`~'*¤!||!¤*'~`((ترانيم الروح..رسائله روحي له الفدا))`~'*¤!||!¤*'~`
المناخ الاجتماعي الذي فرض صياغة (الخطب) لدى الامام (عليه السلام)، فرض أيضاً: صياغة (الرسائل) - السياسية بخاصة- حيث ان (الرسائل) تقترن مع (الخطب) من خلال تحرك كل منهما في سياق خاص،... لقد كانت طبيعة الصراع القائم بين الامام (عليه السلام) (حيث بويع بعد وفاة ابيه (عليه السلام)) وبين سلطان الشام الذي استمر على الاستئثار بالحكم غير المشروع منذ زمن الامام علي (عليه السلام) تفرض (المراسلات) بين الطرفين، وبين أطراف اجتماعية أخرى لها فاعليتها الاجتماعية في تحريك الاحداث والتأثير عليها،... لذلك نجد (فن الرسالة) قد واكب (فن الخطبة) من حيث المساحة التي احتلها هذا الفن لدى الامام (عليه السلام).
ونكتفي بعرض رسالة واحدة بعثها (عليه السلام) الى سلطان الشام، جاء فيها:
«ان علياً (عليه السلام) لما مضى لسبيله -رحمة الله عليه يوم قبض، ويوم من الله عليه بالاسلام ويوم يبعث حياً- ولاني المسلمون الأمر بعده، فأسال الله ان لا يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئاً ينقصنا به في الآخرة مما عنده من كرامة، وانما حملني على الكتاب اليك الاعذار فيما بيني وبين الله عزوجل في أمرك، ولك في ذلك - ان فعلته - الحظ الجسيم والصلاح للمسلمين، فدع التمادي في الباطل، وأدخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي، فانك تعلم اني احق بهذا الامر منك عند الله وعند كل أواب حفيظ ومن له قلب منيب...»(6).
الملاحظ في هذه الرسالة (ترسلها) وخلوها من التزويق الخارجي نظراً لكونها في سياق يتطلب توضيح المسؤولية الخلافية... الا ان الامام (عليه السلام) وشحها بعنصر صوري هو (التضمين) خلافاً لما لحظناه في نصوص سابقة وشحت بعناصر التشبيه والاستعارة والتمثيل والتقابل، لمتطلبات فنية أوضحناها...
هنا ايضاً: حينما يتجه (عليه السلام) الى عنصر التضمين، فلأن الموقف الاجتماعي يتطلب عنصراً فنياً خاصاً هو التضمين.. لقد ضمن (عليه السلام) رسالته اكثر من آية كريمة من نحو (ويوم يبعث حياً) ومن نحو (عند كل أواب حفيظ) ومن نحو (ومن له قلب منيب) الخ...
ان الاهمية الفنية لأمثلة هذا «التضمين»ان الرسالة قد ذكرت تولية الامام (عليه السلام) بعد ابيه (عليه السلام) ذاكرة اسلامه ووفاته وانبعاثه، تعبيراً عن مشروعية خلافة أبيه (عليه السلام) ورضا الله تعالى عنه (عليه السلام)، ممهداً بذلك لمشروعية خلافته نفسه (أي الامام الحسن (عليه السلام))، ولذلك أردف التضمين المذكور بقوله: «ولاني المسلمون الأمر بعده»،... ثم انتقل (عليه السلام) الى مطالبة معاوية بالتسليم لهذا الحق وهو عارف به كل المعرفة، لكن بما ان الاقرار بالحق مع معرفة الشخص به يتطلب (تقوى) و(توبة) و(انابة) الى الله تعالى، حينئذ فان (تضمين) هذه السمات من خلال الآيات القرآنية التي لا يتنازع فيها اثنان تظل فارضة مسوغها الفني، من أجل تعميق القناعة بمشروعية ما طرحه الامام (عليه السلام) في هذه الرسالة التي كتبت بلغة مترسلة واضحة بحيث تتناسب مع سمات فنية تتسم بالترسل وبالوضوح ايضاً، وهو ما يتوافق وعنصر (التضمين) المتسم بما هو واضح من الآيات الكريمة.
والحق، أن الوضوح والترسل يقترنان عند الامام بسمة اخرى هي الاقتصاد اللغوي، حيث تظل هذه الطوابع الثلاثة ملحوظة في رسائله من حيث كونها تعنى بابراز المضمونات التي تتطلب عرضاً سريعاً ودقيقاً يتناسب مع طبيعة المناخ الاجتماعي الذي كان يحياه (عليه السلام)...
ويمكننا ملاحظة طابع (الاقتصاد اللغوي) عند الامام (عليه السلام) في رسالته الآتية الى سلطان الشام حينما بعث رجلين يتجسسان لصالحه:
«اما بعد: فانك دسست الي الرجال كأنك تحب اللقاء، لا أشك في ذلك، فتوقعه ان شاء الله، وبلغني انك شمت بما لم يشمت به ذوو الحجي...»(7).
فالرسالة لا تتجاوز سطرين أو أكثر كما هو ملاحظ، لكنها تتضمن دلالات عميقة ترتبط بمسائل الخلافة وصراع الرجل حيالها...
ولعل الرسالة الآتية التي بعثها الى زياد بن ابيه تجسد نموذجاً فريداً في (الاقتصاد اللغوي) الذي يشع بدلالات كبيرة، فقد حدث لزياد أن ينكل بأحد المؤمنين، فطالبه الحسن (عليه السلام) بالاقلاع عن ذلك، فرد عليه زياد برسالة جاء فيها: (من زياد بن ابي سفيان الى الحسن بن فاطمة. اما بعد: فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلي وانت طالب حاجة وانا سلطان...) الخ. (8)
واضح، أن لغة هذه الرسالة متورمة تحوم على الذات وتفكر بعقلية (السلطان) كما انها تصدر عن عقلية (عصبية) يخيل اليها أن الى الانتساب الى الأم عار على الشخصية، وحينئذ لم يجبه الامام الا بكلمات مأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله): «من الحسن بن فاطمة الى زياد بن سمية، اما بعد: فان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: الولد للفراش، وللعاهر الحجر. والسلام»...(9).
واضح، أن هذه الكلمات تختصر كلاماً طويلاً ذا دلالات كبيرة ترتبط بنسب هذا الشخص الذي حاول ان يحط من شخصية الامام (عليه السلام) وحينئذ فان اقتصاده للكلام في اربع عبارات أو اكثر يكشف عن تمكن لغوي وفني وفكري ضخم، له فاعلية اشد من الكلام المفصل الذي يخبره الشخص المرسل اليه.
ومهما يكن، فان الاقتصاد اللغوي يظل سمة ملحوظة في رسائل الامام (عليه السلام) بالنحو الذي اوضحناه.
وهذا الاقتصاد لا يقتصر على رسائله السياسية، بل ينسحب على غالبية رسائله ايضاً ومنها الرسائل العلمية، أو ما يمكن درجه ضمن عنوان: