وضع حقيبته على المنضدة و توجه الى المقعد الكبير ... و القى بجسده المرهق عليه .
أغمض عينيه و تنفس بعمق ، و ترك المجال لعضلاته لتسترخي بعد عناء نعار عمل شاق .
توجهت إليه و نزعت جوربيه ، و أخذت أدلك رجليه و كتفيه و أنا أردد ( الله يعطيك العافية ) .
استسلمت لحركات يدي و بقي صامتا مغمض العينين .
تركته يسترخي ، و حملت حقيبته العملية إلى مكتبه ، و القيت بجوربيه في سلة الملابس المتسخة ، ثم عدت إلى المائدة ألقي النظرة الأخيرة و أتأكد من أن كل شيء جاهز . لقد قضيت ساعات النهار في اعداد أطباق مميزة يعشقها زوجي .
عدت ألى الصالة ، فوجدته لا يزال في نفس الوضع الذي ترته عليه ، و يبدو أنه قد نام .
ناديت بصوت خفيف : ( سعيد ! هل نمت ؟ )
و لم يصلني جوابه . اقتربت منه أكثر و جعلت أداعب خصلات من شعره الناعم و أحاول إيقاظه بهدوء .
فتح عينيه و نظره الي ... و النعاس مسيطر عليه . قلت : ( الغذاء حبيبي ! سوف يبرد ! )
رد بصوت ٍ شبه نائم : ( فيما بعد ) ، و عاد فأغلق عينيه ... و استسلم لنوم عميق .
يبدو أنه كان متعبا جدا ... فعادته أن يتناول وجبته كاملة قبل أن يقيل لساعة .
لم أشأ ايقاظه ، آثرت أن أتركه مرتاحا ... و أعود إلى أطباقي فأرفعها و أعيد كل شيء لمكانه . لن يبدو للطعام المذاق نفسه حال إعادة تسحينه للأسف ... كم أرهقت نفسي طوال النهار في المطبخ !
أنه يوم الأربعاء ، و هو يومي المفضل ، و سعيد سيقضي هذا اليوم و هذه الليلة معي.
مرت ساعتان و سعيد لا يزال نائما ... الوقت يداهمني ... يمر بسرعة ... لن أكتفي بالقدر اليسير المتبقي ...
لم أوقظه ، فأنا أعرف أنه يكره أن يوقظه شخص ما حين يكون في نوم عميق ... إنه طبعه الذي لم يتغير منذ زواجنا قبل 16 عاما ...
ذكري لزواجنا جعلني أتجه الى الحزانة و أستخرج منها ألبوم الصور ... و أعيد مشاهدة صورنا منذ أول أيام الزواج ...
سعيد منحني كل شي ... السعادة و الراحة ... كان نعم الزوج لي و كنت محظوظة به ... و حاولت أن أكون نعم الزوجة و أبادله العطايا بالعطايا ...
نجحت في توفير كل شيء يتمناه الرجل في زوجته و بيته ... عدا أهم الأشياء ... الأبناء ...
خرج الأمر من يدي ، فقد خلقني الله بأحشاء معيبة لا يمكنها الحمل و الإنجاب .
كان الأمر صدمة كبرى لنا حين اكتشفناه بعد خضوعنا للفحوصات ... بعد زواجنا بسبع سنوات .
و كم أصابني اليأس و الإحباط ... لعجزي عن منح زوجي أبسط و أهم دعائم حياتنا الزوجية ...
بعدما هدأت نفسيتي فكرت في الأمر مليا ...
لم أشأ أن يحرم زوجي مما يحظى به بقية الرجال ، خصوصا و أنا اعرف تلهفه الشديد للأبوة .
و كم أصابه الذهول حين طلبت منه ان يتزوج من إمرأة أخرى .
مر الموضوع بمراحل من الرفض و القبول و التردد ، حتى نجحت في اقناعه ... و ارتبط بهند قبل ثمان سنوات .
تأرجحت مشاعري بين الفرح و الحزن ... بين الرضا و الغضب ... بين الإيثار و الغيرة طوال السنوات الثمان الماضية ... و لكنها استقرت أخيرا بالإستسلام .
هند كانت امرأة جيدة ... و قد منحت زوجي ما عجزت عن منحه إياه ... فصار أبا لثلاثة أطفال ، أصغرهم لينا الصغيرة التي أتمت العام الأول من عمرها قبل شهرين .
كنت كلما وضعت مولودا جديدا ... و بقد ما أسر لسرور زوجي ... أتألم و أحترق في داخلي ... و أشعر بأنني أفقد زوجي مرة بعد أخرى .
