|
عضو جديد
|
رقم العضوية : 33317
|
الإنتساب : Apr 2009
|
المشاركات : 4
|
بمعدل : 0.00 يوميا
|
|
|
|
المنتدى :
منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام
يا حامل القنديل
بتاريخ : 10-10-2010 الساعة : 11:17 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم
يا حامل القِنديل!
ـ فداء لك أيّها الإمام الرضا.. يا حامل القِنديل!
أقولها هذه المرّة وأنا أرمق ضريحه، ملتصقاً به في زحمة الزائرين. زحمة لم أرَ مثلها قبل اليوم. غريب أنا.. آتٍ من مكان بعيد. عند ضريح صاحب القنديل أشعر أنّي في أمان.. في حنان هو أحبّ إليّ من حنان أبي الذي وَلَدني. أبي سيّد هاشميّ.. وأنت يا مولاي يا حامل القنديل الزاهر من أئمّة ذريّة النبيّ وسادة بني هاشم. تفقّدتَني وأنا على مشارف الهاوية. كانت أشباح الموت تحيط به مقتربة من كلّ مكان. نجّيتَني في أحرج اللحظات قاطعاً إلَيّ في لحظةٍ مسافات الصحارى والجبال.. عَبَرتَ إليّ حتّى الحدود!
سنواتٌ ستّ وأنا انتظر هذه الفرصة.. فرصة زيارته والتأدّب بين يدَيه. كيف يتأتّى لي أن أشكره ؟! أأقول له: أنقذتَ حياتي.. أنا اليافع ابن الأربعة عشر عاماً الذي أعيش في زاوية مُهملَة من العالم ؟! أأقول له: إنّك تذكرني، وأنا ناسِيك ؟! تعرفني وترعاني.. كما ترعى نملة ضئيلة في مجاهل الصحراء. هل تكفي هذه الدموع التي أذرفها على الخدّ لأن أعبّر لك عن امتناني وعرفاني للجميل ؟! لا أجد ما أشكرك يا سيّدي به سوى قولي: إنّي عاجز عن الشكر! إنّ كرمك الفيّاض كالسيول الزاخرة في وديان قلب أفغانستان.. يفوق ـ يا إمامي ـ كلّ وصف. أشكر الله يا مولاي عندما أشكرك. أنت باب الله ووجهه، وحجّته التي أقامها على خلقه. بك وبآبائك وأبنائك الأئمّة المعصومين مَنّ الله علينا، فجعلكم طريقنا المستقيم والجميل إليه. طالما حكى لي أبي عنكم، وطالما سمعت ذلك في مجالس عزاء سيّد الشهداء عليه السّلام.
أبي مات.. رحمه الله. كان هو السبب. قلبه الذي ذكرك في تلك الليلة المصيريّة هو مَن جاء بي الآن في أرض خراسانَ إليك.
* * *
كان الثلج قد نزل غزيراً في قريتنا « چربن » من قصبة « شهرستان » في مدينة « أرزگان ». ووافق شتاء سنة 1974 أيّام المحرّم وعزاء الإمام الحسين عليه السّلام. أذكر ذلك اليوم بتفاصيله وكأنّي أراها الآن:
بعد الغداء ناداني أبي:
ـ عمران، تحبّ أن تذهب معي إلى مجلس العزاء في « دِيدَه واز » ؟
قلت:
ـ نعم.. بابا.
ـ إذَن.. تهيّأ بسرعة. إلبَس ثيابك، فبعد نصف ساعة نذهب.
بعد ساعة بدأنا مسيرنا إلى قرية « دِيده واز ». كان قد نزل أمس ثلج كثير، وكانت الأرض والتلال بيضاء بيضاء. زاغَ بصري من بياض الثلج الساطع. أمسك أبي يدي بقوّة، حاملاً بيده الأخرى عصا غليظة يستند إليها على الأرض المغمورة بالثلوج. قطعنا خمس ساعات مشياً على الأقدام حتّى وصلنا إلى « دِيده واز ». ومن فورنا توجّهنا إلى مجلس العزاء. ما كاد الجالسون يَرَون أبي حتّى قاموا احتراماً.
