~*¤ô§ô¤*~مَن هُم أهل البيت ؟~*¤ô§ô¤*~
عليهم السلام
يأتينا الكتاب الكريم ناطقاً مبيناً بقوله جلّ شأنه «إنّما يريد اللّه ليُذهبَ عنكم الرِّجس أهلَ البيت ويطهّركم تطهيراً»(1) إنّها لفضيلة لهم لا يدانيهم فيها أحد من الناس كافّة.
ولا كرامة أنفس من إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم من العيوب كافّة، ذلك التطهير الذي يريده اللطيف تعالى لهم بعنايته، وهو غير مقيَّد برجس خاصّ ولا من شيء مُعيّن، فيدلّ على عموم التطهير من كلّ عيب وذنب.
ويستفاد من هذه الآية الجليلة عصمة أهل البيت النبوي، لأنّ كلّ ذنب رجس، وارتكاب الذنوب لا يجتمع مع إذهابها عنهم وطهارتهم منها، فهم إذن بحكم هذه الآية مطهَّرون من الأرجاس والذنوب، وهل العصمة شيء وراء هذا ؟
نعم وإنما الشأن كلّه في المعنيّ بهذه الفضيلة التي امتازوا بها على جميع الامّة. أهُم الذين كانوا في البيت حين نزلت هذه الآية الكريمة ؟ أم كلّ مَن يمت إلى الرسول الأطهر بسبب أو نسب ؟ فإن قيل بالثاني فالواقع شاهد على خلافه، لأنّا نجد في نسائه من خالفته وتظاهرت عليه، ولا رجس أعظم من ذلك. فلابدَّ من أن يكون نساؤه غير معنيّات بها، واستثناء بعض النساء دون
(1) الأحزاب: 33.
***
بعض تحكّم.
هذا فيمن يمت اليه بالسبب، ونجد البعض ممّن يمت اليه بالنسب يداني الموبقة، ويقارب الجريمة، ولا يصحّ أن يريد القدير سبحانه شيئاً بالإرادة التكوينيّة(1) ثم لا يقع، فلمّا كان مستحيلاً أن يريد تكوين شيء فلا يكون عرفاً أن النساء وعامّة الهاشميّين غير مقصودين من الآية، لإتيانهنّ وإتيانهم ما ينافي التطهير، على أنه لم يقل أحد بعصمة نسائه والهاشميّين عامّة.
ولو كان المقصود بها الإرادة التشريعيّة فلا وجه لارادة التطهير من أهل البيت خاصّة، لأنه تعالى يريده من الناس كافّة، فاختصاصه بهم على وجه الميزة والفضيلة يدلّنا على تكوينه فيهم، ثمّ ان الإرادة التشريعيّة إنما تتعلّق بفعل الغير، ومتعلّقها في الآية فعل اللّه تعالى نفسه، ولو كانت الإرادة تشريعيّة لقال: لتذهبوا وتطهروا أنفسكم.
فلا شكَّ في أن المعنيّ من الآية هو المعنى الأول، أعني أن المقصود منها اُناس مخصوصون، وهم الذين كانوا في بيت سيّد الرسل صلّى اللّه عليه وآله وقد جلّلهم بكسائه والتحف معهم به، فنزلت هذه الآية عليهم وفيهم، وهم عليّ وفاطمة وابناهما عليهم السلام، وعلى ذلك صحاح الأحاديث من طرق الفريقين(2).
ولو لم يكن هناك نقل يدلّ بصراحته على اختصاص هذه الصفوة الكريمة
(1) الإرادة التكوينيّة هي التي تتعلّق بفعل المريد نفسه وتقابلها الإرادة التشريعيّة التي تتعلّق بفعل الغير على أن يصدر من الغير وهي التي تكون في التكاليف.
(2) انظر مجمع البيان وما رواه القوم في تفسيرها: 4/356 وتفسير الشوكاني: 4/270 ورواه من عِدّة طرق عن أمّ سلمة وعن عائشة وعن غيرهما، وذكر ابن حجر في الصواعق ص 87: أن اكثر المفسّرين انها نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السّلام، الى غيرهم من أهل التفسير والحديث والتاريخ.
