سوى الله"أو أن يثني على نفسه كناية أو إشارة بامتلاك العقائد الحقة، وهذا
الأسلوب هو الأكثر رواجا. فمثلا عندما يجري حديث عن التوكل أو الرضا
بقضاء الله، يجعل الشخص المرائي نفسه في سلك أولئك الجمع بواسطة تأوّهه
أو هزّ رأسه. الثانية: وهي أن يبعد عن نفسه العقائد الباطلة وينزه نفسه عنها،
لأجل الحصول على الجاه والمنزلة في القلوب، سواء أكان ذلك بصراحة القول
أم بالإشارة والكتابة. المقام الثاني: وفيه أيضا مرتبتان: إحداهما: أن يظهر
الخصال الحميدة والملكات الفاضلة، والأخرى: أن [56] يتبرأ مما يقابلها، وأن
يزكّي نفسه للغاية نفسها التي أصبحت معلومة. المقام الثالث: وهو الرياء
المعروف عند الفقهاء الماضين - رضوان الله عليهم - وله أيضاً نفس تلكما
الدرجتين، إحداهما: أن يأتي بالأعمال والعبادات الشرعية، أو أن يأتي
بالأمور الراجحة عقلاً، بهدف مراءاة الناس وجلب القلوب، سواء أن يأتي
بالعمل نفسه بقصد الرياء، و بكيفيته، أو شرطه أو جزئه بقصد الرياء على
الشكل المذكور في الكتب الفقهية. ثانيهما: أن يترك عملاً محرماً أو مكروهاً
بنفس الهدف المذكور. ونحن نشرح في هذه الأوراق، بعضاً من مفاسد كلّ
واحد من هذه المقامات الثلاثة ونشير إلى ما يبدو علاجاً لها على نحو
الاختصار. المقام الأول ( الرياء ) وفيه عدة فصول فصل ( الرياء في أصول
العقائد والمعارف الإلهية ) اعلم أن الرياء في أصول العقائد والمعارف الإلهية
أشد من جميع أنواع الرياء عذاباً وأسوأها عاقبة، وظلمته أعظم وأشد من
ظلمات جميع أنواع الرياء. وصاحب هذا العمل إذا كان في واقعه لا يعتقد
بالأمر الذي يظهره، فهو من المنافقين، أي أنه مخلَّد في النار، وأن هلاكه أبديّ،
وعذابه أشدّ العذاب. وأما إذا كان معتقداً بما يظهر، لكنه يظهر من أجل
الحصول على المنزلة والرتبة في قلوب الناس، فهذا الشخص وإن لم يكن منافقاً
إلاّ أن رياءه ي ؤدي إلى اضمحلال نور الإيمان في قلبه، ودخول ظلمة الكفر
إلى قلبه، فإن هذا الشخص يكون مشركا في الخفاء، لأن المعارف الإلهية
والعقائد الحقة، التي يجب أن تكون خالصة لله، ولصاحب تلك الذات المقدسة،
قد حوّلها - المرائي - إلى الناس، وأشرك فيها غيره، وجعل الشيطان متصرفاً
فيه، فهذا القلب ليس لله. [57] ونحن سنذكر في أحد الفصول؛ أن الإيمان
من الأعمال القلبية، وليس هو مجرد علم، وقد جاء في الحديث الشريف:"كُلُ
رِيَاءٍ شِرْكٌ". ولكن هذه الفجيعة الموبقة، وهذه السريرة المظلمة، وهذه الملكة
الخبيثة، تؤدي بالإنسان في النهاية، إلى أن تصبح دار قلبه مختصة بغير الله،
وتؤدي ظلمة هذه الرذيلة بالإنسان تدريجياً إلى الخروج من هذه الدنيا بدون
إيمان. وهذا الإيمان الذي يمتلكه هو صورة بلا معنى، وجسد بلا روح، وقشر
بلا لب، ولا يكون مقبولاً عند الله تعالى، كما أشير إليه في حديث مذكور ف
كتاب الكافي، عن علي بن سالم، قال:"سـَمـِعـْتُ أبا عَبْدِاللهُ عليه
السّلام يقولُ: قالَ اللهِ عزَّ وجلَّ: أَنَا خُيْرُ شَرِيكٍ مَنْ أَشْرَكَ مَعِي غيرِي فِي
عَمَل عَمِلَهُ لَمْ أَقْبَلُهُ إلاّ مَا كَانَ لِي خَالِصاً"(أصول الكافي - المجلد الثاني -
كتاب الإيمان والكفر - باب الرياء - ح 9 ). وبديهي أن الأعمال القلبية في
حال عدم خلوصها لا تصبح مورداً لتوجه الحق تعالى ولا يتقبلها بل يوكلها
