ألم أقل ابتعدا.. اهربا.. اهربا بعيدا.. صرخة قوية عاتية آمرة تنطق بهذه الكلمات فلم يجد جيم والفريد بدا من الابتعاد والخوف ينشب مخالبه فيها بقسوة.. ركضا كما لو كانت شياطين الكون بأسره تلاحقهما..
سيجفريد.. دائما عنيد.. دائما مصمم على آرائه.. لا يمكن لأي شخص أن يثنيه عما يعتزم فعله.. ترى هل سيكون بخير؟ عيني جيم البنيتين الذاهلتين وشعره الأسود يتطاير مع الرياح..
الفريد يتطلع في أثناء جريه للخلف بعينيه السوداوين وشعره البني يحجب الرؤية عنه أحيانا..
رباااه أحفظ لي أخي.. هكذا دعا كليهما..
طالما هم مصممون على اقتحام القصر فليس أمامه سوى القتال وهذا ما سيفعله.. عبء القتال يقع عليه طالما هو الأكبر ولو حدث له شيء فجيم والفريد سيجدان من يعنى بهما بكل تأكيد فأنصار عائلة الكونت ويليام في كل مكان.. لكن هل سينجوان؟
اخرج يا سيجفريد..
تعالت أصوات غاضبة من ساحة القصر فخرج سيجفريد على ظهر حصانه الأسود الرهيب هيل Hell يعرفون جيدا هذا الحصان ومن يجهل هيل ذو علامة الصاعقة الفضية على وجهه وفخذه الأيسر!؟
من يجهل هيل الذي يبدو كما لو كان فعلا خارجا من قلب الجحيم بعرفه الأسود الذي تختلط به شعيرات حمراء وبرتقالية!؟..
أي تافه ذاك الذي يجرؤ على مناداتي باسمي غير مسبوق بلقب؟
نبرة الغضب الرهيبة واضحة في صوته وخُيل للكثيرين انه ليس ابن ثلاثة وعشرون عاما بل أكثر..
تلفت الجنود إلى بعضهم البعض بارتباك حين علا صوت سيجفريد كالمحيط الهادر: أيكم ناداني باسمي مجردا؟ فليبرز لي إن كان فارسا حقيقيا ورجلا شريفا..
مجددا تلفت الجنود بارتباك.. هذه دعوة للمبارزة إذن ومن الذي يجرؤ على مبارزة أقوى وأمهر فتيان المقاطعة سيجفريد ويليام!؟ انه الموت بعينه..
تقدم شاب من الفرقة يبدو انه مساعد القائد أو شيء كهذا.. تأمل سيجفريد للحظات.. يبدو شيطانا حقيقيا بشعره الذي يبدو كاللهب وعينيه الذهبيتين الحادتين ثم قال: من دعاك جبن عن مبارزتك فإن كنت تطلب قتال فارس ما فأنا اقبل تحديك أيها الفارس النبيل..
تطلع سيجفريد إلى محدثه يبدو في ذات سنه تماما.. شعر بني قصير وعينين زرقاوين تلتمعان بتصميم..
ترجل سيجفريد من على ظهر هيل الذي تطلع للجميع بنظرات شيطانية أو هكذا خيل لهم! لقد اقسم البعض انه رأى شعلات من نار تحيط بالحصان المخيف..
بدأت المبارزة وكان كلا الفارسين حقا يستحقان لقبهما.. لحظات هي حتى سقط إسكندر أرضا.. تلا جميع الجنود الصلوات على روحه مقدما فسيجفريد سيقتله لا محالة.. لكن ما حدث جعل الجميع يفغرون أفواههم دهشة.. عاد سيجفريد إلى حصانه وحين علا ظهره تطلع إلى الفارس الملقى بابتسامة ندر أن يروها..
لتعلم أيها الفارس إسكندر أن سيفي لا يحقد عليك ولو كنت أعلم للحظة إنك مقتنع بما تفعل لما ترددت في قتلك.. لكني أكيد بأنني سأراك قريبا وعندها إما أن تكون عدوي وإما....
بتر جملته وتطلع للجنود وصاح فيهم كالإعصار: لو دنس أحدكم ارض قصري ثانية فليعلم أن سيفي وسهامي سيرسلانه للعالم الآخر.. اذهبوا إلى سيدكم وأبلغوه أن سيجفريد سيحمي قصره من الطغاة أمثاله..
وغير مصدقين بأن الحياة قد كُتبت لهم مجددا.. انصرفوا يدوس بعضهم على بعض لإبلاغ سيدهم بكلمات سيجفريد العنيفة فيما بقي إسكندر يتطلع لبرهة نحو ذلك الفارس باحترام.. امسك سيفه وانحنى بهدوء وركض خلفهم..
لقد اغتال دوق المقاطعة اللئيم اوليفر ديلان والديه هذا اليوم و أرسل جثتيهما بأبشع حالة ممكنة إلى سيجفريد وأخوته كي يعلموا مصيرهم إن أصروا على مناصرة الضعفاء ضده..
وإذ عاد سيجفريد لقصره دلف فورا ليقوم بأبشع مهمة.. عليه دفن والديه الآن وحده وفي حديقة القصر.. اتجه إلى الساحة الداخلية حيث ألقيا بجثث والديه..
سيدفع ذاك الحقير ثمن قتلهما غاليا وغاليا جدا..
حمل والدته بمنتهى السهولة فقد كانت ذات وزن معتدل يمكن له حمله بقليل من الجهد.. رباااااه ما الذي فعله أولئك القتلة.. هذا أحقر شيء يُفعل بجثة.. ولو لم يرى العلامة في كتفها الأيسر وخاتم زواجها لتأكد من أنها امرأة أخرى.. أين ذهبت تلك الملامح الناعمة؟ ذلك الوجه الرقيق المبتسم؟ فليساعدني الإله على احتمال الألم.. جاهد سيجفريد ليمنع دموعه التي رفضت السجن فانحدرت بقوة وحرارة على وجنتيه..
أماااااااااه.. كم هو صعب أن أحملك بين يدي وأودعك قبرك.. صعب ألا أرى ابتسامتك ومن أين لي أن أراها وأنا لا أرى لك أي ملامح؟ صبرا إني لمقتلك منتقم و سأريهم الجحيم بغضبي..
سار فارسنا دامع العينين.. حزينا, محطم القلب فإن كان ربما مبتهجا لشيء ما فلأن جيم قد تمكن من الفرار.. وهكذا تحت ضوء القمر نصف المكتمل شرع بحفر قبر والدته وإذ انتهى من دفنها عاد ليحمل أباه الذي لم يكن حاله بأفضل من زوجته لكنه على الأقل رأى ابتسامة أبيه الساخرة فزاد حزنه والأسى بقلبه..
أبي.. سيدي ومولاي ومليكي.. كيف لي أن أواريك الثرى بهذا الشكل المهين؟ عفوك يا أبي فلا أعلم كيف يتم تكريم الموتى بعد لقد نسيت أن تعلمني ذلك.. علمتني دائما تقدير الأحياء واحترام من مضى لكن كيف أقوم الآن بذلك على وجهه الصحيح لك أنت يا معلمي.. يعلم الإله كم أتمزق وأنا أراك هكذا..
وإذ وارى فارسنا أباه الثرى جلس يبكي مقتله بحرقة قاتلة يذوب لها الصخر.. حين أحس بتلك الحركة المباغتة فأخرج سيفه مستعدا للقتال عندما رأى وجها مألوفا يخرج من بين الأشجار..
عفوك أيها الفارس النبيل سيجفريد.. ما جئت بقصد التلصص ولا معاديا.. بل جئت معزيا..
انتبه سيجفريد لجثة فوق حصان إسكندر جثة شاب بدا في التاسعة عشرة من عمره.. ارستقراطي الملابس.. شعر فاحم.. لن يحتاج فارسنا لوقت طويل كي يعرف من يكون صاحب الجثة.. أطلق صرخة رهيبة وهو يمسح دماء الجثة بيده..
الويل.. الويل.. فلتتحد كل الأرواح الغاضبة.. فليُبعث الحقد مجددا.. فلتثور البراكين.. لن يطفئ ظمأي سوى رؤية ذاك الوغد تحت رحمة سيفي.. فلتشهد أيها الرب الرحيم أن سيجفريد سينتقم لوالديه.. لتشهدي أيتها الملائكة أن سيجفريد سيثأر للدم المهدور.. افتحي أبوابك أيتها الجحيم الظامئة, سيجفريد سيأتيك بغذائك منذ الآن فصاعدا..
علا الصمت الرهيب تلك الساحة الشبه مضيئة وأضاف سيجفريد قبر آخر قرب قبر والديه وبدمه أقسم على الثأر..
أيها الفارس سيجفريد.. أتيتك الليلة عدوا و هاأنذا آتيك صديقا وأخا.. لم أقسم لأبي بشيء سوى بأن يكون سيفي خادما لفارس نبيل.. لك حرية التصديق أيها الفارس سيجفريد لكني لا أريد سوى أن أكون لك صديقا وعونا..