وحاول الآلوسي في تفسيره روح المعاني بعد أن ذكر الأحاديث الجمّة الواردة في اختصاصها بأهل الكساء أن يعمّم الآية لهم وللنساء وللمؤمنين من بني هاشم، وما ذكرناه كافٍ في ردّه.
بهذه الآية الشريفة لكان من آثارهم اكبر برهان على هذا الاختصاص، فانّ أفعالهم وأقوالهم ترغمنا على الاعتراف بتلك النزاهة لهم.
وما خفيت هذه الحقيقة الناصعة على أهل البصائر من بدء نزول هذه الآية المحكمة حتى اليوم، فكان أهل البيت عندهم أهل الكساء خاصّة، الذين حبوا بمكارم لا يأتي عليها الحصر، وكان منها الطهارة من العيوب، وذهاب الأرجاس والذنوب.
نعم ربّما استغلَّ بعض الهاشميّين ومنهم العبّاسيّون ظاهر عموم كلمة أهل البيت لتحقيق مآربهم والوصول إلى العروش، فكان الهاشميّون عامّة يدلون على الناس بهذه الآية.
كما كان اسم التشيّع أيضاً قد يُستغل فيراد به ولاء عليّ وأهل البيت بالمعنى العام، لا خصوص أصحاب الكساء والأئمة من أولاد الحسين عليهم السلام إلا عند الذين لا تجرفهم سيول الرعاع، ولا يعدل بهم عن الحقّ الصخب أو الضغط، وما عرفت الناس التشيّع بولاء هؤلاء الأئمة خاصّة إلا بعد أن خيّم السكون على الناس بعد الثلث الأوّل من الدولة العبّاسيّة، حين قرَّت شقشقة العلويّين وثوراتهم، فتمخّض القول وقتذاك بأهل البيت لهؤلاء السادة الأئمة.
وشاهدنا على ذلك أن بني العبّاس ما دبوا دبيب النمل على الصفا لارتقاء عروش المُلك وتحطيم دعائم الدولة المروانيّة إلا بذلك الاسم، بزعم أنهم أهل البيت الأقربون إلى صاحب الرسالة، ليعطفوا بذلك عليهم قلوب الشيعة ويتّخذوا منهم فعلة لبناء الكيان لسلطانهم، وهدم بناء الدولة الاُمويّة التي قاومت أهل البيت وشيعتهم طيلة أيامها، وصبغت وجه الأرض من دمائهم المسفوحة.
وما كان ليتمّ لبني العبّاس ما أملوه لولا ادعاؤهم ذلك، ولو لم يكن الذين نهضوا بهم واتخذوا منهم جسراً عبروا عليه إلى مآربهم شيعة لأهل البيت، من دون تفريق بين العبّاسي والطالبي، ولا بين العلوي والجعفري والعقيلي، ولا بين الحسني والحسيني.
وهكذا كانت الدعوة والنهضة من كلّ هاشمي كنهضة عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر بالكوفة ثمّ بفارس وفيهما أولياء لأهل البيت، وقد قضى عليه أبو مسلم بعد تفرّق الناس عنه والتجائه اليه، وما كان من زيد وابنه يحيى من النهضة، ولا من الأخوين محمّد وإبراهيم من الدعوة إلا لأنهم من أهل البيت وأن غاياتهم من الدعوة أخذ التراث من أعداء أهل البيت.
ولكن قد وضح للناس بعد ذلك أنّ بني العبّاس ليسوا من أهل البيت، حين سلّوا سيف البغي على أهل البيت قربى الرسول صلّى اللّه عليه وآله وعرف الناس أنّ الدعوة من بني العبّاس لقلب دولة أُميَّة باسم الثأر لقتلى الطف وصليب الكناسة والجوزجان وغيرهم كانت سبيلاً للوصول إلى أُمنيّتهم المقصودة، لأنه بعد أن بنوا من جماجم اولئك الاغرار من محبّي أهل البيت قواعد سلطانهم ظهرت كوامن صدورهم، وما قصدوه من الوليجة إلى غاياتهم، حتى أن محمّداً وإبراهيم اختفيا عند قبض السفّاح عن أعنة الحكم، وما اختفيا إلا لما يعلمانه من سوء نواياه مع الادنين من الرسول، والشواهد على ذلك من ضغطهم على أهل البيت وشيعتهم اكثر من أن تحصر، وفي ثنايا المنتدى سيمرّ عليك من هذا القبيل ما فيه مقنع.
* * *
جناية أهل البيت( عليهم السلام) ؟
***
هتف القرآن المجيد بآيات كثيرة في شأن أهل البيت، آمراً بمودَّتهم مخبراً عن طهارتهم، حاثّاً على الاعتصام بهم، حاضّاً على طاعتهم، معلناً عمّا لهم من جزيل الفضل وعظيم المنزلة.
وأتبعه الرسول صلّى اللّه عليه وآله طيلة حياته كاشفاً عمّا جمعه آله من الفضائل، وحبوا به من المفاخر، يوجب تارةً طاعتهم واتّباعهم، ويلزم أُخرى بمودّتهم ويعطف طوراً للقلوب عليهم ويستميل مرّة النفوس اليهم إلى ما سوى ذلك(1).
وما كان ذلك إلا لسعادة الناس أنفسهم ليأخذوا الدين من أهله والعلم من معدنه، فكان الحقّ على الناس احترامهم، والانقطاع اليهم والانصراف عن غيرهم.
كان أهل البيت - أعني عليّاً والزهراء وابنيهما وأبناء الحسين عليهم السلام - مثالاً للنبي صلّى اللّه عليه وآله في شمائله وفضائله وخصاله وفعاله، فمن أراد علم الرسول كانوا باب مدينته، ومن أراد منطقه كانوا مظهر فصاحته وبلاغته، ومن أراد خُلقه وجدهم أمثلة سيرته، ومن أراد دينه وجدهم مصابيح شريعته،
(1) ذكرنا في كتابنا «الشيعة وسلسلة عصورها» بعض ما جاء في الكتاب والسنّة في شأن أهل البيت وفضلهم والدعوة الى ولائهم.
ومن أراد زهده وجد فيهم منهاج طريقته، ومن أراد البرّ بعترته كانوا صفوة ذرّيته، ومن أراد النظر اليه كانوا جمال صورته، هكذا كان أهل البيت إن قستهم إلى صاحب البيت، وهذا بعض ما كانوا فيه مثالاً لشخصيّته الكريمة صلّى اللّه عليه وآله.
ومَن كانت له عند الرسول صلّى اللّه عليه وآله ترة فمنهم الأخذ بترته، أو كان له مع الاسلام عداء فهم للاسلام أقوم عدَّته، أو كان له مع الدين غضاضته فإنهم للدين أوقى جنّته، أو كان له مع المعروف حرب فهم للمعروف أبناء دعوته أو كان له مع المنكر ولاء فهم أعداء خطَّته.
وإن ذكر الخير كانوا أدلاءَه، أو سار الفضل كانوا لواءه، أو نشر العدل كانوا أخلاءَه، أو خاض الناس في المفاخر كانوا أبعدهم قعراً وأثمنهم درّاً، أو تسابق أهل الفخر إلى المكارم كانوا أسبقهم جولة، وأبعدهم شوطاً، وإن تنافسوا في الشرف كان عندهم الوقوف والاحجام، فما من فضيلة إلا وإليهم مآلها، ومنهم انتقالها.
فاذا كان أهل البيت كما وصفنا فكيف لا يقف معهم بنو أُميّة موقف العدوّ اللدود، والخصم العنود، ألم يكن النبي صلّى اللّه عليه وآله قد قتل منهم في اللّه من قتل، فمتى يأخذون منه تراتهم، ولو أغضوا عن حماة الاسلام، ودعاة الدين لعاد النبيّ بدعوته، كأنه لم يمت ولم يمت ذكره، ولسار الاسلام وأحكامه ونظامه كما أراده الجليل تعالى والرسول صلّى اللّه عليه وآله، ولو وقفوا معهم موقف المحايد لعرف الناس فضل أهل البيت وبان للعالم حقّهم، ولما بقيت عندئذٍ لأُميّة وسيلة لارتقاء منابر الاسلام، وذريعة للاستيلاء على البلاد واسترقاق العباد.
