كانت تتلهّف لسماع صوت المؤذّن كي تقف وتصلّي.. منذ أمس
لم تنطق بكلمة.. وكانت ابنتها فائزة تبكي، لكنّ صوتها الواهن
لم يكن ليتجاوز شفتيه الشاحبتَين.
كانت الأمّ تتطلّع إلى جمهور الزائرين... إلى الوجوه التي كانت
تنضح شوقاً ومحبّة، وتُنبئ ـ في الوقت نفسه ـ عن المحنة
والألم والإعياء.
أكان في وسعها أن تقول شيئاً في دوّامة الأفكار التي ما فَتِئت
تنثال على مخيلتها ؟ لقد قَدِمت مساءَ أمس إلى إمامِها الرضا
عليه السّلام حافية القدمين، وهي تحتضن طفلتها المريضة،
من أجل أن تُجدّد العهد لإمامها الرضا عليه السّلام، وتلثم أعتاب
مرقده القدسيّ المحفوف بالملائكة... كان الندى الربيعيّ قد
بلّل ملابسها، وكانت العَبَرات تتكسّر في صدرها، والدموع
تحتبس في مآقيها، أمّا يداها المرتعشتان فكانتا تضمّان في
حنان ولوعة جسداً نحيلاً تتصاعد حرارته لحظةً فلحظة...
قَفَزت إلى ذهنها فجأة ذكرياتٌ زادَتها شَجىً وحُزناً... ورنّت في أ
ُذنيها ضحكات طفلتها العزيزة الوحيدة « فائزة » قبل أن ينشب
فيها هذا المرض المجهول القاسي.
قال لها الأطباء قبل يومَين أنّهم يئسوا من جدوى استمرار
معالجة الطفلة، وذكروا لها ببرود أنّ عليها أن تستسلم للقدر،
فأجابتهم بلهجة الواثق المطمئنّ: أعرفُ طبيباً لا يستعصي عليه داء!
ثمّ اختطفت ـ دونما تريّث ـ طفلتَها المُسجّاة من بين أيديهم،
ويمّمت بها صوب الحرم المطهّر، وقالت للجميع بثقة بأنّها
ستطلب شفاء ابنتها ممّن لا يردّ يدَ سائل، ولا يخيّب رجاءَ آمل!
دوّامة الأفكار تلفّها، ودوارٌ ما بَرح يُثقِل رأسَها المضنى، ولم تكن
تدرك ما الذي ينبغي عليها أن تفعل.
نَهَضت من جلستها والجسد الصغير الملتهب بين ذراعيها،
فطافت بين صحن وآخر، كان قلبها مُفعماً بالأمل المشوب
بالحَيرة...
ما الذي ستفعل ؟! ودَاهَمها صوتُ الأذان كيَدٍ حانية تمسح على
رأسها، وكقطراتِ مطرٍ ربيعي يُنعش وُرَيقاتِ الشجر المفتوحة
الممدودة نحو السماء تستميح الكريم عطاءه!
وضعت طفلتها الصغيرة برفق، ودثّرتها، ثمّ توجّهت إلى حوضِ
الماء الذي يتوسّطُ الصحن، فانتحت في زاوية منه ومدّت يدها
إلى الماء فغرفت منه وشرعت بالتوضّؤ.. كان في الحوض
وُرَيقات من الورد المحمّديّ تتحرّك مع حركة الأمواج التي تولّدها
أيدي المصلّين وهم يُسبِغون الوضوء للمُثول بين يدَي الخالق
الكريم..
رفعت وجهَها المبتلّ وتطلّعت إلى السماء، ثمّ صلّت على النبيّ
وآله أبوابِ الرحمة التي لا تُغلَق، ثمّ نادت الإمام الرؤوفِ بشيعته
وزائريه ومُحبّيه: « يا بابَ الحوائج ! »، وتضرّعت إليه أن يشفع
لها بمقامه الكريم عند مَن بيده مفاتح الغيب.
مدّت يدَها المرتعشة وأخرجت من حقيبة يدها سجّادتها وملاءتها
البيضاء، ووجّهت وجهَها لفاطرِ السماوات والأرض... أحسّت
بضباب كثيف يلفّ وجودَها... وأحسّت بنفسها صغيرة صغيرة
أمام عظمةٍ كبيرة لا نهاية لها... استغاثت بمَن لا يُسلِمُ عبدَه، ولا
يَطرُد من فِنائه ضيفَه، وتشفّعت لديه بالإمام الرؤوف العطوف.