هذا الإحساس جعلني أقدم على خطوة لم أكن لأفكر بها ذات يوم ... و هي الاستقاله من عملي السابق .
كنت أريد أن أتفرغ بشكل كامل لزوجي ... حتى لا أجد أي شاغل يشغلني عنه فيشغل بها عني .
استمر هذا الوضع ، و سعيد يتناوب بيننا كل يوم ... ألا أنه كان يولي القدر الأكبر من اهتمامه لأطفاله .
بدأت أشعر بأنني فقدته بالفعل ...
و بعد أن كنت رقم واحد في حياته ، أصبحت رقم ثلاثة ، يسبقني أطفاله و أمهم .
كثيرا ما يحدث و أن يتصل به أحد أبنائه لسبب أو لآخر ... فأجده يعتذر لي و ينصرف إليهم .
اعتدت الأمر لحتى أصابني البرود ... و لم يعد يثير غيرتي و حنقي كما في السابق ، آمنت بأنني أندرج تحت السطر الثالث من قائمة مذكراته اليومية .
و لأنني كنت أجد فجوة كبيرة من الفراغ في حياتي ... قررت أن أعود للعمل ، علّي أكون أكثر نفعا من زوجة عاقر .
لا يزال سعيد نائما و عندما يصحو ... سأحدثه عن رغبتي هذه .
عندما سمعت صوت آذان المغرب ، قررت ايقاظه ... فإن عليه الذهاب للصلاة في المسجد المجاور في مطلق الأحوال .
نظرت إلى وجهه في صور الألبوم ... و وجهه الآن ... لم يتغير كثيرا ... لازلت أشعر برغبة قرص وجنتيه كلما رأيتهما !
إنه في الواقع ( طفلي ) الذي رزقني إياه الله ... و مهما كبر حجمه ... ليس لدي غيره ... لأداعب وجنتيه ... أقرصهما ... أو أقبلهما ...
بعد الصلاة ، اعدت تسخين أطباق الغداء ... و تناولنا عشاءا مبكرا ...
لاحظت أنه لم يكن على طبيعته ... في الواقع لقد لاحظت ذلك منذ البداية ، فهو لم يكن معتادا على النوم قبل الغذاء .
ربما لا يكون الوقت المناسب لأخبره عن رغبتي في العودة للعمل ، إذ علي أن أعرف ما يشغل تفكيره و يقلقه ...
( سعيد ... ماذا هناك ؟ )
رفع حاجبيه انهاشا ، ثم ابتسم ... فهو يدرك أنني أستطيع التكهن بما في خاطره ...
قال دون مماطلة : ( إنها الديون ... )
أعرف أننا نمر بوضع مالي سيء ... فأموره في العمل لم تجر كما ينبغي ، و لحقته الديون ...
تأوه ، ثم عاود يبث الشكوى المريرة
( علي تدبير مبلغ كبير ... بأي طريقة )
ربما كانت صدفة أن يحدثني عن الديون في الوقت الذي أفكر فيه بفتح موضوع عودتي للعمل
و من الطبيعي أن يربط بين الأمرين .
أخذت أتأمل وجهه الكئيب ... و أشعر بالضيق لأجله
سألت بقلق : ( أي طريقة ؟ ألديك طريقة ما ؟ ) ؟
نظر إلى نظرة تردد . عرفت أن لديه فكرة ما ... و متردد في طرحها ... قلت مشجعة :
( نعم ؟ ألديك حل ما ؟ )
أجاب
( البيت )
اندهشت ... و علاني العجب ... من هذه الفكرة ، فقلت مباشرة
( تبيع البيت ؟ )
و هز سعيد رأسه مؤيدا
قلت :
( و الأطفال ؟ )
و بقى يحدق بي برهة ...
و هنا اكتشفت خطئي
و سألت بذهول :
( تقصد ... بيتي هذا ؟ )
فقد ذهب اعتقادي الى بيته الآخر ...