ما برحت أُميّة تظهر وتضمر العدل للرسول الأطهر صلّى اللّه عليه وآله فلا
بدع لو كانت مواقفهم مع آل الرسالة تلك المواقف المشهودة ولو كانوا على غير ما عرفته الأيام منهم لكان ذلك بدعاً من خلائقهم وأخلاقهم.
وأما بنو العبّاس، فإنهم حين ملكوا الأمر، وعبروا الجسر إلى مآربهم، الجسر الذي أقاموه على أكتاف الشيعة، ورفعوا أعمدته من جماجم اُولئك السذّج، عرفوا أن الحال إن هدأت سوف يحاسبهم الناس على الحقّ وموضعه والخلافة وأهلها، لأنهم لم ينهضوا معهم إلا لهدم عروش أُميّة، وللأَخذ بترات الدماء الزكيّة التي أُريقت من غير جرم، ولبناء خلافة الرضا من آل محمّد صلّى اللّه عليه وآله وما قاموا وقاوموا لأن يقيموا عرشاً لبني العبّاس دون بني علي فارتأى العبّاسيّون أن يفتكوا بالرجال الذين عبَّدوا لهم السبل، ووطّدوا لهم الطريق لاعتلاء أسرَّة الحكم، كأبي سلمة الخلال وغيره، حذراً من ذلك الحساب ورأوا أن يضيِّقوا على أبناء علي، ويضعوا عليهم العيون والرصد، خوفاً من تلك النزعات التي تخالج نفوسهم أو يحملهم عليها الناس، ورأوا أن يكمّوا أفواه الشيعة بالإرهاب خشية من ذلك السؤال والحساب.
فما كانت جناية أبناء عليّ لديهم إلا أنّهم أهل الحقّ والمقام، وأهل البيعة والخلافة، بالقرابة أو بالنصّ أو بالفضيلة.
ولم يكن شيء يدعوهم لإنزال الضربات بالعلويّين سوى أن العلويّين أجدر بالخلافة التي غلب عليها العبّاسيّون، وأن العبّاسيّين لا يأمنون من وثباتهم ما برح لأبناء عليّ مكانة سامية بين الناس، وما برح فيهم قروم تطمح اليهم الأنظار وتهوى اليهم القلوب، فاتخذ العبّاسيّون الغضّ من كرامة آل الرسول صلّى اللّه عليه وآله والفتك باُولئك القروم ذريعة لميل النفوس وانكفاء الأهواء عنهم، ولو حذرا من الفتك والبطش، كما كان دأبهم الإرغام لمعاطس شيعة أهل البيت والتنكيل بهم، لئلا تكون لهم قوَّة وشوكة يستعين بها أهل البيت على النهضة.
والفرق بين الأُمويّين والعبّاسيّين هو أن الذي دعا الأُمويّين لحرب الهاشميّين شيئان: الانتقام من الرسول، والتسلّق للزعامة، والذي دعا العبّاسيّين: نيل العروش والذبّ عنها فقط، دون أن يكون منهم حرب مع النبيّ وشريعته بقصد، وإن كان حربهم لعلماء الشريعة حرباً للشريعة وللصّادع بها.
ولو ألقيت نظرة مستعجلة على ما لقيه أهل البيت من أجل تقمّصهم بالفضائل لعرفت كيف تحارب الدنيا الدين، وكيف انطبع الناس على حبّ الدنيا وحلفائها، وعلى عداء الدين وحلفائه، ولأبصرت أن بني العبّاس جَروا في مضمار بني أُميّة، وإن سبقوهم شوطاً بعيداً في حرب أهل البيت.
قتلَ بنو أُميّة الحسين بن علي عليهما السلام في الطفّ ومعه صفوة زاكية من أهل بيته، ونخبة صالحة من أصحابه، حيث وثب مُنكِراً عليهم تلاعبهم بالدين حسب الأهواء، وقتَل بنو العبّاس الحسين بن علي بفخّ ومعه غرانيق من العلويّين عزَّ على وجه الأرض نظيرهم، حين نهض مُنكِراً عليهم ما ارتكبوه من الأعمال التي أغضبوا بها الدين وأهله.