ـ السّلام عليكم.. سيّد. أهلاً بك. تفضّل.. تفضّل في صدر المجلس.. هنا.
تقدّم المضيّف إلى أبي فقبّل يده، ومضى بنا إلى صدر المجلس. تزحزح بعضهم عن أمكنتهم وفسحوا لنا، فجلسنا هناك.
ابتدأت مراسم المجلس. ذَكَر الراثي كربلاء وعاشوراء ومصيبة سيّد الشهداء. وبعد انتهاء العزاء مُدَّت السُّفرة، وابتدأنا بتناول العشاء. مَن ؟! أذلك قاسم ؟! هل هو قاسم حقّاً ؟ لكنّه على غير ما يُرام! لمحته جالساً في ناحية من الغرفة وأنا أتناول الطعام. كأنّه مريض.. صديقي قاسم، طافحة على وجهه بُثور حُمر! همستُ لأبي:
ـ بابا.. انظر! ذاك صديقي قاسم! أريد أن أذهب إليه.
نظر أبي إليه، ثمّ قال:
ـ لا، إجلس. لا تتحرّك من مكانك!
ـ لكن.. لماذا ؟!
ـ إنّه مريض.. مصاب بالحَصبة. مرضه مُعدٍ. تصاب بمرضه إذا ذهبتَ إليه. اسكُت الآن، وكُل عشاءك.
كان الجميع مشغولين بالحديث بعد العشاء.. كلّ منهم يقول شيئاً. وأبي كان مشغولاً بهم أيضاً. ابتعدت عنه برفق، ومضيت إلى قاسم.
ـ السّلام عليك يا قاسم.. ماذا بك ؟
ـ أُصَبتُ بالزكام، ثمّ امتلأ جسمي بالبُثور الحمر. قم واذهب.. لا تمرض.
ـ إن شاء الله تشفى.
ودّعته وذهبت. وبِتنا تلك الليلة في ديده واز. وفي اليوم التالي انطلقنا عائدين إلى قريتنا. في الطريق سَعَلتُ عدّة مرّات. سألني أبي:
ـ ماذا بك عمران ؟ هل أصابك البرد ؟
ـ لا أدري. ربّما لأنّي جلست دقيقة قرب قاسم!
ـ ألَم أقُل لك أن لا تذهب ؟!
ـ لا شيء يا بابا. سعالي لا علاقة له بقاسم!
وصلنا إلى الدار وأنا أشعر بإرهاق شديد قد استولى على كلّ بدني. رأسي يدور.. أريد أن أنام.
مرّ يومان.. كانت حالتي فيهما تزداد سوءً لحظة بعد لحظة. آلام في كلّ جسمي. وبدأت تطفح بالتدريج بُثور حمر في الأجزاء الظاهرة من بدني. الليلة الثانية كانت ليلة سُخونة شديدة وقشعريرة. وصل الأمر إلى أني ما كنت أقدر أن آكل لقمة واحدة. في اليوم الثالث جاء إلى دارنا أحد الجيران. كان يتحدّث مع أبي، وكنت أسمع كلامهما.
ـ السّلام عليكم.. سيّد. سمعت أنّ عمران مريض.
ـ عليكم السّلام. نعم، عمران حالته سيّئة.
ـ كثير من أولاد القرية مصابون بالمرض. هذا المرض مُعدٍ.
ـ لا أدري.. هل يمكن أخذ عمران إلى المستوصف ؟!
ـ لا يمكن. أين تريد أن تذهب في هذا الثلج والمطر ؟! الطريق إلى المدينة يأخذ يومين. أصلاً الطريق مسدود بالثلوج. أتريد أن تعرّض نفسك للموت ؟!
