مقدمة :
قرَّر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يسير بأصحابه من المدينة المنوّرة إلى مكّة لزيارة بيت الله الحرام ، بعد أن رأى في منامه أنّه يدخله هو وأصحابه آمنين من غير قتال .
الخروج من المدينة :
توجَّه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نحو مكّة ، ومعه ما يقرب من ألف وأربعمائة من المهاجرين والأنصار ، وذلك في الأوّل من ذي القعدة ، من السنة السادسة للهجرة ، وقد ساقوا معهم سبعين بَدَنة هدياً ، لتُنحَر في مكّة .
فلمّا تناهَى الخبر إلى قريش فزعت ، وظنّت أنَّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يريد الهجوم عليها ، فراحت تتدارس الموقف ، وتعدُّ نفسها لصدِّه عن البيت الحرام .
ولمّا بلغ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) أخبار إعداد قريش ، والتهيّؤ لقتاله ، غيَّر مسيره ، وسلك ( صلى الله عليه وآله ) طريقاً غير الطريق الذي سلكته قُوَّات قريش المتوجّهة لقتاله .
منطقة الحديبية :
في طريقه ( صلى الله عليه وآله ) إلى مكّة استقرَّ وأصحابه في وادي الحُديبية ، وهي قرية سمّيت ببئر هناك ، وبينها وبين مكّة مرحلة ، وبينها وبين المدينة تسع مراحل .
البيعة تحت الشجرة :
قال ابن عباس : إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خرج يريد مكّة ، فلمّا بلغ الحديبية وقفت ناقته ، وزجرها فلم تنزجر ، وبركت الناقة ، فقال أصحابه : خلأت الناقة ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : ( ما هذا لها عادة ، ولكن حبسها حابس الفيل ) .
ودعا عمر بن الخطاب ليرسله إلى أهل مكّة ، ليأذنوا له بأن يدخل مكّة ، ويحل من عمرته وينحر هديه ، فقال : يا رسول الله ، ما لي بها حميم ، وإنّي أخاف قريشاً لشدّة عداوتي إيّاها ، ولكن أدلّك على رجل هو أعزّ بها منّي عثمان بن عفّان .
فقال : صدقت ، فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عثمان ، فأرسله إلى أبي سفيان وأشراف قريش ، يخبرهم أنّه لم يأت لحرب ، وإنّما جاء زائراً لهذا البيت ، معظّماً لحرمته ، فاحتبسته قريش عندها ، فبلغ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والمسلمين أنّ عثمان قد قتل .
فقال ( صلى الله عليه وآله ) : ( لا نبرح حتّى نناجز القوم ) ، ودعا الناس إلى البيعة ، فقام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى الشجرة فاستند إليها ، وبايع الناس على أن يقاتلوا المشركين ولا يفرّوا (2) .
فأنزل الله تعالى عند ذلك قوله : ( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيباً ) (3) ، ومن هنا سمّيت هذه البيعة ببيعة الرضوان .
حوار حول الاتفاقية :
بعثت قريش سهيل بن عمرو إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فقال : يا أبا القاسم ، إنّ مكّة حرمنا وعزّنا ، وقد تسامعت العرب بك أنّك قد غزوتنا ، ومتى ما تدخل علينا مكّة عنوة يطمع فينا فنتخطف ، وإنّا نذكّرك الرحم ، فإنّ مكّة بيضتك التي تفلقت عن رأسك .
قال ( صلى الله عليه وآله ) : ( فما تريد ) ؟ قال : أُريد أن أكتب بيني وبينك هدنة على أن أخلّيها لك في قابل فتدخلها ، ولا تدخلها بخوف ولا فزع ، ولا سلاح إلاّ سلاح الراكب ، السيف في القراب والقوس ، فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الإمام علي ( عليه السلام ) (4) ليكتب كتاب الصلح .
فقال ( صلى الله عليه وآله ) : ( اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ) .
فقال سهيل : لا اعرف هذا ، ولكن اكتب باسمك اللهمّ ، فكتبها ( عليه السلام ) .
ثمّ قال ( صلى الله عليه وآله ) : ( اكتب هذا ما صالح محمّد رسول الله سهيل بن عمرو ) ، فقال سهيل : لو شهدت أنّك رسول الله لم أقاتلك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( اكتب هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله سهيل بن عمرو ) ، فجعل علي ( عليه السلام ) يتلكّأ ويأبى أن يكتب إلاّ محمّد رسول الله ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( اكتب فإنّ لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد ) .
فكتب ( عليه السلام ) : هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله سهيل بن عمرو ، اصطلحا على وضع الحرب عشر سنين ، يأمن فيها الناس ، ويكفّ بعضهم عن بعض ، على أنّه من أتى محمّداً من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم ، ومن أتى قريشاً ممّن مع محمّد لم يردّوه عليه ، وإنّ بيننا عيبة مكفوفة ، وأنّه لا إسلال ولا إغلال ، وأنّ من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد وعهده دخل فيه ، وأنّ من أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه ... (5) .
بنود الاتفاقية :
جاء في الاتفاقية ما يأتي :
1ـ إيقاف الحرب بين الطرفين لمُدَّة عشر سنين .
2ـ التخيير بين الدخول في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، أو الدخول في عهد قريش .