سمَّ بنو أُميّة من الأَئمة ثلاثة: الحسن والسجّاد والباقر عليهم السلام، وسمَّ بنو العبّاس منهم ستة: الصادق والكاظم والرضا والجواد والهادي والعسكري عليهم السلام.
أرسل هشام بن عبد الملك على الباقر والصادق عليهما السلام إلى الشام لينال منهما سوءً فحين حلا بالشام لم يجد بدّاً من إكرامهما وتسريحهما إلى المدينة حذراً من أن يفتتن بهما الناس، وأمّا بنو العبّاس فلم يتركوا إماماً يقرّ في بيته، أرسل السفّاح خلف الصادق، وأرسل المنصور أيضاً خلفه مرّات عديدة، وأرسل الرشيد خلف الكاظم وحبسه ثمّ أطلقه، ولم يطل العهد حتّى أرسل عليه مرّة أُخرى، فما خرج من الحبس إلا وهو قتيل السمّ، ولا تسل عمّا ارتكبه معه حين
إخراجه من السجن والنداء عليه على الجسر، وأرسل المأمون خلف الرضا إلى طوس، فما عاد إلى أهله بل عاجله بالسمّ وهو في خراسان، وأرسل خلف الجواد ثمّ سرَّحه من دون أن يأتي اليه بسوء، وما قبض المعتصم زمام الأمر إِلا وأرسل خلف أبي جعفر الجواد عليه السلام وحبسه، وما أطلقه من السجن حتّى دبَّر الحيلة في قتله بالسمّ، وأرسل المتوكّل خلف أبي الحسن الهادي عليه السلام وجدَّ في النيل من كرامته إلى أن هلك، وما زال يلاقي من ملوك العبّاسيّين ضروب الأذى والتضييق، يسجن مرَّة ويطلق أُخرى إلى أن سقاه المعتز السمّ، وبقي ولده أبو محمّد الحسن عليه السلام في سامراء، لا يأذنون له بالإياب إلى المدينة، ولا يتركونه قارّاً في بيته، بل يحبسونه مرَّة ويطلقونه أُخرى، إلى أن قضي بسمّ المعتمد، وصار يفحص عن ابنه أبي القاسم حين علم أن له ولداً ابن خمس يريد أن يقبضه ليقضي عليه، فتغيّب هارباً من جورهم وفتكهم حتى اليوم.
أباد الاُمويّون جماعة من العلويّين بالسمّ والحبس والقتل والصلب أمثال زيد ويحيى وفئة أُخرى يوم الحرَّة، وعبد اللّه أبي هاشم بن محمّد بن الحنفيّة على قول وغيرهم، وأين هؤلاء من تلك العدَّة التي أبادها العبّاسيّون وكفى منهم قتلى فخ والعصابة التي قضوا في قعر السجون، وما ارتقى العرش عبّاسي إلا وقتل جماعة من العلويّين.
هرب من جور الأمويّين أمثال يحيى وعبد اللّه الجعفري وعدّة اُخرى ولكن أنَّى تُقاس كثرة بالذين هربوا واختفوا خوفاً من العبّاسيّين، وأين أنت عن القاسم وأحمد ابني الامام الكاظم عليه السلام وعيسى بن زيد وغيرهم، بل لم ينتشر العلويّون في الأقطار النائية كالهند وايران إلا هرباً من بني العبّاس وحذراً من بطشهم، وكان الكثير منهم يخفي نسبه حذراً من ولاتهم.
ولئن غدر الاُمويّون ببعض العلويّين والعبّاسيّين فقتلوهم سمّاً فلا تسل عمّن غدر به العبّاسيّون من العلويّين، ولو تصفَّحت «مقاتل الطالبيّين» لعرفت ما ارتكبه منهم بنو العبّاس.
ولئن أحرق الاُمويّون بيوت أبناء الرسالة يوم الطف، فلقد أحرق العبّاسيّون دار الصادق عليه وعلى عياله، حتّى خرج الصادق اليها فأطفأها وقد سرت في الدهليز.
ولئن سلب الاُمويّون بنات الرسالة يوم الطف، فلقد أرسل الرشيد قائده الجلودي إلى المدينة ليسلب ما على الطالبيّات من حليّ وحلل، فكان الجلودي أقسى من الجلمد في إمضاء ما أراده فلم يترك لعلويّة ولا طالبيّة حلَّة ولا حلية.
