اللهم صل على فاطمه وابيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها بعدد مااحاط به علمك.......
حرب الجمل وما تحمل من مصائب على قلب ولي الله الاعظم عليه السلام
قتال الناكثين
النكث في اللغة هو نقض البيعة والمراد من قتال الناكثين: قتال الشيخين: الزبير وطلحة اللّذين نكثا بيعة الإمام وتبعهما طوائف من الناس، بترغيب وترهيب، وكان بدأ الخلاف انّ طلحة والزبير جاءا إلى عليّ وقالا له: يا أميرَ المؤمنين قد رأيتَ ما كنّا فيه من الجفوة في ولاية عثمان كلّها، وعلمت رأي عثمان في بني اُميّة، وقد ولاّك الله الخلافة من بعده، فوّلنا بعضَ أعمالك، فقال لهما: إرضيا بقَسم الله لكم. حتى أرى رأيي، واعْلما أنَّي لا أشرك في أمانتي إلاّ مَن أرضى بدينه، وأمانته من أصحابي، ومن قد عرفت دخيلتَه .
فانصرفا عنه وقد دخلهما اليأس فاستأذناه في العمرة
خرجا من عنده وهما غاضبان ويحتالان للخروج عن بيعته ونكثها، وفي ذلك الظرف القاسي، وصل إليهما كتاب معاوية يدعوهما إلى نكث البيعة وأن أهلَ الشام بايعوا لهما إمامين مترتبين، فاغترّا بالكتاب وعزما النكث بجد.
ثم دخلا على علىّ فاستاذناه في العمرة، فقال: ما العمرة تريدان، فحلفا له بالله انّهما ما يريدان غير العمرة، فقال لهما: ماالعمرة تريدان، وانّما تريدان الغدرة، ونكث البيعة، فحلفا بالله ما الخلاف عليه ولانكثَ بيعته يريدان وما رأيهما غير العمرة، فقال لهما: فأعيدا البيعة لي ثانية، فأعاداها بأشدّ مايكون من الأيمان والمواثيق، فأذنَ لهما فلمّا خرجا من عنده قال لمن كان حاضراً: والله لاترونهما إلاّ في فتنة يقتتلان فيها. قالوا: يا أميرالمؤمنين فمُرْ بردِّهما عليك.
قال: ليقضي الله أمراً كان مفعولا
خروج عائشة إلى مكة:
غادرت عائشة المدينة المنوّرة عندما حاصر الثوار بيت عثمان، ونزلت في مكة، ووصل خبر قتل الخليفة إليها وهي فيها، وكانت على تطلُّع إلى أين انتهت الثورة وإلى من آلت إليه الخلافة، فغادرت مكة إلى المدينة فلمّا نزلت «سرف» لقيها عبد ابن اُمّ كلاب فقالت له: «مهيم»؟ قال: قَتَلوا عثمان فمكثوا ثمانياً، قال: ثم صنعوا ماذا؟ قال: إجتمعوا على علىّ بن أبي طالب، فقالت: و الله إنّ هذه انطبقت على هذه إن تمّ الأمر لصاحبك، رُدّوني رُدّوني، فانصرفت إلى مكّة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلوماً، والله لأطلبنّ بدمه، فقال لها ابن اُمّ كلاب: ولم؟ فوالله إنّ أوّلَ من اَمالَ حرفه لأنت، ولقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلا فقد كفر. قالت: إنّهم استتابوه، ثم قتلوه، ولقد قلت وقالوا، وقولي الأخير خير من قولي الأوّل، فقال لها: ابن اُمّ كلاب:
