أن الجد أو الجدة يملكان خبرة من التدريب الكافي على التعامل مع الطفل. لكن تعامل الأب أو الأم مع الطفل ممزوج دائماً بالمسؤولية الكاملة منه. إن الأب قد يداعب ابنه وقد يلعب معه وكذلك الأم.....
لكن كلاً من الأب والأم يختلط لعبه مع الابن برغبة في التوجيه. إن الجد أو الجدة يملكان الرغبة في النزول إلى مستوى الطفل والحديث معه عما يسعده، ويمكنهما إقناعه بأن يأكل أو أن يساعداه على ارتداء الحذاء أو أن يعلماه كيف يمكن أن يمسح أنفه السائل، أو الابتعاد عن مصادر الخطر، كأزرار الكهرباء أو موقد النار أو أماكن حفظ الأدوية. لكن الآباء والأمهات ينتابهم عدم الصبر وضيق الوقت، فتنطلق الأوامر المختلطة بالتهديد للأبناء: إن لم تأكل لن تشاهد التليفزيون .. إن لم تتأدب لن أتحدث معك .. إن لم تسمع كلامي وتنفذه فلن أحبك أبداً ..
وننسى نحن الآباء أن مشاعر الأبناء ليست محلاً تجارياً نطلب من صاحبه أن يعاملنا كزبائن فيه وبمنطق الزبون دائماً على حق.
ننسى نحن الآباء والأمهات أن الأساس الوجداني للطفل هو أنه جزء من أبيه وأمه وأنه لا يحب مَن يهدده في ذلك أبداً مهما كانت الظروف.
والأجداد والجدات يعرفون بالخبرة تلك الحقيقة. إنهم يتعاملون مع الحفيد على أساس أنه صاحب الحق في الحياة، وأن طلباته مجابة ما دامت معقولة.
ولكن هناك مباراة فاسدة الطابع يمكن أن تتدخل في العلاقة بين الابن وجده وجدته كطرف، وبين الابن وأمه وأبيه كطرف آخر.
إن الجد والجدة قد يوحيان للوالدين برسالة غاية في الخطورة والخطأ: إنك يا ابني الذي أنجبت حفيداً لنا لست جديراً بأن تكون أباً، أو إنك يا ابنتي لست جديرة بأن تكون أماً.
إن الجد أو الجدة قد يعرفان حقائق عن الأطفال أكثر من الآباء والأمهات، لكن ليعلم الجد أو الجدة أن الطفل كائن غاية في الذكاء وهو يستطيع أن ( يلعب) على تضارب السلطات جيداً. ولذلك فمن المهم عدم ممارسة سوء الاستغلال العاطفي. من المهم أن يعرف الجد والجدة أن مصدر السلطات بالنسبة للطفل هو أبوه وأمه. قد يكون الحفيد ابناً لابن الجد، وقد يرى الجد أو الجدة يوجهانه بالتعليمات المتناقضة مع تعليمات الأم، وهنا يمكن أن يسبب الجد مشاكل لا داعي لها لابنه والد الطفل مع زوجته التي هي أم الطفل. وقد تكون الجدة في أعماقها غير موافقة على زوج البنت أو زوجة الولد. وقد تنتقل هذه المسألة من أعماقهما إلى إصدار أوامر تتناقض مع أوامر والد الطفل أو والدة الطفل. وهنا تسبب الجدة المشاكل لابنها أو لابنتها دون داعٍ أو مبرر.
إن مصدر السلطات في حياة الطفل هو أمه وأبوه ولا داعي لإهداء كمية من التوتر للأسر الشابة. فيكفي ما عند الأسر الشابة من مشاكل في هذا الزمان المعقد.
أما الآباء والأمهات، وهم يرون الجدات والأجداد يستمتعون باللعب مع الأبناء ذاتهم، فيتساءلون: (كيف يجدون كل هذا الصبر للتعامل مع الأطفال؟ .. ألا توجد عندهم أعمال أخرى أكثر أهمية؟).
وينسى الآباء والأمهات أن معنى الوقت يختلف عند الأجداد عن معناه عند الآباء. إن الوقت عند الجد هو وقت حصاد سنوات العمر. إنه يحصد الآن باللعب مع الحفيد كمية ما زرعه من حب ومسؤولية عن الابن أو البنت اللذين كبرا وأنجبا له هذا الحفيد.
إن قيمة الوقت تختلف عند الأجداد عنهما عند الآباء، ولذلك نجد الأجداد صبورين في التعامل مع الأحفاد.