وسيَّر هشام بعد حادثة زيد كل علوي من العراق إلى المدينة وأقام لهم الكفلاء ألا يخرجوا منها، وسيَّر موسى الهادي بعد حادثة فخ كلّ علوي من المدينة إلى بغداد حتى الأطفال فأُدخلوا عليه وقد علتهم الصفرة ممّا شاهدوه من الرعب والتعب والأحداث.
وهكذا لو أردنا أن نقايس بين أعمال الدولتين، فلا نجد للاُمويّين حدثاً في الإساءة لأهل البيت إلا وللعبّاسيّين مثله مضاعفاً، فكأَنما اتخذوا تلك الخطّة مثالاً لهم يسيرون عليها، وزاد العبّاسيّون أن اختصّوا بأشياء من فوادحهم مع العلويّين لم يكن للاُمويّين مثلها، كجعلهم العلويّين بالأبنية والاسطوانات حتّى جعل المنصور أساس بغداد عليهم، ولا تنسل عمّن وضعه الرشيد في تلك المباني من الفتية العلوية البهاليل.
وقطع الرشيد شجرة عن قبر الحسين عليه السلام كان يستظلّ بها زائروه، وهدم المتوكّل قبره وما حوله من الأبنية والبيوت، وحرث أرض كربلاء وزرعها ليخفي القبر وتنطمس آثاره، حتّى قيل في ذلك:
تاللّه إِن كانت اُميّة قد أتت***قتل ابن بنت نبيّها مظلوما
فلقد أتته بنو أبيه بمثله***فغدا لعمرُك قبره مهدوما
أسفوا على ألا يكونوا شاركوا***في قتله فتتبعوه رميما
ولقد كانت أيام بني اُميّة ألف شهر وقد قتلوا فيها الأماثل من العلويّين ولو حسبت من بدء أيام بني العبّاس إلى ألف شهر لوجدت إن العبّاسيّين قد قتلوا من العلويين أضعاف ما قتله الاُمويّون، وما قتلوهم إلا وهم عالمون بما لهم من فضل وقربى، وهذا موسى بن عيسى الذي حارب أهل فخ يقول عن الحسين صاحب فخ وأصحابه: هم واللّه أكرم خلق اللّه وأحقّ بما في أيدينا منّا ولكنّ المُلك عقيم، لو أنّ صاحب هذا القبر - يعني النبي صلّى اللّه عليه وآله - نازعنا المُلك ضربنا خيشومه بالسيف.(1)
على أن هذا الآثم الجريء اعترف بذنبه، ولكنه لم يذكر الحقيقة كلّها لأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله والصفوة من آله لم يطلبوا المُلك للمُلك، وإِنَّما يطلبونه للدين وللأَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولإزالة البدع والضلالات ولو طلبوا المُلك للمُلك لما رشقنا الاُمويّين والعبّاسيّين بنبال اللوم على ما جنوه مع الطالبيّين، وهل يُلام الظافر بقرينه إِذا تجالدا على السلطان.
أترى أن الحسين في نهضته، وزيداً في وثبته، ويحيى في جهاده، والحسين بفخّ في دفاعه، وأمثالهم من الطالبيّين أهل الدين والبصائر، كانوا يضحُّون بالنفس والنفائس لأجل السلطان، وكيف يتطلّبون الدنيا محضاً وهم دُعاة الدين، وأدلاء الهدى، ومصابيح الرشاد، وكيف يتطلّبون المُلك وهم يعلمون أن ما لديهم من قوَّة لا يفوز بها الناهض بالظفر والنصر، نعم ضحّوا بتلك النفوس
(1) مقاتل الطالبيّين في مقتل الحسين بن علي صاحب فخ.
الثمينة والنفائس لما عرفوه من أن الدين أنفس من نفوسهم، ومن استغلى الثمن هان عليه البيع، وهل عرف الناس الحقّ صراحاً، والدين يقيناً، إِلا بعد تلك القرابين، وهل ظهر الحقّ على الباطل في الحجّة والبرهان إِلا بعد ذلك الفداء.