إلى الشريك الآخر، الذي كان يعمل له ذلك الشخص مراءاة. إذاً فالأعمال
القلبية تصبح مختصة بذلك الشخص، وتخرج من حدّ الشرك، وتدخل إلى
الكفر المحض. بل ويمكن القول إن هذا الشخص هو من جملة المنافقين. وكما
أن شركه خفي فنفاقه خفي أيضاً، فهذا المسكين يتصور أنه مؤمن ولكنه
مشرك منذ البداية، وفي النتيجة هو منافق. وعليه أن يذوق عذاب المنافقين،
وويل للذي ينتهي عمله إلى النفاق. فصل في بي ان أن العلم يغاير الإيمان
اعلم أن الإيمان غير العلم بالله ووحدانيته وسائر الصفات الكمالية الثبوتية
والجلالية السلبية، والعلم بالملائكة والرسل والكتب ويوم القيامة. وما أكثر من
يكون له هذا العلم ولكنه ليس بمؤمن. الشيطان عالم بجميع هذه المراتب بقدر
علمنا وعلمكم، ولكنه كافر. بل إن الإيمان عمل قلبي، وما لم يكن ذلك فليس
[58] هناك إيمان. فعلى الشخص الذي علم بشيءٍ عن طريق الدليل العقلي
أو ضروريات الأديان، أن يسلّم لذلك قلبه أيضاً، ولأن يؤدي العمل القلبي
الذي هو نحو من التسليم والخضوع، ونوع من التقبل والاستسلام - عليه أن
يؤدي ذلك - لكي يصبح مؤمناً. وكمال الإيمان هو الاطمئنان. فإذا قوي نور
الإيمان تبعه حصول الاطمئنان في القلب، وجميع هذه الأمور هي غير العلم.
فمن الممكن أن يدرك العقل بالدليل شيئا لكن القلب لم يسلم بعد، فيكون
العلم بلا فائدة. مثلاً أنتم أدركتمبعقولكم أن الميت لا يستطيع أن يضرّ أحداً،
وأن جميع الأموات في العالم ليس لهم حس ولا حركة بقدر ذبابة، وأن جميع
القوى الجسمانية والنفسانية قد فارقته ولكن حيث أن القلب لم يتقبل هذا الأمر
ولم يسلم أمره للعقل، فإنكم لا تقدرون على مبيت ليلة مظلمة واحدة مع
ميت!! وأما إذا سلّم القلب أمره للعقل، وتقبل هذا الحكم منه، فلن يكون في
هذا العمل - أي المبيت مع الميت - أي إِشكال بالنسبة إليكم، كما أنه وبعد
عدة مرات من الإقدام، يصبح القلب مسلّماً، فلن يبقى عنده بعدها بأس أو
خوف من الميت. إذاً؛ أصبح معلوماً أن التسليم - وهو من حظ القلب - غير
العلم الذي هو من حظ العقل. ومن الممكن أن يبرهن إنسان بالدليل العقلي،
على وجود الخالق تعالى والتوحيد والمعاد وباقي العقائد الحقة ولكن هذه
العقائد لا تسمى إيمانا، ولا تجعل الإنسان مؤمنا، وإنما هو من جملة الكفار أو
المنافقين أو المشر كين. فاليوم العيون مغشّاة، والبصيرة الملكوتية غير موجودة،
والعين الملكية لا تُدرك، ولكن عند كشف السرائر، وظهور السلطة الإلهية
الحقة، وخراب الطبيعة وانجلاء الحقيقة، سيعرف ويلتفت بأن الكثيرين لم
يكونوا مؤمنين بالله حقا، وأن حكم العقل لم يكن مرتبطا بالإيمان، فما لم
تكتب عبارة"لا إله إلا الله"بقلم العقل على لوح القلب الصافي لن يكون
الإنسان مؤمنا بوحدانية الله. وعندما ترد هذه العبارة النورانية الإلهية على
القلب، تصبح سلطة القلب لذات الحق تعالى، فلا يعرف الإنسان بعدها
شخصا آخر مؤثرا في مملكة الحق، [59] ولا يتوقع من شخص آخر جاها
ولا جلالا، ولا يبحث عن المنزلة والشهرة عند الآخرين. ولا يصبح القلب
مرائيا ولا مخادعا حينئذ. وإذا رأيتم رياء في قلوبكم، فاعلموا أن قلوبكم لم
تسلّم للعقل، وأن الإيمان لم يقذف نوره فيها، وأنكم تعدون شخصا آخر إلها
ومؤثرا في هذا العال، لا الحق تعالى، وأنكم في زمرة المنافقين أو المشركين أو
الكفار. فصل في وخامة أمر الرياء تأمل أيها الشخص المرائي... يا من
أودعت العقائد الحقة والمعارف الإلهية بيد عدو الله، وهو الشيطان، وأعطيت ما
هو مخصوص بالحق تعالى للآخرين، وبدّلتَ تلك الأنوار التي تضيء الروح
والقلب وهي رأسمال النجاة والسعادة الأبدية ومنبع اللقاء الإلهي وبذرة القرب
من المحبوب أبدلتها بظلمات موحشة وشقاء أبدي وجعلتها رأسمال البُعد
والابتعاد عن ساحة المحبوب المقدسة، والابتعاد عن لقاء الله تعالى. تهيأ، أيها
المرائي، للظلمات التي لا نور بعدها، وللشدائد التي لا فرج لها، وللأمراض التي
لا يرجى شفاؤها، وللموت الذي لا حياة معه، وللنار تخرج من باطن القلب
فتحرق ملكوت النفس وملك البدن حرقاً لم يخطر على قلبي وقلبك، والتي
يخبرنا عنها الله تعالى في كتابه المنزل في الآية الشريفة {نَارُ اللَّهِ الْ مُوقَدَةُ،
الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ }(الهمزة 6،7). حيث تحدثت عن نار الله، هذه النار
التي تتسلط على القلوب فتحرقها، وليست هناك نار تحرق سوى النار الإلهية
فإذا فقدت فطرة التوحيد - وهي فطرة الله - وحلَّ محلها الشرك والكفر،
حينئذ لن تكون شفاعة الشافعين من نصيب الإنسان بل يخلد الإنسان في
العذاب، وما أدراك ما العذاب؟ إنه العذاب الذي ينبعث عن الغضب الإلهي.
إذاً أيها العزيز... من أجل خيال باطل ومحبوبية بسيطة في أعين العباد [60]
الضعاف، ومن أجل جذب قلوب الناس المساكين، لا تعرض نفسك للغضب
الإلهي، ولا تبع ذلك الحب الإلهي وتلك الكرامات غير المحدودة، وتلك
الألطاف والعنايات الربانية، لا تبعها بمحبة بسيطة عند مخلوق ليس له أثر، ولا
تكسب منه أيّة ثمرة سوى الندامة والحسرة، عندما تقصر يداك عن هذا العالم -
وهو عالم الكسب -، وعندما ينقطع عملك، وليس للندم حينئ نتيجة ولا
للإنابة من فائدة. فصل تنبيه علمي لاستئصال جذور الرياء نذكر هنا أمراً
نأمل أن يكون مؤثراً في علاج هذا المرض القلبي سواء في هذا المقام أو
المقامات الأخرى، وهذا الأمر مطابق للبرهان - الدليل- والمكاشفة والعيان
وأخبار المعصومين وكتاب الله، وللعقل حيث يصدق عقول الناس. وهو أنه
نتيجة لإحاطة قدرة الله تبارك وتعالى بجميع الموجودات، وبسطة لسلطانه على
جميع الكائنات، وإحاطة قيمومته بجميع الممكنات، فإن قلوب العباد جميعا
تكون تحت تصرفه وبيد قدرته وفي قبضة سلطانه، ولا يتصرف - ولن
يتصرف - أحد في قلوب العباد بدون أذنه القيومي وإجازته التكوينية. وحتى
أصحاب القلوب أنفسهم ليست لهم القدرة على التصرف في قلوبهم بدون
إذن من الله تعالى. وبهذا المعنى وردت كلمات، إشارة وكناية وصراحة في
القرآن وفي أخبار أهل البيت (عليهم السلام). إذاً، فالله تعالى هو مالك القلب
وا لمتصرف فيه وأما العبد الضعيف العاجز فلا يستطيع أن يتصرف بقلبه بدون
إذنه، بل إن إرادته قاهر لإرادتك ولإرادة جميع الموجودات. إذن فرياؤك
وتملقك، إذا كانا لأجل جذب قلوب العباد، ولفت نظرهم، ومن أجل
الحصول على المنزلة والتقدير في القلوب والاشتهار بالصلاح، فإن ذلك خارج
كلية عن تصرفك، وهو تصرف الله، فإله القلوب وصاحبها يوجه القلوب نحو