توجم وجه سعيد للتعابير التي قرأها على وجهي ... فلاذ بصمت ... كما لذت بسكون
بعد قليل قال
( ليست بالفكرة الجيدة ... )
نظرت إيه ، فإذا بي أرى حجم الهموم يتضاعف على وجهه و الديون تتراكم فوق جفنيه
سألت :
( و ماذا عني ؟ .... أعود لبيت أبي ؟ )
صدم سعيد لدى سماع جملتي هذه ... و اضطربت تقاسيم وجهه ... كما اضطربت الكلمات على
طرف لسانه فتمتم بارتباك
( بيت أبيك ! من قال ؟ أين ذهب تفكيرك ؟ أنت مجنونة ! )
العبرات المحبوسة في مقلتي تحررت أخيرا و انطلقت بلا قيود فيما عيناي لا تزالان
تراقبان تلعثم لسانه و توتر شفتيه
( أنت مجنونة ! )
كررها ... ثم فتح ذراعيه و جذبني إلى صدره كأنه يؤكد لي الأمان معه
قلت و أنا أستمع الى دقات قلبه الثائرة
( إذن ماذا ؟ )
قال :
( آخذك إلى بيتنا الآخر )
لقد وصفه ببيتنا الآخر ... و حيث يعيش زوجي يكون بيتي
هذا ما حاولت اقناع نفسي به خلال الفترة التالية ، قبيل رحيلي عن بيتي
و الذي عشت فيه منذ أول أيام زواجنا .
كان باستطاعتي ان أفعل الكثير من اجل سعيد ... لم يكن أمامنا مخرج آخر غير
بيع المنزل . و سأتعلم كيف أعيش و أتعايش مع عائلة زوجي في بيتهم .
لا أخفي عليكم مدى القلق و عزارة المخاوف التي شغلت تفكيري . حتى و إن كنت أنا و هند
على وفاق ... لا توجد إمرأة محبة لزوجها في هذه الدنيا ... لا تشعر بالغيرة
من زوجته الثانية .
لم أعلن موافقتي على الرحيل إلا بعدما اشترطت موافقته على عودتي للعمل
لم يكن يحبذ الفكرة و لكنني تحججت بآلاف الحجج حتى جعلته يوافق عليها .
و انتقلت للبيت الآخر ...
أعد لي سعيد غرفة كبيرة و منعزلة نوعا ما ... أبعد ما تكون عن غرفة هند
كما خصص غرفة أخرى كمكتب أودع فيه لوازم عملي
و بدأت رحلتي الجديدة في بيت هند ...
استقبلت استقبالا حسنا ... ألا أن هذا لم يمنع الشحنات من الحوم حولنا منذ اللحظة
الأولى لوصولي . إنني قادمة هنا ليس برغبتي و إنما لظروف زوجي . و متى ما تحسنت هذه
الظروف ... فسأغادر بكل هدوء .
بذل سعيد كل جهودة ليبقى المعادلة متوازنة الطرفين بيني و بينها
فنظام الأيام المتناوبة طبق بحذافيره ، عدا عن تجاوزات بسيطة من أجل الأطفال
في هذا البيت ... رأيت صورة جميلة بل رائعة لزوجي ... لم يسبق لي أن رأيتها
له هناك ... في بيتنا الراحل ...
رأيته ... و هو يمارس أبوته الرائعة و يمثل أجمل و أجل أدوار الحياة
ولداه و كذلك ابنته لينا ... كانوا متعلقون به كثيرا ... و كان هو الآخر شديد
التعلق بهم و الحرص عليهم
و حيثما أسير في ذلك المنزل أرى صورا معلقة على الجدران تجمع سعيد بأطفاله
في أجمل و أروع منظر
بدأت أشعر بالمزيد من الضيق و الحرج الذي سببه وجودي لهند فقد كانت تعيش سيدة للمنزل
لا يشاركها
مكانتها فيه أحد
لم أستطع فرض وجودي و أحقيتي في المنزل ... كزوجة لصاحبه
اكتفيت بتينك الغرفتين ... و حصرت نفوذي فيهما
الساعات الأولى من النهار كنت أقضيها في العمل ، و بعد عودتي أدخل المطبخ فأعد
بعض الطعام لي و لزوجي إن كان سيمكث معي
أوضاعنا المالية بدأت بالتحسن شيئا فشيئا ... و سعيد بدا أكثر راحة و سعادة
و رضا ... فشكرا لله
لم أشعر بأنني في بيتي ... و كنت أجيبه ( كل شيء على ما يرام ) و ابتسم كلما
سألني زوجي عن أموري في البيت . كنت أخفي حقيقة ضيقي و رغبتي في الخروج العاجل
من أجل الحفاظ على المصلحة العامة
هند لم تتعمد الإساءة إلى أو إظهار استيائها من وجودي لكني كنت أحسه ... فهو الشعور
الذي كان سيعتريني لو كنت أنا من أضطر لاستقبالها و أطفالها في بيتي
ذات يوم ، و فيما كنت مشغولة في غرفة مكتبي بين أوراقي ، إذا بي أسمع صوتا
قادما من ناحية الباب
كنت قد تركت الباب شبه مفتوح ... و شعرت به يتحرك بعض الشيء
ثم رأيت وجه الصغيرة لينا يطل بتردد علي
كانت تدخل رأسها من فتخة الباب لثوان ... تنظر إلي ... ثم تنسحب ... و تكرر العودة
في خجل و تردد و براءة طاغية
ناديتها فترددت في الدخول ... أردت أن تقترب أكثر ... أخرجت قطعة حلوى سكرية
كانت في أحد جيوبي و قدمتها امامها أغريها بالحضور لأخذها
أتت الطفلة بكل براءة منقادة لسحر الحلوة ، و هي تمد يدها الصغيرة إلي و فمها
مبتسما
فتحت غلاف الحلوى و وضعتها في فمها فأخذت تمضغها بتلذذ
مددت يدي ... و حملت الصغيرة فوق ذراعي و ضممتها إلى صدري بحب و سعادة
نسيت العمل الذي كنت منهمكة فيه ... و قضيت قرابة الساعة أداعب الطفلة
و ألعب معها بكل فرح
ألا ما اجملها من لحظات ...
