هذا الشهيد
هو عابس بن أبي شبيب بن شاكر بن ربيعة الهَمْدانيّ الشاكريّ، من أهل المعرفة والبصيرة والإيمان، ومن أسرةٍ عُرِفت بالبطولة والإقدام. فبنو شاكر بطنٌ من قبيلة هَمْدان، وقد عُرِفوا بالإخلاص والصدق والتفاني في سبيل إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى، وكانوا من شُجعان العرب وحُماتهم، حتّى لُقِّبوا بـ « فِتْيان الصباح »، وفيهم قال أمير المؤمنين عليه السّلام يوم صِفّين: لو تمّت عِدّتُهم ألفاً لَعُبِد الله حقَّ عبادته (1).
وناهيك بهذه الكلمة العظيمة شرفاً وفخراً لهذه الأسرة الكريمة.
وكان من هذه الأسرة: شَوذَب بن عبدالله الشاكريّ، الذي ذكره التاريخ في عِداد رجال الشيعة ووجوهها، ومن الفُرسان الأبطال المعدودين، وكان حافظاً للحديث، حاملاً له عن أمير المؤمنين عليٍّ عليه السّلام، وكان من الرجال المخلصين، وداره كانت مألفاً للشيعة يتحدّثون فيها حول فضائل أهل البيت عليهم السّلام.
ويوم عاشوراء.. أقبل عابس على شَوذَب قائلاً له: يا شَوذَب، ما في نفسك أن تصنع ؟ أجابه شوذب: أُقاتِل معك حتّى أُقتَل. فجزّاه عابس خيراً وقال له: تَقدّمْ بين يدَي أبي عبدالله حتّى يحتسبك كما احتسب غيرك، وحتّى أحتسبك؛ فإنّ هذا يومٌ نطلب فيه الأجر بكلّ ما نَقْدر عليه. فسلّم شَوذب على الحسين، وقاتل حتّى قُتل (2).
المواقف الشامخة
وعابس بن أبي شبيب الشاكريّ رضوان الله عليه.. هو من الطبقة المؤمنة المجاهدة الصابرة، المتفانية في سبيل المبدأ، والتي عُرِفت بمواقفها الشامخة، فهو أحدُ دعاة النهضة الحسينيّة المباركة في الكوفة، وأحدُ المناصرين لمسلم بن عقيل سفير الحسين عليه السّلام.
فحين بلغ الكوفيّين هلاكُ معاوية.. أخذت كتبهم تتلاحق على الإمام الحسين عليه السّلام، حتّى اجتمع عنده اثنا عشر ألف كتاب، فلم يَرَ بُدّاً من الإجابة، فأرسل إليهم ابن عمّه مسلم بن عقيل ممثلاً عنه. فإذا قَدِم مسلم أسرع أهل الكوفة لمبايعته، وقد قرأ عليهم كتاب الإمام الحسين عليه السّلام فأخذوا يبكون، وخَطَب خُطَباؤهم مُرَحّبين به مُوَطّنين أنفسَهم على نُصرته.. وفي ذلك قام عابس بن أبي شبيب الشاكريّ، فحَمِد اللهَ وأثنى عليه، ثمّ قال لمسلم:
أمّا بعد، فإنّي لا أُخبرك عن الناس، ولا أعلَم ما في أنفسهم، وما أغرّك منهم. واللهِ أحدّثك عمّا أنا مُوطّنٌ نفسي عليه، واللهِ لأجيبنّكم إذا دَعَوتم، ولأُقاتلنّ معكم عَدُوَّكم، ولأضرِبَنّ بسيفي دونكم، حتّى ألقى اللهَ.. لا أريد بذلك إلاّ ما عند الله (3).
وكان من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا اللهَ عليه.
ولإيمانه ووثاقته، أرسله مسلم بن عقيل برسالة إلى الإمام الحسين عليه السّلام، ثمّ لازم عابسٌ سيّدَ الشهداء عليه السّلام في مكّة بعد أن خرج منها متوجّهاً إلى ساحة الطفّ.. إلى أن جاء معه إلى كربلاء.
ماذا كان في كربلاء ؟
بعد أن هوى خمسون شهيداً من أصحاب الحسين عليه السّلام في الحملة الأولى.. أخذوا يَبرُزون للحرب وُحْداناً واثنين اثنين، فيخرج الأخَوان والصَّديقان فيُقاتِلان حتّى يُستَشهدا معاً، وربّما قّدّم الأخُ أخاه والحميمُ حميمَه، حتّى إذا قُتل خرج من بعده.