من يشاء بل من الممكن أن تحصل على نتيجة عكسية. وقد رأينا وسمعنا أن
أشخاصا متملقين ومنافقين ممن لم تكن لهم قلوب طاهرة، قد افتضحوا وبان
زيفهم ففرض عل يهم عكس ما أرادوا الحصول عليه من النتائج في نهاية
[61] الأمر. لقد وردت الإشارة إلى هذا المعنى في الحديث الشريف في
الكافي:"عن جرّاحٍ المَدائني، عَنْ أبي عَبْدِالله عليه السّلام في قَوْلِ اللهِ عزَّ
وجلَّ: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشرِكْ بِعِبَادَةِ
رَبِّهِ أَحَدًا}(الكهف110).."قال عليه السلام: الرَّجُلُ يَعْمَلُ شَيْئاً مِنَ الثَّوابِ
لاَ يَطْلبُ بِهِ وَجْهَ اللهِ، إِنَّما يَطْلُبُ تَزْكِيَةَ النَّاسِ يَشْتَهي أَنْ يَسْمَعَ به النَّاسُ
فَهذا الَّذي أَشْرَكَ بِعِبَادةِ رَبّه. ثُمَّ قال: مَا مِنْ عبد أَسَرَّ خَيْراً فَذَهَبَتِ الأَيّامُ
أَبَداً حتى يُظْهِرَ اللهُ لَهُ خَيْراً، وَمَا مِنْ عَبْدٍ أسرَّ شَرّاً فَذَهَبَتِ الأَيّامُ أَبداً حَتَّى
يُظْهِرُ اللهُ لَهُ شَراً"( أصول الكافي - المجلد الثاني - باب الرياء - ح 4) إذاً
أيها العزيز، أطلب السمعة والذكر الحسن من الله، التمس قلوب الناس من
مالك القلوب، أعمل أنت لله وحده فستجد أن الله تعالى - فضلاً عن
الكرامات الأخروية ونعم ذلك العالم - سيتفضل عليك في هذا العالم نفسه
بكرامات عديدة، فيجعلك محبوباً، ويعظم مكانتك في القلوب، ويجعلك مرف
وع الرأس - وجيهاً - في كلتا الدارين. ولكن إذا استطعت فخلّص قلبك
بصورة كاملة بالمجاهدة والمشقة، من هذا الحب أيضاً، وطهِّر باطنك، كي
يكون العمل خالصا من هذه الجهة، ويتوجه القلب إلى الله فقط حتى تطهر
الروح، وتزول أدران النفس. فأية فائدة تجني من حب الناس الضعاف لك، أو
بغضهم، أو من الشهرة والصيت عند العباد وهم لا يملكون شيئا من دون الله
تعالى؟ وحتى لو كانت له فائدة - على سبيل الفرض - فإنما هي فائدة تافهة
ولأيام معدودات، ومن الممكن أن يسوق هذا الحب عاقبة عمل الإنسان إلى
الرياء، وأن يجعل الإنسان - لا سمح الله - مشركا ومنافقا وكافرا. وأنه إذا لم
يفتضح في هذا العالم، فسيفتضح في ذلك العالم في محضر العدل الرباني، عند
عباد الله الصالحين وأنبيائه العظام وملائكته المقربين، ويهان ويصبح مسكينا.
إنها فضيحة ذلك اليوم، وما أدراك ما تلك الفضيحة، والله يعلم أي ظلمات
تلي تلك المهانة في ذلك المحضر! إن ذلك اليوم - كما يقول الله تعالى في
كتابه- يتمنى الكافر فيه قائلا: {يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا}(النبأ40).، ولكن لا
جدوى لهذا التمني. [62] أيها المسكين، إنك ولأجل محبة بسيطة، جزئية،
ومنزلة عديمة الفائدة بين العباد، تجاوزت تلك الكرامات وفقدت رضا الله،
وعرضت نفسك لغضب الله. لقد استبدلت الأعمال التي كان ينبغي أن تهيئ
بها دار الكرامة في الآخرة، وتوفر الحياة السعيدة الدائمة وتصل بواسطتها إلى
أعلى عليين في الجنان استبدلتها بظلمات الشرك والنفاق وأعددت لنفسك
الحسرة والندامة والعذاب الشديد، وجعلت نفسك من أهل"سِجـِّين"،
بالصورة التي وردت في الحديث الشريف في الكافي عن الإمام الصادق عليه
السلام:" قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلّى الله عَلَيهِ وآلِهِ وَسَلَّم: إِنَّ المَلَكَ لَيَصْعَدُ