لكن ماذا عن أعماق الطفل الصغير؟
إن الطفل الصغير يحب الجد أو الجدة لأن له معهما مساحة من الحرية أكبر، ولأنه يستطيع أن يطلب بعض الممنوعات فتتم الاستجابة له. ولكن الطفل لا يفكر على الإطلاق في أن يكون مثل الجد والجدة. إنه يريد أن يكون شاباً قوياً كأبيه، كما تريد الفتاة أن تغدو جميلة كأمها. نعم، إن الطفل يتطلع إلى الحب الممزوج بالاحترام الذي يشعر أن والديه يستحقانه وينالانه من كافة المحيطين بالأسرة. إن الأب هو المثل الأعلى للابن وكذلك الأم هي المثل الأعلى للبنت. وكل من الولد والبنت ينظر إلى الأب والأم وكأنهما قد حققا أرقى مكانة في العالم. ولذلك يحاول الابن أن يقلد والده، وكذلك تحاول البنت أن تقلد والدتها.
ولذلك يستقبل الابن أو البنت تعليمات الأب والأم بمنتهى الحب والرغبة في تنفيذ هذه الأوامر. ولكن الطفل قد يرتبك عندما يتلقى الأمر الصادر عن الأب أو الأم بعصبية أو فتور أو استهجان. إنه يقع في دائرة التخيل فيظن أنه كائن غير مرغوب فيه أو أن أباه وأمه قررا أن يتخليا عنه. وهذا الارتباك قد يؤدي إلى عدم تنفيذ الأمر الصادر عن الأب أو الأم. ولذلك نطلب من الآباء والأمهات أن يزرعوا الثقة النفسية في الأبناء. إن الأوامر يجب أن تكون حازمة وأن تتضمن اللهجة أيضاً قدرة الأب والأم على مساعدة الطفل. فإن كان الطفل قد فرش أرض الغرفة بلعبه الكثيرة فإن الأم يمكنها أن تقول: هيا نجمع لعبك معاً. وهنا تبدأ الأم في جمع لعب الطفل، وسيبدأ الطفل فوراً في مساعدة الأم
والابن قد يتلقى الأمر بأن يذهب ليغسل يديه بعد الأكل وأن يدخل الحمام، لكنه قد يتلكأ وقد يمتنع وقد يبكي أو يصرخ. لكن الابن لو تلقى الأمر بلهجة هادئة فإنه سيستجيب بمنتهى الهدوء.
إن الطفل يحب أن يقوم بالجزء الأكبر من العمل، ولكن كلما زاد عليه الإلحاح فإنه يشعر بالرغبة في العناد وفي عدم القيام بما نطلب منه من أعمال. وعلينا أن ننفذ عقاب الطفل إن أساء الأدب أو السلوك، لكن بشرط ألا يحمل العقاب صفة الانتقام.
إن المراقبة الحنونة للطفل، والكلام بهدوء معه، والتوجيه المليء بالثقة، وعدم منع الطفل من فعل إلا بعد الدخول معه في حوار يحس من خلاله بالحزم في قولنا وعدم إطلاق التوبيخ وكأنه قذائف صاروخية .. كل ذلك يساعد الأب والأم على الاستمتاع بالساعات التي يقضيانها مع الطفل.
إن الأب قد يسرح بخياله وهو في مكتبه متخيلاً لحظة أسرف فيها في عقاب الابن الصغير فيقول لنفسه: (لماذا لا أدلل ابني كما يفعل بقية الآباء) ويغرق الأب في الندم لأنه عاقب ابنه عقاباً فوق اللازم.
ولكن لوم النفس على عقاب الابن لا يجب أن يأخذ طابع المأساة. إنه أمر طبيعي ويحدث كثيراً عندما نفقد السيطرة على أعصابنا.
ويعرف الآباء والأمهات أن الطفل الأول كائن يتمتع بمقدرة رهيبة على استكشاف آفاق الرضا والغضب عند الأب والأم، تماماً كحرصه على البحث في كل زاوية من أثاث البيت وفي دواليب الملابس، وكيفية تشغيل الغسالة الكهربائية وكيفية إضاءة الكهرباء. إنه كائن يتدخل في كل شيء ولا يترك شيئاً في مكانه.
ويمرّ العام الأول والثاني من حياة الطفل الأول كمرحلة مزعجة وممتعة من فرط عجز الأب والأم والتفاهم مع كتلة الإحساس والمشاعر والحركة التي غيّرت وجه حياتهما معاً.
إنهما عامان يعطيان كلاً من الأب والأم شهادة أن كلاً منهما جدير بمكانة الأب ومكانة الأم.
وكما كانت الولادة لحظة مليئة بالشجى والألم، ويقال عنها في تاريخ كل أم إنها (لحظة منسية).. كذلك تماماً يكون العام الأول والثاني من عمر الابن الأول، فهو بمثابة دبلوم من الدراسات العليا في كيفية عدم الوقوع في سوء الاستغلال العاطفي من الآباء والأمهات للأبناء ومن الأبناء للآباء والأمهات.