1- من الفقرات الجميلة في هذه المناجاة الرائعة هذا التعبير البليغ للإمام (ع) ، حيث يناجي ربه فيقول : (فقد هربت إليك..).. إن مفهوم الهروب إلى الله عزوجل من المفاهيم الجذرية العميقة في حركة المؤمن إلى الله تعالى ، ومن المعلوم بأنه اصطلاح قرآني ، فقد أمر الله عزوجل عباده بالفرار إليه ، كما جاء في قوله تعالى : {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}..
إن للهروب إلى الله تعالى -كأي هروب- له ركنان أساسيان :
الأول : الخوف والهلع الشديد من الجهة المهروب منها.
والثاني: الجهة المهروب إليها.
إذ أن الإنسان الهارب -بلا شك- أنه لا يهرب من فراغ أو عدم ، بل لتيقنه بوجود عدو أولاً ، ومعرفته بإضماره له بالشر ثانياً ، مع كونه متمكناً وله القدرة على الإيذاء ثالثاً.. وبما أنه في حركته هذه يحاول النجاة بنفسه ، فمن المؤكد أنه لا يفر إلا إلى موجود ، وكله اطمئنان بقدرته على حمايته ، بالإضافة إلى كون الوصول إليه ممكناً ميسراً.. فمثله كمن يريد أن ينجو بنفسه من أسد ضارٍ ، وأمامه قلعة حصينة منيعة ؛ فمن المقطوع المسلّم به بأن هذا الإنسان سيبذل قصارى جهده ووسعه ، ليصل إلى مأمنه ، وهو ذلك الحصن المنيع.. فإذن، الإنسان إذا عاش هذين الركنين بجميع عناصرها ، فإنه في المقابل ستتولد لديه حركة قهرية في الحياة ، وهذا بدوره سيوجب تحقق ما ندعو إليه دائماً ، من مجاهدة النفس ، والكدح ، والفرار إلى الله تعالى ؛ بشكل تلقائي.
2- إن القرآن الكريم يصرح في مواطن عديدة بأن الشيطان عدو للإنسان ، ويحذر من إتباعه ، كما يؤكد بضرورة مبادلته العداوة والحذر الشديد منه.. ومن هذه الآيات هو قوله تعالى : {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ، وقوله تعالى : {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ، وكذلك قوله تعالى : {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}.. فلماذا إذن هذه الاستهانة بالشيطان ؟!.. ولماذا هذا الركون عن مواجهته ؟!.. ولماذا لا يتخذ الإنسان موقفاً جاداً ضد هذا العدو ، الذي لا ينفك في الترصد له ؟!.. أو ليس هو بصريح الآيات من ألد أعداء بني آدم ؟!.. أليس هو الذي أقسم بعزة الرحمن على غواية بني آدم : {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} ؟!.. أليس هو الذي يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم ؟!.. فهو إذن، بحق متمكن ، إذ له القدرة والخبرة العريقة في تنفيذ وعده.. أضف إلى جنوده في مملكة النفس وهما : الهوى ، والغضب ؛ فهذان إذا توافقا مع الشيطان ، أمكنهما أن يحدثا انقلاباً على سلطان وجوده ، وهو العقل.. ثم أنه لو لم يكن قادراً على ذلك ، لرأينا إبطالاً لذلك القسم ورداً عليه في القرآن الكريم.. والحال بأنه بالفعل عدو متمكن أيما تمكن ، فهلا انتبهنا لذلك ؟!.
3- وفي المقابل لذلك العدو اللدود ، هنالك قلعة حصينة ، أُمرنا بالالتجاء إليها ، ألا وهو رب العباد أجمعين ، ومن بيده ناصيتهم.. إن الشيطان مع كل ما لديه من القدرة والحيل والسبل للقضاء على بني آدم ، إلا أن كيده ضعيفاً -كما يصفه القرآن الكريم- ؛ فهو لا يعدو عن كونه عبد من عبيد الله عزوجل ؛ وإن لله تعالى القدرة على صرف كيده -إذا ما أراد- عن عبده المؤمن ، كما صرفه عن أوليائه طوال التأريخ.
وفي حديث مناسب -يشير إلى ذلك الحصن- للإمام الرضا (ع) عن أبيه عن جده عن النبي (ص) عن جبرئيل : أن الله عزوجل قال : ( لا إله إلا الله حصني ، فمَن دخل حصني أمن من عذابي).. والمقصود هنا هو تحقيق كلمة التوحيد ، بأن لا يرى الإنسان مؤثراً في الوجود إلا الله عزوجل.. وإلا لو كان الأمر مجرد تلفظاً ، لكان المسلمون جميعاً في حصن الله ، والحال بأن الواقع خلاف ذلك.. فإذن، الذي يرى هذه الحقيقة بعين البصيرة ، فيا ترى ألا يتخذ هذه الحقيقة حصنا ً؟!..
وينبغي ألا يغفل الإنسان عن حقيقة أخرى ذكرها القرآن الكريم ، وهي لزوم تجنب كل ما يصد عن ذكر الله عزوجل ، من الاشتغال بالنفس والأموال والأولاد وما شابه ذلك ؛ إلى حد الالتهاء والغفلة ؛ فإن هؤلاء أيضاً من أعداء الإنسان ، بالإضافة إلى العدو الأكبر الشيطان الرجيم.. وعليه، فإن الإنسان الملتفت الذي اكتشف بأن الأعداء يحيطون به من كل جانب ، لاشك في أنه سيهرب إليه تعالى ، بكل ما يستطيع من قوة ، ويتخذه حصناً وملجأًً.
4- ثم يقول الإمام (ع) : (ووقفت بين يديك مستكيناً لك متضرعاً إليك راجياً لما لديك ثوابي..) : إن أغلب الحجاج والمعتمرين يستحضرون هذا المعنى ، عندما يقفون عند باب الكعبة ، غير أنه في الحقيقة معنى ساذج وسطحي.. نعم، إن الله عزوجل جعل الكعبة اتجاهاً موحداً للمسلمين في كل العصور ، ولكنه أيضاً الله تعالى يقول في آية أخرى : {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ}.. فمن المؤكد أن الإنسان وهو في بيت الله تعالى يأنف الحرام.. فلو أن إنساناً - مثلاً- جاءته امرأة ودعته إلى الحرام وهو في بيت الله ، فإنه قطعاً سيردها ؛ لأنه يستعظم هذا الأمر ، ولا يتصور نفسه يقوم بهذا الحرام ، إذ هو يعيش حالة استحضار الهيمنة الإلهية عند البيت ، ولهذا فهو لا يفكر في الحرام فضلاً عن الاشتغال بمقدماته.. فلو أن الإنسان وسع هذه الدائرة ، ورأى الكون كله المسجد الحرام ، فهل يا ترى يبادر في ارتكاب المعصية ؟!.. ولو أنه عاش هذا الشعور من المحرومية الشديدة -كما تشبه بعض الروايات- ، بأن الذي يرتكب الحرام في بيت الله ، كمن زنا بمَحَرم له في البيت الحرام ؛ فهل يفكر أصلاً في الحرام ؟!..
فإذن، الذي يصل إلى هذه الدرجة من ديمومة هذا الشعور بالمعية الإلهية ، فإنه قد حقق ما يسمى بالعصمة الصغرى ، ولعل هذا هو السر في الحديث المعروف : (علماء أمتي أفضل من أنبياء بني أسرائيل) ؛ إذا تجاوزنا في تفسير هذه العبارة إلى غير المعصومين ، وجعلنا المراد ببني إسرائيل غير أولي العزم منهم