اللهم صلى و سلم على محمد و آل محمد الطيبين الطاهرين
«عند العرض على اللّه سبحانه تتحقق السعادة من الشقاء» [1] .
«سعادة الرجل في إحراز دينه والعمل لآخرته» [2] .
«أفضل السعادة استقامة الدين» [3] .
«ما أعظم سعادة من بوشر قلبه ببرد اليقين» [4] !.
«إن حقيقة السعادة أن يختم للمرء عمله بالسعادة ، وإن حقيقة الشقاوة أن يختم للمرء عمله بالشقاء» [5] .
مرّت نصوص تعدّ أشياء ماديّة كالدار الوسيعة والمرأة الجميلة والمركب الهنيء من السعادة ، ومرّ أن منظومة التشريعات الإسلامية ، والنظام الإسلامي الشامل لا يبني سعادة الآخرة على معزل من الدنيا ، أو من خلال تحويلها إلى شقاء وجحيم ، أو صحراء جرداء ، وإنما يطلب للإنسان سعادته الاُخروية من خلال عمارة الدنيا وأوضاع معتدلة هانئة فيها ; فيكون للإنسان منها عون على دربه الصاعد إلى الكمال .
وإذا طالعنا المجموعة الأخيرة من النصوص ; وجدناها بين ما يفضّل سعادة الدين والآخرة على سعادة الدنيا «أفضل السعادة استقامة الدين» ، ومنها ما لا يلتفت إلى سعادة الدنيا ولا يعيرها نظراً بالقياس إلى سعادة الآخرة ، وكأنه لا وزن لها بإزائها للفارق الهائل بين الاثنين :
«سعادة الرجل في إحراز دينه والعمل لآخرته» ، «إن حقيقة السعادة أن يختم للمرء عمله بالسعادة ، وإن حقيقة الشقاوة أن يختم للمرء بالشقاء» .
إن هذه المجموعة تجعل قيمة السعادة ، أو حقيقتها في المحتوى الروحي الحي والمضمون المعنوي المتقدم الذي يتحقق لذات الإنسان في هذه الحياة بجهد وجهاد من توفيق اللّه . أما ما نسميه سعادة من لحظات بشاشة وانشراح للنفس لملاءمة الأوضاع المادية مع مشتهاها; فهي لا تعبأ به ولا ترى له شأنا يكون به من حقيقة السعادة ، ولو شملنا هذه الحقيقة لتلك اللحظات العابرة غير الخالصة تماماً من المكدرات لو تم الالتفاف ، فهي مستوى أوّلي بسيط منها .
السعادة بهذا المنظور روحي محلّق ، ومتانة في الذات الإنسانية من حيث بناؤها المعنوي ، واستيعابها للمعرفة الحقّة وتنوّرها بها ، وتحليها بانعكاساتها في الشعور والنية والعمل ، وتحوّلها مرآة تعكس من جمال وجلال لا منقوص ولا محدود للكامل المطلق المتعال محدوداً بما يتأنّى لها في نموّها وتكاملها في إطار الإمكان المحدود أن تعكسه .
وتحوّل هذه الكلمة الثرّة «عند العرض على اللّه سبحانه تتحقّق السعادة من الشقاء» ساعة تبيّن السعادة من الشقاء على ساعة العرض على اللّه سبحانه ، والوزن الحق للأنفس من بارئها فيما انتهت إليه فعلياتها ومضامينها في الخير والشر والصلاح والفساد بما كسبت أيديها ; فإنه لا يعبر السعادة بمعناها الداني نظراً إلاّ بلحاظ عاقبتها وما تؤدّي إليه في اليوم الآخر ; يوم تجلّي الأرواح على واقعها ، وبروز الذوات بأوزانها وأقدارها الفعلية الصادقة . يومئذ يظهر أن سعادة الغِنى والصحة والشهرة والرفاه وكثير من هذا القبيل في الدنيا سعادة حقّاً أو شقاءً فيما تؤول إليه الاُمور ، ويكون للدوام ، وفيما هو واقع الذات لهذا الإنسان ولذاك ، ومستوى له من شأنه السعادة أو من شأنه الشقاء في الأبد ، ويظهر أن ضيق المعيشة وشحّها ، واعتراء الأمراض ، وانغلاق فرص من فرص اللذة ، وتنكّر الآخرين ، وغلبة الظروف مما شقاء في هذه الحياة خير واقع على المدى البعيد على أذاه الحاضر ، أو شر فيما هو المردود على صناعة الذات ، وتبلور النفس ، وفيما يستقبله الإنسان كذلك بعد حين ، وفيما هو باق لا يعتريه فناء ولا يعرف النهاية . أو لا يصح أن يعدَّ شقاء اليوم سعادة إذا كان ما يعقبه من خير للذات ، ومن مستقبل كريم يفوق بسعادته وهناءاته ولذا ذاته على كل مستويات الذات وأبعادها آلام هذا الشقاء ببلايين المرات بل بما لا يعدُّ ويحصى ؟! على أن الطريقة التي تعتمدها المنهجة الإسلامية كما تقدم ليس أن تعذب في الحياة ، لتعطي عن ذلك ثمنا من سعادة الآخرة ، وإنما هي المنهجة التي توصل سعادة الآخرة بالدنيا وتهيء بسعادة الدنيا لسعادة الآخرة ، وإن كانت ملابسات الحياة وظروفها والتضادُّ بين الأحياء فيها والانحراف عن المنهج الحق في مجتمعاتها قد يتسبب في حرمان شخص ومتاعبه في الدنيا ، وهي دار التربية والامتحان ، فيعتاض من فضل ربّه عن حرمانه ومتاعبه نعيما مقيما ، وملكا كبيراً ، ومقاماً كريما وسعادة أبدية في الآخرة إذا استقام على الدرب الذي فتحه اللّه لأوليائه ; لأن يصعدوا بقلوبهم وأرواحهم إليه رغم المصاعب والأزمات المترصدة على الدرب .