقد اسودت الدنيا في عيني حينما أحاطت بنا الشبهات وحينما حاصرتنا الهمسات والغمزات واللمزات ونظرات الشك التي لا تخلو من الاحتقار في عيون البعض من المعلمات اللاتي لم يتقبلن حتى فكرة حضورنا لحصصهن!
وفي النهاية خرجنا من ذلك المأزق بأعجوبة، فقد شفيت الزميلات من آثار "بودرة العفريت".. كما هو اسمها!... والتي أصبحت أكره اليوم الذي رأيتها فيه!
ومن الإشاعات الظريفة التي انتشرت كالنار في الهشيم بالمدرسة آنذاك، أن أولئك الطالبات قد أصبن بالجرب!
وفي نهاية العام الدراسي، وبينما كنت أودع صديقاتي وزميلاتي، أقبلت إحدى الضحايا لتطبع قبلة الوداع على وجنتي وتضمني بقوة رغم كل الذي فعلته بهن!.. وحينما صافحتها وهممت بالرحيل لفت انتباهي آثار شقاوتي على تلك البشرة الناعمة، فطلبت منها أن تغفر لي ذلك المقلب وأن تجعل من تلك الآثار ذكرى جميلة لمدرستنا التي رغم أنني كنت أحدث فيها الكثير من المشاكل وبصفة يومية، إلا أنني تخرجت فيها وزميلاتي ومعلماتي يرجون مني عدم القطيعة والنسيان!
لقد سامحني الجميع بعد أن شفعت لي خفة دمي وقلبي الكبير.. كما تقول إحدى زميلاتي المقربات.
وأخيراً.. ذهبت قبل فترة لأتفقد ذلك المحل ولأرى غلاف "بودرة العفريت" لأسترجع الذكريات، فلم أجدها فعرض علي البائع نوعاً جديداً اسمه "بودرة العطس" ، فهربت منه قبل أن تستيقظ بداخلي أفكاري الشيطانية وشقاوتي من جديد!