تثاءبت الصغيرة عدة مرات ... فعرفت أنها تعبت و تشعر بالنعاس ... حملتها فوق ذراعي
و جعلت أهزها و أغني بهدوء ... حتى نامت كالملاك الطاهر بين يدي
بقيت أتأملها ... و هي نائمة ببراءة ... و شعرت بعواطف الأمومة تتفجر في قلبي
لم أنا محرومة من أن أضم طفلا إلى صدري ؟ و أداعبه ... و أنيمه في حضني ...
و أغني له ...
طفل أهتم به و أرعاه ... و يحبني و يناديني ( أمي ) ؟
انهمرت الدموع عنوة على خدي الحزين ... لم يكن اعتراضا مني على قضاء الله و إنما شوقا و لهفة
و انقيادا لغريزة خلقني الله عليها و إن لم يخلق لي أحشاءا تصلح للتنفيس
عن هذه الغريزة المقدسة
انتبهت فجأة على سماع صوت قادم من الباب
لقد كان سعيد
و بمجرد أن رأى الطفلة بين يدي قال
( الحمد لله ! هي هنا ! لقد بحثنا عنها في كل مكان )
لا أدري إن كان انتبه لدموعي أم لا ... ألا أنه تقدم نحوي و نظر لطفلته النائمة فوق ذراعي
فقلت
( جاءت الى هنا فداعبتها إلى أن نعست و نامت )
قال :
( منذ أن بدأت المشي و هي تهرب أحيانا من أعيننا ثم نجدها نائمة في مكان ما ! )
ثم مد يده ليأخذها
( سآخذها إلى سريرها )
اعترضت :
( ستصحو ! )
قال :
( لا تقلقي )
ثم أخذها من حضني بهدوء ... و حملها الى سريرها
خرجت من غرفة مكتبي و ذهبت إلى غرفة نومي ... ارتميت على سريري و اجهششت بكاءا
أخذت أتحسس ذراعي ... حيث كانت الطفلة تنام قبل لحظة ... و شعرت بالمرارة
تمنيت لوأنني أفقد ما تبقى لي من العمر ... مقابل يوم واحد ... اعيشه أما
لطفل ...
و ما أبعدها من أمنية ...
كان هذا يومي و يفترض أن يأتي سعيد إلي بعد إن عاد من العمل
لكنه تأخر ... ذهب بالطفلة إلى سريرها و لم يعد ... هل نسي ؟ أم شغله أبناؤه ؟
أم زوجته الأخرى ؟
راودتني أفكار تعيسة ... في لحظة ضعف يائسة
ألا يكفي أنني محرومة من الأبناء ؟
أأحرم من الزوج أيضا ؟
أأحرم من البيت أيضا ؟
أأتنازل عن القليل الذي هو من نصيبي ؟
طال غياب زوجي ... و طال حنقي ... لا بد أنه نسيني ... أنه لم يلاحظ الدموع التي كانت تسيل من عيني ...
و بعد انتظار طويل ، سمعت طرقا خفيفا على الباب ، دخل بعدها زوجي الى الغرفة .
كنت لا أزال مضطجعة على سريري مغمضة العينين . أبقيتهما مغمضتين و تظاهرت بالنوم .
كنت أحس به يقترب مني ... و سمعته يناديني بصوت خافت ، و أديت دور النائمة بكل جدارة .
ظننت أنه سيخرج ... لكنه بقي في الغرفة ، و شعرت بكل حركاته ... و فتحت عيني بعض الشيء فرأيته يقرأ الجريدة .