منك البداء و منك الغير * و منكَ الرياح و منكِ المطر
و انتِ أمرتِ بقتل الإمام * و قلتِ لنا أنّه قد كفر
فهبنا اطعناكَ في قتله * و قاتلُه عندنا مَنْ اَمَر
و لم يسقط السيف من فوقنا * ولم تنكسف شمسنا و القمر
فانصرفت إلى مكّة فنزلت على باب المسجد فقصدت الحِجْرَ وسترت، واجتمع إليها الناس فقالت: يا أيّها النّاس انّ عثمان قد قتل مظلوماً والله لأطلبّن بدمه ثم إنّ طلحة والزبير بعدما استأذنا عليّاً غادرا المدينة ونزلا مكة، وكانت بينهما وبين عائشة صلة وثيقة يتآمرون ضد عليّ فلمّا بلغ عليّاً مؤامرة الزبير وطلحة وانّهما نكثا ايمانهما وعلى أهبة المكافحة معه، أشار بعض أصحابه أن لايتبعهما فأجاب علي بقوله: «والله لاأكون كالضبع تَنام على طول اللّدم، حتى يصلَ إليها طالبها، ويختلها راصدها، ولكن أضرب بالمقبل إلى الحق، المدبَر عنه، وبالسامع المطيع، العاصي المريب أبداً، حتى يأتي عليّ يومي»
مغادرة الشيخين وعائشة مكة:
اتّفق المؤامرون ومعهم جماعة من أعداء الامام، على أن يرتحلو إلى البصرة، ويّتخذوها مقرّاً للمعارضة المسلّحة.
وقد كان عبدالله بن عامر، عامل عثمان على البصرة، هربَ منها حين أخذ البيعة لعلي بها على الناس، جاريةُ بن قدامة السعدي، ومسير عثمان بن حنيف الأنصاري إليها على خراجها من قِبَلِ علىّ .
وانصرف عن اليمن عاملُ عثمان وهو يعلى بن متيه فأتى مكّة وصادف بها عائشه وطلحة والزبير ومروان بن الحكم في آخرين من بني اُميّة، فكان ممّن حرّض على الطلب بدم عثمان وأعطى عائشة وطلحة والزبير أربع مائة ألف درهم وكراعاً وسلاحاً وبعث إلى عائشة بالجمل المسمّى «عسكرا». وكان شراؤه عليه باليمن مائتي دينار فأرادوا الشام فصدَّهم ابن عامر، وقال لهم: إنّ معاوية لا ينقاد اليكم ولايعطيكم من نفسه النصفة، لكن هذه البصرة لي بها صنائع وعدد.
فجهّزهم بألف ألف درهم، ومائة من الابل وغير ذلك، فسار القوم نحو البصرة في ستمائة راكب، فانتهوا في الليل إلى ماء لبني كلاب، يعرف بـ«الحوأب» عليه اُناس من بني كلاب فعوت كلابهم على الركب، فقالت عائشة: ما اسم هذا الموضع؟ فقال لها السائق لجملها: «الحوأب»، فاسترجعتْ، وذكرت ما قيل لها في ذلك(1) وقالت: رُدّوني إلى حرم رسول الله، لاحاجة لي في المسير، فقال الزبير: تالله ما هذا «الحوأب»، ولقد غلط في ما أخبرك به، وكان طلحة في ساقة الناس فلحقها فأقسم بالله إنّ ذلك ليس بالحوأب وشهد معهما خمسون رجلا ممّن كان معهم .