كانت واقعة الطفّ وتضحيات العلويّين مثالاً لأرباب الدين وتعليماً لرجال الحقّ عند المنافسة بين الهدى والضلال، والحقّ والباطل، ولم تدع عذراً لدعاة الدين عن الفداء في سبيل النصرة، فإنهم بأعمالهم علّموهم كيف يكون الانتصار في هذه التضحية، وكيف تكون الحياة في هذا الممات، وإِنَّ تلك التجارب للجام الأفواه عن العذر بالعجز، إِذ ليس النصر لفوز العاجل وإِلا فإن يوم الحسين وأيام العلويّين كانت أيام الظفر لأعدائهم، ولكن ما عرف النّاس إلا بعد حين أن الظفر والفوز كانا لأُولئك العلويين الناهضين الذين بذلوا ما لديهم في سبيل الدين، وأن الخسران في الدنيا والدين لأعدائهم الظافرين في يومهم.
وبتلك الحوادث بانَ للعالم ما كان عليه أهل البيت من الدين والجهاد في إِحياء الشريعة، وما كان عليه أعداؤهم من الدنيا والحرب للدين، واتضحت نوايا الفريقين، وبانت أقصى غاياتهم من أعمالهم هاتيك، وإِلا فأيّ ذنب للطفل الرضيع وقد جفَّ لبنه وذبلت شفتاه عطشاً أن يقتل على صدر أبيه، حتّى يتركه السهم يرفرف كالطير المذبوح.
وأيّ ذنب للأطفال الذين لم يحملوا السلاح، ولم يلجوا حومة الحرب أن يُذبحوا صبراً، أو يُداسوا بالخيل قسراً.
وأيّ ذنب للنساء عقائل الرسول صلّى اللّه عليه وآله أن تسبى على الهزل بعد السلب والسبّ الضرب، ولماذا تُحمل من بلد لآخر كما تساق الإماء.
ولو أن الحسين ورهطه قد حاربوا طلباً للسلطان لما استحقَّ بعد القتل أن
يُداس جسمه ويُرفع على القناة رأسه، وتُسبى على المهازيل أهله، أترى أن قطع الرؤوس، ورضّ الصدور والظهور بسنابك الخيل، وسلب الجثث وتركها عارية، وإِبقاءها بالعراء بلا دفن، وأخذ النساء أسارى مّما يُجازى به القتيل الناهض للمُلك والسلطان.
إِن الذي يذر الملح على الجرح، وينكأ القرحة، ويزيد في النكبة أن القوم لم يفعلوا بالحسين وأهله تلك الفعلة النكراء الفظيعة عن جهل بمقامه، واعتقاد بخروجه عن الدين، بل إِنهم ليعلمون أنه صاحب الدين، وربّ الخلافة والامامة، وسيّد شباب أهل الجنّة، وريحانة الرسول، بل يعلمون بكل ما له من سابقة وفضل.
وهكذا لو فتّشت عن الأمر في غير الحسين عليه السّلام فإنك لتجد الحال في زيد ويحيى وأهل فخ، وما سواهم من أمثال أهل البيت الذين كانوا طعمة للسيوف، ومنتجعاً للسمّ، ووقفاً على الحبوس، كالحال في الحسين في المعرفة بهم والعمد على ظلمهم.
فلا بدع إِذن لو وضح للعالَم من تلك المواقف المشهودة، والمشاهد المعلومة، أن الحرب بين أهل البيت وبين أعدائهم من نوع حرب الفضيلة والرذيلة، وأن الذين يريدون العروش لا يستطيعون نيلها إِلا بمحاربة أهل البيت ومحوهم من صفحة الوجود، لأنهم يعتقدون أنهم لا يصلون إِلى الغاية ولأهل البيت شبح قائم، وظلّ يتفيّأه الناس، فما كانت جناية أهل البيت إِذن لدى الناس إِلا أنهم أهل الدين، وأرباب الفضائل، فلا ترتقي الناس أرائك الخلافة وأهل البيت أكفاؤها الذين خُلقت لهم وخُلقوا لها تعرفهم الأُمّة قياماً بين أبناء الاسلام.
* * *
نسال الله ان يوفقنا لمعرفتهم والسير على نهجهم
نسالكم الدعاء
مرتضى العاملي