تطلع إليه سيجفريد بصمت عميق قبل أن يهمس: لا حاجة لي بسيفك.. هي معركتي سأخوضها حتى النهاية بمفردي..
مهلا أيهــ
قلت أنها معركتي..
التفت إلى قبور عائلته مودعا إياهم وانصرف ممتطيا حصانه هيل حين أقبلت جنود الدوق بقيادته شخصيا.. هؤلاء الجنود هم القوى وهم الصفوة ضمن الجنود كلهم ومعروف عن الدوق حبه لجمع الجنود الأقوياء كما يجمع البعض الأشياء النادرة..
بصوت قبيح يندر أن تسمع مثله اخذ يتكلم مع سيجفريد: كيف يجرؤ غر مثلك على توجيه إهانة لي؟ هذه جريمة يعاقب عليها القانون أيها الصغير..
ابتسم سيجفريد بسخرية مقيتة وهو يتطلع إلى ذلك الكائن الذي يجلس بغرور فوق حصانه الأبيض.. متين البنية حقا لكن الترهل أصابه و الانغماس في الملذات قد أفقده مرونته لكنه ماكر كثعلب..
دوى أمر الهجوم على الفارس فسحب سيفه وبدأت المعركة.. من الجنون أن يهزم هو وحده ثلاثة عشر مقاتلا من أقوى المقاتلين لكنه سيجفريد ويليام وهذا كافٍ للفوز.. لكن قانون الكثرة يغلب الشجاعة قد يكون حقيقيا متى ما كان هناك من يساند هؤلاء الثلاثة عشر بالسهام.. قد يبقى أمرهم هينا إذ عرفنا أن إسكندر تولى أمرهم.. ولم لا وهو فارس بارع! لكن إلى متى سيظل سيجفريد يحتفظ بقوته؟
يقاتل فارسنا بصبر لا مثيل يحركه غيظه ومقته.. غضبه الذي تمكن تماما من السيطرة عليهم.. كراهيته لهذا الدوق هي التي تحركه وحده وهيل يصهل فرحا فيرعب باقي الخيول التي تراه أشد هولا من فارسه.. وإلى جواره يقاتل إسكندر بكل براعة.. ما أن انجلى غبار المعركة حتى كان فارسنا الشاب في حالة يُرثى لها.. إنه مجروح وتلك حقيقة لكن جراحه عميقة للغاية وهي ليست بأقسى من جراح قلبه.. أما إسكندر فكان في حالة تُعد أفضل من صاحبنا..
بتر الدوق عبارته حين هجم سيجفريد بشكل مباغت.. نعم كبير في السن هو الدوق لكنه لا زال متمكنا من بعض مهاراته السابقة..
سيجفريد..
تنح يا إسكندر..
تراجع إسكندر وهو يدعو الإله في سره أن يحفظ سيجفريد..
لن نقول أنها معركة متكافئة فهنالك فرق واضح في التكتيكات والخطوات.. كلا المقاتلين تمكنا من جرح بعضهما البعض.. لكن الطعنة القاتلة كانت في جسد سيجفريد الشاب..
هوى سيجفريد أرضا فصهل هيل بعنف وغضب وبدأ يُقاتل على طريقته الخاصة ريثما يستعيد فارسه وعيه وينهض..
هرع إسكندر غاضبا لمساعدة سيجفريد ولنقل أنه لم يهزم الدوق بسبب براعته بل بفضل ضربات سيجفريد البارعة التي كانت كإشارات ما تنتظر أن يتم الوصول إليها.. هكذا هوى ذلك الطاغية أرضا دون أن يجد فرصة ما ليقول شيئا فقد اخترق سيف إسكندر رأسه تماما..
أسرع إسكندر إلى حيث سيجفريد.. وإذ رأى فارسنا ترقرق الدموع في عيني إسكندر ابتسم..
إسكندر.. أحيي فيك فارسا رائعا نبيلا..
اصمت رجاء.. اصمت كيلا تزول كل قوتك..
إسكندر.. خذ خاتمي وسر خارج المكان.. إن التقيت أخي أعطه الخاتم.. لن تجد صعوبة في معرفته..
اصمت سيجفريد رجاء.. تلك الدموع تأبى التوقف..
ابتسم سيجفريد بهدوء وهو يتطلع إلى القمر الشاحب والنجوم المتألقة حين انطفأت تلك الشمعة التي تُحرك جسدنا الفاني وتدفعنا للحياة والحركة..
احتضن إسكندر جسد صديقه صارخا باكيا فيما هطلت الأمطار بغضب وحزن علها تغسل تلك الدماء التي نزفت.. علها تساعد ذاك الشاب على غسل أحزانه..