وهاجمها سيل الذكريات من جديد... أحسّت بحرقة تجتاح
كيانها... ابتلعت ريقها بصعوبة وكبّرت بخشوع ودخلت في
الصلاة.
عندما أتمّت صلاتَها أحسّت بشعورٍ غريب لم يَسبق أن شَعَرت
به مِن قَبل.. أحسّت أنّ كلّ شيء حولها جديد، جديد كأنّها لم تَرَه
قبل الآن قطّ، كان الشوق الجارف لزيارة الإمام الرضا عليه
السّلام يعصف بها.. هَروَلَت ـ دون أن تجمع سجّادتها ـ إلى
الشبّاك الحديديّ الكبير وشَقّت أمواج الزائرين وتعلّقت بحلقات
الشبّاك... السلام عليك يا عليّ بن موسى الرضا... لا تذكر
بالضبط كم طال كلامُها مع الإمام، وكم ذَرَفت من دموع الرجاء
والتضرّع والتلهّف... لا تدري غير أنّ أقدامها المكدودة اكتسبت
قوّة وتماسكاً، وأنّ منديلاً أخضرَ مُضمّخاً بالعطرِ وُضِع بين يدَيها
الضارعتَين... وأنّ هاتفاً هَتَف بها أن تُهرعَ إلى طفلتها فتبسُطَ
المنديلَ المعطّر الأخضر على بدنها الملتهب... غَطّت بدنَ الطفلة
النائمة وهتفت من جديد: أيّها الإمام الرؤوف!
طاف بالصحن المطهّر عطرُ الورد المحمّديّ... وارتفعت أصواتُ
الزائرين بالصلوات على النبيّ وآله، ولَحَظت ـ وهي دَهْشى ـ
أعيُنَ ابنتها برّاقةً متألّقة، وشفتيها باسمةً ضاحكة، وسمعت ـ
ويا لَلعجب! ـ صوتَها ينادي في نغمةٍ ملائكيّة محبّبة: أُمّاه! أشمّ
رائحة الورد المحمّديّ!
هَتَفت بطفلتها: انهَضي يا طفلتي الحبيبة! فنهضت الطفلة
ومدّت يدَيها لتعتنق أمّها...
كانت السجّادةُ ما تزال مبسوطة على أرض الصحن المطهّر...
لم تنطق الأم بحرف... انحنت على الأرض فلَملمت بحركةٍ
سريعة سجّادتها... وتأمّلت وجهَ طفلتها... كانت النَّضارةُ تَضجّ
في كلِّ خليّةٍ من خلاياه... كأنّ الشفاه الذابلة قد ارتَوَت بماءِ
الكوثر، وكأنّ الوَجناتِ الشاحبة قد تلوّنت بلونِ الورد، وكأنّ
الأعيُن التي صادرت بريقَها آلامُ مرضٍ لا يَرَحم قد مَنَحها الربيعُ
وَمْضَه وبَريقه وتلألؤه...
لقد حَسِبت الأمّ أنّ ابنتها لن ترى الربيعَ الذي كان يُطلّ على
الأرض، ويبعث بأمطاره ونسائمه رُسلاً تترى تبشّر الأرض
الغافية التي صعقها البرد أنّها ستكتسي بالزهور والرياحين.
نهضت الأمّ، وتوجّهت إلى حوض الماء... كانت وُرَيقاتُ الورد
المحمّدي ما تزال تتحرّك فيه وتدور... اغترفت من الماء بقدحٍ من
الأقداح المنثورة حول محلِّ شُرب الماء، وانتشلت بيدها عَدداً
من أوراقِ الورد المحمّديّ وألقتها في الماء... ثمّ حَمَلت القدحَ
إلى الزائرين الواقفين عند الشبّاكِ الحديديّ يتوسّلون إلى الربّ
الودود، مستشفعين بريحانةٍ من رياحين النبوّة... ونَسَمةٍ جليلة
من سُلالةٍ شريفة لا أقدسَ منها ولا أطهر... وسليل بيت عريق
في الشرف والكرم أذِن اللهُ له أن يُرفع... وإمامٍ لا يخيب من
رجاه، ولا يؤيس مَن حطّ رحلَه بفِنائه.
أختكم نور ...