فأتوا البصرة فخرج إليهم عثمان بن حنيف فمانعهم وجرى بينهم قتال، ثم إنّهم اصطلحوا بعد ذلك على كفِّ الحرب إلى قدوم علىّ، فلمّا كان في بعض الليالي، بيّتوا عثمانَ بن حنيف فأسَروَه وضربوه ونتفوا لحيته، ثم إنّ القوم استرجعوا وخافوا على مخلَّفيهم بالمدينة من أخيه: سهل بن حنيف وغيره من الأنصار، فخلوا عنه وأرادوا بيت المال فمانعهم الخُزّان والموكّلون به فقتل منهم سبعون رجلا من غير جرح، وخمسون من السبعين ضربت أعناقهم صبراً من بعد الأسر، وقتلوا حكيم بن جبلة العبدي وكان من سادات عبد القيس، وزهّاد ربيعة ونُسّاكها و تشاح طلحة والزبير في الصلاة بالنّاس، ثمّ اتّفقوا على أن يصلّي بالناس عبدالله بن الزبير يوماً ومحمّد بن طلحة يوماً في خطب طويل كان بين طلحة والزبير
مسير علي إلى جانب البصرة:
وقف الامام على أنّ المتآمرين خرجوا من مكّة قاصدين البصرة، فاهتم الامام بايقافهم في الطريق قبل الدخول إليها فسار من المدينة بعد أربعة أشهر من بيعته في سبعمائة راكب، منهم أربعمائة من المهاجرين والأنصار، منهم سبعون بدريّاً وباقيهم من الصحابة، وقد كان استخلف على المدينة سهل بن حنيف الأنصاري، فانتهى إلى الربذة بين مكّة والكوفة، وكان يترقّب إلقاء القبض على رؤوس الفتنة قبل الدخول الى البصرة، لكن فاته ما يترقّب لأنّهم سبقوا الامام في الطريق ولحق بعلي من أهل المدينة، جماعة من الأنصار، فيهم خزيمة بن ثابت ذوالشهادتين وأتاه من طىّ ستمائة راكب.
خرج عثمان بن حنيف من البصرة، وقدم على علي ـ عليه السَّلام ـ بالربذة، وقد نتفوا رأسه ولحيته وحاجبيه، فقال: يا أميرالمؤمنين بعثتني ذا لحية،وجئتك أمرد، فقال: أصبتَ خيراً وأجراً واتصلت بيعة علي بالكوفة: وغيرها من الأنصار، وكانت الكوفة أسرعها إجابة إلى بيعته، وأخذ له البيعة على أهلها ـ على كره ـ أبوموسى الأشعري حين تكاثر الناس عليه، وكان عاملا لعثمان عليها لمّا وقف الامام على ماجرى على عثمان بن حنيف وحَرَسِه، بعثَ بعض أصحابه بكتاب إلى أبي موسى الأشعري يطلب منه استنهاضه للناس، ولكنّه تهاون في الأمر ولم يَقُم بواجبه بعدما أخذ البيعة له، واعترف بإمامته، وقال للناس: إنّها فتنة صمّاء، النائم فيها خير من اليقضان، واليقظان فيها خير من القاعد، والقاعد خير من القائم، والقائم خير من الراكب، فكونوا جرثومة من جراثيم العرب، فاغمدوا السيوف، وانصلوا الأسنَّة، واقطعوا الأوتار، وآووا المظلوم و المضطهد حتى يلتئم هذا الأمر، وتتجلّى هذه الفتنة.
ولّما بلغ عليّاً خذلان أبي موسى الأشعري، وانّه يصف محاربة الناكثين بالفتنة، بعث هاشم بن هاشم المرقال وكتب الى أبي موسى: «إنّي لم اُولِّك الذي أنت به إلاّ لتكونَ من أعواني على الحق....»
وكان أبوموسى من أوّل الأمر عثمانّي الهوى وقد أخذ البيعة لعلي على الناس بعد اكثار الناس عليه ـ كما تقدم ـ فلأجل ذلك بقى على ما كان عليه من الحياد، ولم يُنهِض الناس، واستشار السائب بن مالك الأشعري فأشار هو باتباع الإمام ومع ذلك لم يقدم عليه .
فكتب هاشم إلى علىّ، امتناع أبي موسى من الاستنفار.
ولمّا تمّت الحجة عند الإمام انّ الرجل ليس على وتيرة صحيحة، عزله عن منصبه فولّى على الكوفة قرظة بن كعب الأنصاري و كتب إلى أبي موسى اعتزل عملنا يا بن الحائك مذموماً مدحوراً، فما هذا أوّلُ يومنا منك و انّ لك فينا لهنات وهنات.