ولمّا قدّم عابسٌ صاحبَه شَوذَب الشاكريّ، أقبل على إمامه الحسين عليه السّلام قائلاً له: يا أبا عبدالله، أمَا والله ما أمسى على ظهر الأرض قريبٌ ولا بعيد أعَزَّ علَيّ ولا أحبَّ إلَيّ منك، ولو قَدَرتُ على أن أدفع عنك الضيمَ والقتلَ بشيءٍ أعزَّ علَيّ من نفسي ودمي لَفَعَلتُه. السلام عليك يا أبا عبدالله، أُشهِدُ اللهَ أنّي على هَدْيك وهَدْي أبيك.
ثمّ مشى عابسٌ بسيفه مُصْلِتَه نَحوَهم،وبه ضَربةٌ على جبينه. قال ربيع بن تميم ـ وكان شَهِد ذلك اليوم: لمّا رأيتُ عابساً مُقْبلاً عرَفتُه، وقد شاهدتُه في المغازي، وكان أشجعَ الناس.. فقلت:
أيُّها الناس، هذا أسدُ الأُسُود، هذا ابن أبي شبيب، لا يَخرُجَنّ إليه أحدٌ منكم.
يستمرّ ربيع بن تميم قائلاً:
فأخَذَ عابسٌ يُنادي: ألا رجُلٌ لرجل! فقال عمر بن سعد لأصحابه: إرضَخُوه بالحجارة! فرُميَ بالحجارة من كلّ جانب، فلمّا رأى عابسٌ ذلك ألقى دِرعَه ومِغْفَره، ثمّ شدّ على القوم، فوَاللهِ لَرأيتُه يَكرد أكثرَ من مئتينِ من الناس، ثمّ إنّهم تَعَطّفوا عليه من كلّ جانبٍ حتّى قتلوه. قال: فرأيتُ فرسَه في أيدي رجالٍ ذوي عُدّة.. هذا يقول: أنا قَتَلتُه، وهذا يقول: أنا قَتَلته! فأتوا عمر بن سعد فقال لهم: لا تختصموا، هذا لم يقتله سِنانٌ واحد. ففرّق بينهم بهذا القول (4).
وكان قبل ذلك أن أحجم جيش عمر بن سعد بأجمعه عن البروز لعابس حين واجههم ونادى عليهم، فلمّا رأى ذلك منهم خلع سلاحه ودرعه وشدّ عليهم مجرّداً، فقيل له: أجُنِنْتَ يا عابس ؟! فقال: أجَل، حُبُّ الحسين أجَنّني!
أكاليل الزهور على قبر عابس
• خصّه الإمام المهديّ عجّل الله تعالى فرَجَه الشريف بالسلام عليه في زيارته المعروفة بـ ( زيارة الناحية المقدّسة )، فقال فيها:
السلام على عابسِ بنِ أبي شبيب الشاكريّ (5).
• وعرّف به أبو القاسم النَّراقي قائلاً: عابس بن أبي شبيب الشاكريّ، مِن حواريّي أبي عبدالله الحسين عليه السّلام، وقد قُتل معه (6).
• ومجّده الشيخ عبّاس القمّي فقال: كان عابس أشجعَ الناس، ولمّا خرج يوم عاشوراء إلى القتال لم يتقدّم إليه أحد، فمشى بالسيف مُصلَتاً نحوهم، وبه ضربة على جبينه، فأخذ ينادي: ألا رجل، ألا رجل ؟! فنادى عمر بن سعد: ويلكم! أرضِخوه بالحجارة. فرُمي بالحجارة من كلّ جانب.. فلمّا رأى ذلك ألقى درعه ومِغْفرَه ثمّ شدّ على الناس (7).
• وبين الشيخ محمّد السَّماويّ بعض فضائله قائلاً: كان عابس من رجال الشيعة، رئيساً شجاعاً، خطيباً ناسكاً متهجّداً، وكان بنو شاكر من المخلصين بولاء أمير المؤمنين عليه السّلام (8).
• أمّا عبّاس محمود العقّاد فقد كتب فيه: فلمّا بَرَز عابسُ الشاكريّ وتحدّاهم للمبارزة، تحامَوه لشجاعته، ووقفوا بعيداً عنه، فقال له عمر بن سعد: ارموه بالحجارة. فرموه من كلّ جانب، فاستمسك.. وألقى بدرعه ومِغَفرِه وحَمَل على مَن يَليه، فهزمهم، وثبت لجموعهم حتّى قُتل (9).
فسلامٌ على عابس في الموالين المخلصين، والفرسان
الغيارى المتحمّسين، والشهداء المتسامين.