3ـ أن يكون الإسلام ظاهراً بمكّة ، لا يُكره أحد على دينه ، ولا يؤذى ، ولا يُعيَّر .
4ـ أن يرجع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) هذا العام ، ثمّ يعود إلى مكّة في العام القادم ، بدون سلاح ، ويقيم بها ثلاثة أيّام .
شهود الاتفاقية والكاتب :
شهد على الاتفاقية مجموعة من الصحابة ، منهم الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وكان هو كاتب الصحيفة ، كما شهد من قبل قريش : حويطب بن عبد العزى ، ومكرز بن حفص .
وكتب ( عليه السلام ) الكتاب نسختين : إحداهما عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، والأُخرى عند سهيل بن عمرو .
وفاء النبي بالشروط :
بينا هم يكتبون الكتاب إذ جاء أبو جندل بن سهيل إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتّى جلس إلى جنبه ، وكان قد أسلم ، فقيّدته قريش وعذّبته ، فلمّا رآه أبوه سهيل قام إليه فضرب وجهه ، وأخذ بتلبيبه ، ثم قال : يا محمّد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا ، قال : ( صدقت ) (6) .
فقال المسلمون : لا نردّه ، فقام ( صلى الله عليه وآله ) وأخذ بيده ، وقال : ( اللهم إن كنت تعلم أنّ أبا جندل لصادق فاجعل له فرجاً ومخرجاً ) ، ثمّ أقبل على الناس وقال : ( إنّه ليس عليه بأس ، إنّما يرجع إلى أبيه وأُمّه ، وإنّي أُريد أن أتمّ لقريش شرطها ) (7) .
نزول آية المؤمنات المهاجرات :
قال ابن عباس : ( صالح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالحديبية مشركي مكّة على أن من أتاه من أهل مكّة ردّه عليهم ، ومن أتى أهل مكّة من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فهو لهم ، ولم يردّوه عليه ، وكتبوا بذلك كتاباً وختموا عليه .
فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمة بعد الفراغ من الكتاب ، والنبي ( صلى الله عليه وآله ) بالحديبية ، فأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم في طلبها وكان كافراً ، فقال : يا محمّد أردد عليّ امرأتي ، فإنّك قد شرطت لنا أن تردّ علينا من أتاك منّا ، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد ، فنزلت الآية ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ ـ من دار الكفر إلى دار الإسلام ـ فَامْتَحِنُوهُنَّ ) (8) .
قال ابن عباس : امتحانهن أن يستحلفن ما خرجن من بغض زوج ، ولا رغبة عن أرض إلى أرض ، ولا التماس دنيا ، وما خرجت إلاّ حبّاً لله ولرسوله ، فاستحلفها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما خرجت بغضاً لزوجها ، ولا عشقاً لرجل منّا ، وما خرجت إلاّ رغبة في الإسلام ، فحلفت بالله الذي لا إله إلاّ هو على ذلك ، فأعطى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) زوجها مهرها ، وما أنفق عليها ، ولم يردّها عليه ، فتزوّجها عمر بن الخطاب .
فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يرد من جاءه من الرجال ، ويحبس من جاءه من النساء إذا امتحن ، ويعطي أزواجهن مهورهن (9) .
مقولة عمر :
قال عمر بن الخطّاب : والله ما شككت مذ أسلمت إلاّ يومئذ ـ أي يوم الحديبية ـ فأتيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فقلت له : ألست نبي الله ؟ فقال : ( بلى ) ، قلت : ألسنا على الحق ، وعدوّنا على الباطل ؟ قال : ( بلى ) .
قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً ؟ قال : ( إنّي رسول الله ، ولست أعصيه ، وهو ناصري ) ، قلت : أو لست كنت تحدّثنا أنّا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : ( بلى ، أفأخبرتك أن نأتيه العام ) ؟ قلت : لا ، قال : ( فإنّك تأتيه وتطوف به ) (10) .
وقول عمر ( والله ما شككت مذ أسلمت إلاّ يومئذ ) يدل على تشكيكه ، والإنكار على النبي ( صلى الله عليه وآله ) فيما فعله بأمر الله تعالى .
وكيف استجاز عمر : أن يوبّخ النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ويقول له ، عقيب قوله ( إنّي رسول الله ولست أعصيه ، وهو ناصري ) : أو لست كنت تحدّثنا أنّا سنأتي البيت ، ونطوف به ؟
بعد الاتفاقية :
رجع سهيل بن عمرو وأصحابه إلى مكّة ، وأمّا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقد نحر هديه وحلق ، وأمر أصحابه بالنحر والحلق ، وأقام بالحديبية بضعة عشر يوماً ، ثمّ رجع إلى المدينة المنوّرة .
نزول سورة الفتح :
وفي طريقه ( صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة المنوّرة نزلت عليه سورة الفتح ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ) (11) .
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( فما انقضت تلك المدّة حتّى كاد الإسلام يستولي على أهل مكّة ) (12) .
وقال أنس بن مالك : لمّا رجعنا من غزوة الحديبية ، وقد حيل بيننا وبين نسكنا ، قال : فنحن بين الحزن والكآبة ، قال : فأنزل الله عزّ وجل : ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ... ) .
فقال نبي الله : ( صلى الله عليه وآله ) : ( لقد أُنزلت عليّ آية أحبّ إلي من الدنيا وما فيها ) (13) .