وسار علي فيمن معه حتى نزل بذي قار وبعث بابنه الحسن وعمار بن ياسر إلى الكوفة يستنفران الناس، فسارا عنها و معهما من أهل الكوفة نحو من سبعة آلاف، وقيل ستة آلاف وخمسمائة وستون رجلا منهم الأشتر.
فانتهى علي إلى البصرة وراسل القوم وناشدهم فأبوا إلاّ قتاله
قد وصلنا إلى أعتاب الحرب الطاحنةِ المعروفة بحرب «الجمل» وقبل الخوض في تفصيلها نشير إلى نكات تستفاد فيما سردناه من المقدمات، ثم نخوض في صلب الموضوع حسب اقتضاء المقام.
1 ـ إنّ الزبير و طلحة بايعا عن طوع ورغبة ولكن بايعا لبغية دنيوية وطمعاً في المال و المقام، ولم يمض زمان من بيعتهما إلاّ وقد أتيا عليّاً يسألانه اشتراكهما في بعض أعماله، وكان لهما هوى في ولاية الكوفة والبصرة، وكانت ديانة علي ـ عليه السَّلام ـ تصدّه عن الاجابة، إذ لم يكونا صالحين لما يطلبانه، وقد أثبتا ذلك ـ قبل اشعال نار الحرب ـ بنكثهما وتحريضهما الناس على النكث وقتلهم الأبرياء من الموكّلين وحرس بيت المال، وقد انتهى الأمر بسفك دماء آلاف من المسلمين.
كل ذلك يعرب عن أنّ مقاومة علي، تجاه طلبهما كانت أمراً صحيحاً يرضي به الربّ ورسوله، ولم يكن لعلي هوى إلاّ رضى الله سبحانه ورضى رسوله.
2 - إنّ أباموسى الأشعري الذي قلَّب الاُمور على علىّ في قضية التحكيم،
كان من أوّل الأمر غير راض ببيعة الإمام ولم يأخذ البيعة له إلاّ بعد اكثار الناس، ولمّا أمره الإمام باستنهاض الناس و استنفارهم خذَّل الناس عن علي .
والعجب انّه كان يتمسّك في نفس الواقعة برواية سمعها من النبي أنّه قال: ستكون فتنة: القاعد فيها خير من النائم، والنائم خير من الماشي، والماشي خير من الراكب .
نحن نفترض أنّه سمع من النبي ذلك الكلام، ولكّنه هل يمكن له تسمية مبايعة المهاجرين و الأنصار فتنة، فلو صحّ ذلك ـ ولن يصحّ حتى لو صحّت الأحلام ـ لماذا لاتكون مبايعتهم السابقين من الخلفاء فتنة، يكون القاعد فيها خيراً من القائم، مع أنّ أبي موسي كان فيها من القائمين، وقد قبل الولاية في عصر الخليفتين، الثاني والثالث، حتى اعتنق بيعة الإمام بعد اكثار الناس.
ومن بايع رجلا على الإمامة والقيادة، كان عليه الذبّ عن إمامه و حياض سلطته.
3 ـ إنّ الإمام ـ عليه السَّلام ـ أشار بقوله: «فما هذا أوّل يومنا منك و أنّ لك فينا لهنات و هنات» إلى الجناية التي سوف يرتكبها أبوموسى في قضية التحكيم حيث يخلع عليّاً عن الإمامة والخلافة كما سيوافيك تفصيله.
4 ـ إنّ في منازعة الشيخين: الزبير وطلحة في أمر جزئي كالإمامة في الطلاة، يعرب عن طويتهما وما جبّلا عليه من التفاني في الرئاسة، انظر إلى الرجلين يريدان أن يقودا أمر الجماعة ويكونا امامان للمسلمين وهذه نزعتهما.
