الخطبة الفاطمية وأسس الحضارة الإسلامية
محمد سعيد عبد المحسن
أسهمت السيدة الزهراء (عليها السلام) في بناء الحضارة الإسلامية بناءً ينسجم والمفاهيم الإسلامية الحقة، ففي خطبتها التي ألقتها على أسماع المسلمين بعيد رحيل النبي (صلى الله عليه وآله) شخّصت أولا مواضع الانحراف في الرؤية العامة لدى البعض وأماطت اللثام عن كثير من خفايا الأحداث التي تسارعت سلبيا لصالح المعارضة الشرعية التي كان يمثلها الإمام علي ابن أبي طالب (عليه السلام) وما اختلط على البعض وما تخاذل فيه آخرون وما تحقق للمتربصين بعد ذلك كانت لبياناتها مساهمة كبيرة في المعرفة التوحيدية التي جهلها الكثير من المسلمين فقالت في جملة كلماتها (ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها وإنشائها بلا احتذاء امتثلها كونها بقدرته وذراها بمشيئته من غير حاجة منه إلى تكوينها ولا فائدة له في تصويرها إلا تثبيتا لحكمته ...) إلى آخر المعارف التوحيدية التي فطرت عليها معرفتها الإلهية وقد كان المجتمع الإسلامي حينئذ لا يمتلك تلك الرؤية التوحيدية إلا بمعرفة إجمالية بسيطة فعمقت السيدة الزهراء (عليها السلام) مفهوم التوحيد لدى النفوس المنهزمة المتاهفتة على الجاه والمنصب وبهذا أوكلت أمرها ابتداءً إلى الله ذي القوة العزيز الجبار وهي إشارة رائعة ابتدأتها (عليها السلام) إبان مطالبتها بحقها المهتضم، ثم بينت فضل أبيها الذي اصطفاه الله من بين بريّته واختاره وانتجبه (وابتعثه إتماما لأمره وعزيمة على إمضاء حكمه وانفاذا لمقادير حتمه) ثم استعرضت حال الأمم وقتذاك وقالت (عليها السلام) (فراءى الأمم فرقا في أديانها عكفا على نيرانها عابدة لأوثانها منكرة لله مع عرفانها فأنار الله بابي محمد (صلى الله عليه وآله) ظلمها وكشف عن القلوب بهمها ..) ثم تعكف على استعراض تاريخهم المخزي قبل الإسلام فتقول (وكنتم على شفا حفرة من النار مذقة الشارب، ونهزة الطامع وقبسة العجلان وموطئ الأقدام تشربون الطرق وتقتاتون الورق أذلة خاسئين ..) وهنا أشعرت السيدة الزهراء (عليها السلام) الأمة بهون حالها وذل موقفها من الآخرين. فأنقذهم الله بابيها (صلى الله عليه وآله)، بعد ذلك تستعرض السيدة زهراء (عليها السلام) ما قدمه الإمام علي ابن أبي طالب (عليه السلام) من جهد عظيم بإيمان راسخ وعزم ثابت إحياءً لأمر الرسالة بعد أن نكص عن نصرتها من نكص وجاهر في العداء من جاهر فوصفته بابلغ الصفاة وبينت من خلال ذلك ما يجب أن يتوفر عليه الإمام من صفات القيادة الحكيمة والإمامة الأليهة التي يهبها الله لأوليائه فقالت (مكدودا في ذات الله مجتهدا في أمر الله قريبا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) سيدا في أولياء الله مشمرا ناصحا مجدا كادحا) هكذا يمكننا أن نتعرف على الإمامة بما تطالعنا من خلاله السيدة الزهراء (عليها السلام) إذ معرفتها لا تخرج عن سياقاة الدائرة المعرفية إلا لاهية التي خص الله بها أولياءه، والملاحظ إنها أول محاولة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) تصف الإمامة وتقدم قراءة دقيقة في مفهومها ومواصفاتها كما إنها (عليها السلام) كانت ببياناتها التوحيدية ومعرفة الله تعالى قد قدمت محاولة لقراءة توحيدية لم يسبقها إلى ذلك احد بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فهي تعد بحق أول من أسس المعرفة التوحيدية بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم تنتقل (عليها السلام) إلى بيان معارف إسلامية أخرى تعد بحق فتحا لباب منهج جديد في تأسيس رؤية جديدة لمفاهيم إسلامية وحكمها فلم يسبقها لبيان ذلك سوى رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا أنها (عليها السلام) قد قدمت تبويبات معرفيه في هذا المجال فقالت (فجعل الله الإيمان تطهيرا لكم من الشرك، والصلاة تنزيها لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس ونماء في الرزق، والصيام تثبيتا للإخلاص، والحج تشييدا للدين، والعدل تنسيقاً للقلوب وطاعتنا نظاماً للملة، وإمامتنا أماناً من الفرقة، والجهاد عزا للإسلام، والصبر معونتنا على إستيجاب الآجر..) وبهذا يمكننا أن ننفتح على المفاهيم الإسلامية ومعرفة حكمها من خلال ما قدمته السيدة الزهراء (عليها السلام) من قراءة جديدة مشاركة منها لبناء صرح الحضارة الإسلامية الشامخ.