استمر يقرأ الجريدة لوقت طويل ... تظاهري بالنوم جعل النعاس يغلبني فنمت حقيقة .
و عندما صحوت بعد ساعتين لم أجده في الغرفة و لا في المنزل ...
لم أجد أي انسان في ذلك المنزل سواي ...
ربما يكون الجميع في غرفهم أو خارج المنزل ، و رجحت الخيار الأخير حين وجدت المرآب حاليا من أي سيارة.
إنه يومي و لم يكن يحث خللا في النظام لهذا الحد ... فكيف يخرج مع عائلته و يتركني وحيدة في المنزل ؟
فكرت ... في أنني بمجرد أن يعود ... سأطلب منه نقلي لبيت آخر ....
بعد فترة ليست بالقصيرة ، رأيتهم جميعا يدخلون من الباب الرئيسي للمنزل .
و يبدو أن الغيظ كان واضحا على وجهي لأن سعيد بادر بالتبرير مباشرة :
( إنها لينا ... أصيبت فجأة بنوبة حادة من التقيؤ فذهبنا بها إلى الطبيب ... يقول أنها نزلة معوية
ربما التهمت شيئا فاسدا ! )
و قفز تفكيري مباشرة إلى قطعة الحلوى التي أطعمتها إياها قبل ساعات ... و دون تفكير قلت :
( أيمكن أن تكون الحلوى ؟ فقد ناولتها قطعة هذا اليوم ! )
سعيد و هند تبادلا بعض النظرات ... فأدركت أنني تفوهت بما كان أجدر بي الخرس دونه .
هند قالت باستياء :
( أرجو أن تهتمي بطعامك و تدعي إطعام أطفالي علي ) ...
ثم انصرفت ...
وقعت علي هذه الجملة وقع الفأس الحادة على الرأس الصلب ... فأسرعت أنا بدوري إلى غرفتي و كنت أسمع سعيد يناديني فيما طفلاه الآخران متعلقان بذراعيه ...
و حضر سعيد خلفي ... و جعل يتحدث معي و يعتذر و أنا غير مصغية لما يقول .
قلت :
( كانت مستاءة و قلقة بسبب الحالة السيئة التي كانت لينا عليها . الطبيب كان يريد ادخالها الى المستشفى لكننا أبينا . أعذريها لم تقصد شيئا )
صرخت بوجه سعيد دون شعور مني :
( إن استمريت في الدفاع عنها و تبرير فعلتها فسأجعل من ليلتك هذه جحيما )
سعيد تفاجأ من كلماتي الغريبة و التي لم يعتد سماع مثيل لها .
أما أنا فقد كنت في أسوأ حالاتي ، و تفجر كل ما أجبرته على الأنكبات داخل صدري ...
قال سعيد :
( لست على ما يرام ... أرى أن أدعك ترتاحين قليلا )
قلت بغضب :
( تدعني ؟ بمعنى آخر تذهب إليها ؟ لكنه يومي أنا إن كنت أخطأت الحساب و لئن عدت إليها لتجدن مني مالا يسرك )
مازال سعيد ينظر إلي بدهشة بالغة ...
هل كان يظن أنني في غاية الإنسجام معها ؟ هل أجدت تمثيل دور الراضية القانعة لهذا الحد ؟ ألم يشعر مرة أو تساوره الشكوك في أنني أخفي خلف رضاي غضبا ناريا ؟
فهم سعيد أخيرا و قال بقلق :
( هل حدث شيء ؟ هل أساءت إليك هند ... أو الأطفال ... ؟ هل تسبب أحد في إزعاجك دون علمي ؟ )
بكيت بمرارة ... و كرر هو علي تساؤلاته ...
أجبته أخيرا بهذا القرار :
( أخرجني من هذا البيت )
لم يستطع سعيد قول شيء ... و بعد صمت طال .. قال :
( و لكنك تعلمين ... كيف هي الأوضاع ... لقد بعت البيت الأول و لست قادرا على شراء غيره )
( و أنا لست قادرة على العيش هنا ... )
رأيت هموم الدنيا كلها ترتسم على وجهه الكئيب ... شعرت بأنه وصل الى النقطة التي لم يكن يود الوصول إليها
لقد أصبحت أنا مصدر همومه ... فهو غير قادر على توفير بيت لي ... غير قادر على تحمل أعباء وجودي في حياته ...
أنا الآن ... أشبه بالشجرة القديمة ... تتعبك في سقيها و تنظيف المكان من أوراقها المتساقطة ... دون أن تعطيك ثمرا يقوي بدنك ...