أعتاب حرب الجمل:
سار عليّ حتى نزل الموضع المعروف بالزاوية، فصلّى أربع ركعات، وعفر خدّيه على التراب وقد خالط ذلك بدموعه ثم رفع يديه يقول: اللّهمّ ربَّ السماوات وما أظلّتْ، وربّ العرش العظيم، هذه البصرة، أسألك من خيرها، وأعوذبك من شرّها، اللّهمّ انزلنا فيها خير منزل، وأنت خير المنزلين، اللّهمّ إنّ هؤلاء القوم قد بغوا علىّ وخلعوا طاعتي ونكثوا بيعتي، اللّهمّ أحقن دماء المسلمين .
ثمّ بعث إليهم من يناشدهم الله في الدماء، وقال: «علام تقاتلونني؟» فأبوا إلاّ الحرب، فبعث إليهم رجلا من أصحابه يقال له مسلم، معه مصحف يدعوهم إلى الله تعالى فرموه بسهم فقتلوه، فحمل إلى علي قتيلا .
فأمر عليّ أصحابه أن يصافوهم ولايبدؤهم بقتال ولايرموهم بسهم، ولايضربوهم بسيف، ولايطعنوهم برمح. حتى جاء عبدالله بن بديل بن ورقاء الخزاعي من الميمنة بأخ له مقتول، وجاء قوم من الميسرة برجل قد رمي بسهم فقتل، فقال عليّ: اللّهمّ اشهد. أعذروا إلى القوم، ثم قام عمّار بن ياسر بين الصفّين فقال: أيّها القوم ما أنصفتم نبيّكم حين كفقتم عقائلكم في الخدور، وأبرزتم عقيلته للسيوف، وعائشة على الجمل في هودج من دفوف الخشب، قد ألبسوه المسوحَ وجلودَ البقر، وجعلوا دونه اللبود، وقدغشى على ذلك بالدروع، فدنا عمّار من موضعها فناداها: إلى ماذا تدعين؟ قالت: إلى الطلب بدم عثمان، فقال: قاتل الله في هذا اليوم الباغيَ و الطالبَ لغير الحق، ثم قال: أيّها النّاس إنّكم لتعلمون أيّنا الممالى في قتل عثمان، ثم أنشأ يقول وقد رشقوه بالنبال:
فمنكِ البكاء و منكِ العويل * و منكِ الرياح و منكِ المطر
و أنت امرتَ بقتل الإمام * و قاتله عندنا من امر
وتواتر عليه الرمي فاتصل فحّرك فرسه، وزال عن موضعه وأتى عليّاً ـ عليه السَّلام ـ فقال: ما تنظر يا أمير المؤمنين وليس عند القوم إلاّ الحرب .
خطبة علي يوم الجمل:
فقام علي في الناس خطيباً ورافعاً صوته يقول: أيّها النّاس إذا هَزَمتموهم فلا تُجْهِزوا على جريح ولاتَقْتلوا أسيراً، ولاتتبعوا مولّياً، ولاتطلبوا مُدْبراً، ولاتكشفوا عورة ولاتمثلوا بقتيل، ولاتهتكوا ستراً، ولاتقربوا شيئاً من أموالهم إلاّ ما تجدونه في عسكرهم من سلاح، أوكراع، أوعبد أو أمة، وما سوى ذلك فهو ميراث ورثتهم على كتاب الله .
ثمّ إنّ عليّاً نادى كلاّ من الزبير وطلحة وكلّمهما وأتمّ عليهما الحجة فقال للأوّل: أما تذكر قول رسول الله عندما قلت له: اِنّي أحبُّ عليّاً، فأجابك إنّك والله ستقاتله وأنت له ظالم، وقال للثاني: أما سمعت قول رسول الله يقول: الّلهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وأنت أوّل من بايعتني ثم نكثت، وقد قال الله عزوجل(فَمَنْ نَكَثَ فَإنَّما يَنْكِثُ عَلى نَفْسِهِ) .
ثمّ رجع علي إلى موضعه، وبعث إلى والده محمّد بن الحنفية وكان صاحب رايته وقال: «احمل على القوم» فلم يرمنه النجاح والظفر فأخذ الراية من يده، فحمل و حمل الناس معه فما كان القوم إلاّ كرماد اشتدَّت به الريح في يوم عاصف وأطاف بنوضبّة بجمل عائشة وأقبلوا يرتجزون.
نحن بنوضبَّة اصحابَ الجمل * رُدّوا علينا شيخنا ثم بجل
ننعي ابن عفان باطراف الأسل * والموت أحلى عندنا من العسل
وقطع على خطام الجمل سبعون يداً من بني ظبّة، منهم: كعب بن سور القاضي، كلّما قطعت يد واحد منهم فصرع، قام آخر فأخذ الخطام، ورمي الهودج بالنبل، حتى صار كأنّه قنفذ، وعُرْقبَ الجمل ولمّا سقط ووقع الهودج، جاء محمّد بن أبي بكر فأدخل يده، فقالت: «من أنت؟» فقال: أخوك، يقول أمير المؤمنين هل أصابك شيء، قالت: «ما أصابني إلاّ سهم لم يضرَّني» فجاء علي حتى وقف عليها و ضرب الهودج بقضيب وقال: «يا حميراءُ أرسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ أمركِ بهذا، ألم يأمركِ أن تقرّي في بيتكِ، والله ما أنصفكِ الذين أخرجوك إذ صانوا حلائلهم، وأبرزوك» وأمر أخاها محمداً، فأنزلها دار صفيّة بنت الحارث بن طلحة .
ولمّا وضعت الحرب أوزارها جهّز علي ـ عليه السَّلام ـ عائشة للخروج إلى المدينة فقالت له: «إنّي اُحبّ أن اُقيم معك فأسير إلى قتال عدوّك عند مسيرك» فقال: «ارجعي إلى البيت الذي تركك فيه رسول الله» فسألته أن يؤمّن ابن اختها عبدالله بن الزبير، فأمَّنه، وتكلّم الحسن و الحسين في مروان، فأمَّنه، وأمّن الوليد بن عقبة، وولد عثمان و غيرهم من بني اُميّة و أمّن الناس جميعاً، وقد كان نادى يوم الوقعة «مَنْ ألقى سلاحه فهو آمن، و من دخل داره فهو آمن» .
وكانت الوقعة في الموضع المعروف بالخريبة و ذلك يوم الخميس لعشر خلون من جُمادى الآخرة سنة 36 وخطب على الناس بالبصرة بخطبة، وقد قتل فيها، من أصحاب علي ـ عليه السَّلام ـ خمسة آلاف و من أصحاب الجمل ثلاثة عشر ألف رجل، وكان بين خلافة علي ووقعة الجمل خمسة أشهر وواحد وعشرون يوماً .
وولّى على البصرة، عبدالله بن عباس، وسار إلى الكوفة فدخل إليها في
الثاني عشر من رجب شهور سنه 36 .
ولكن الإمام عبده، نقل انّه قتل سبعة عشر ألفاً من أصحاب الجمل و قتل من أصحاب علي ألف و سبعون .
وعلى كل تقدير فهذه الضحايا كانت خسارة عظيمة في الإسلام، وقد عرقلت خطاه، وشلّت الزحوف الإسلامية في أوّل عهدها في الفتوح، ولولا هذه الحروب الداخلية، لكان للعالم حديث غير هذا، ولو كان الإمام هو القابض لزمام القيادة في جو هادىء، لكان الوضع السائد على الإسلام، غيرما هو المشاهد ـ وياللأسف ـ .
«ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه» .
وقد حفظ التاريخ من الامام يوم ذاك عواطف سامية وسماحة ورحب صدر على حدّ لم يسبق إليه أحد، غير النبي الأكرم ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ عندما فتح مكّة، فلم يأخذ من أهل البصرة شيئاً سوى ما حواه العسكر. و كان هناك جماعة يصرّون على أن يأخذ الامام منهم، عبيداً وإماءً فاسكتهم الإمام بقول: أيّكم يأخذ اُمّ المؤمنّين في سهمه
. وقد علّم الامام بسيرته كيفيّة القتال مع البغاة من أهل القبلة