كان أبي ما يزال يتحدّث مع الجار عندما جاءتني أمّي حاملةً كاسة من الحليب. أدنَت الكاسة من فمي، فشربتُ قليلاً. لقد صار غذائي الحليب، ما أقدر أن آكل شيئاً آخر.
أسمع الريح تُعوِل خارج الدار.. وبدأ الجوّ يظلمّ بالتدريج. أضاء أبي الفانوس، ثمّ جاء وجلس في جواري. جاءت أمّي أيضاً. قال أبي:
ـ أمَا تريد شيئاً.. عمران ؟
لم تكن لي قدرة على الكلام. كان صوتي قد بُحَّ تماماً. أجَبتُ أبي بإشارة من يدي. وتنبّهتْ أمّي إلى عجزي عن النطق، فانفجرت باكية. كنت في حالة غريبة.. كأنّي أُلهمتُ بأنّي على وشك الموت. مدّ أبي يديه إلى السماء:
ـ إلهي، نذرتُ كلّ غنمي إذا شفيتَ ولدي.
قالت أمّي وهي تبكي:
ـ سيّد.. انذُر العِجل أيضاً.
من فوره نهض أبي، ونظر إلى أمّي قائلاً:
ـ نذرتُ العجل أيضاً. أروح الآن لأضحّي به لعمران، وتوزّعين لحمه على أهل القرية.
* * *
كان الليل قد انتصف، وما يزال أبي وأمّي إلى جنبي. أُحسّ بظلّ الموت قريباً منّي. كان أبي ينظر إليّ مُحدِّقاً بي حينما التَفَت إلى أمّي كمَن خطر في باله شيء في لحظة خاطفة. قال:
ـ لابدّ أن نَنذُر أنّنا نأخذ عمران إلى مشهد لزيارة الإمام الرضا عليه السّلام إذا شُفي.
ـ فكرة جيّدة.. سيّد. إلهي أسألك بحقّ الإمام الثامن أن تعافي ولدنا! إذا بقي حيّاً نأخذه لزيارة ضامن الغزالة.
قالت أمّي هذا وسكتت. وغلب الصمت على الغرفة. وكانت الريح ما تزال تتناوح في الخارج. أغلقتُ عينَيّ ودخلت في النوم.
* * *
وحدي كنت واقفاً في قاع الوادي. كان الوادي كبيراً تحيط به من جانبَيه جبال شاهقة. واقفاً كنت حائراً لا أدري أيّ طريق أسلك. أقدامي ترتجف. نظرت إلى أعلى. تراءت لي الجبال أشباحاً سُوداً تمدّ مخالبها نحوي. وبدأت غيوم رماديّة داكنة تغطّي السماء كلّها. كانت الغيوم كُتَلاً ضخمة في جانبَي السماء.. تتحرّك متقاربة ليصطدم بعضها ببعض. مرّت دقائق.. وفجأة انبعث صوت الرعد مَهيباً مخيفاً جعلني أتجمّد في مكاني. تجاوَبَ الصوت الراعب المُجَلجِل في جَنَبات الوادي. وفي لحظة.. أضاء كلُّ شيء. وبدأت قطرات المطر تَنقَضّ عنيفة كوقع السِّياط.
فررتُ بلا اختيار إلى ناحية، غير أنّي لم أكَد أجري قليلاً حتّى توقّفت فَزِعاً! كان سيل هائل يتقدّم نحوي من آخِر الوادي ويقترب منّي. المياه الطاغية الجارفة تتدافع ساعيةً صوبي بإصرارٍ عنيد! استَدرتُ وأخذت بالجري في الاتّجاه الآخر المعاكس لجهة السيل. لكنّ سيلاً آخر مروِّعاً كان يتحرّك آتِياً إليّ من هذا الاتّجاه أيضاً! تسمّرتُ في مكاني.. وانتحبت باكياً. إنّي مُحاصَر بالموت من كلّ مكان، ولا سبيل إلى الخلاص! في هذه اللحظة الحرجة.. وقع بصري فجأة على رجل نورانيّ مديد القامة كان يُقبل إليّ، مرتدياً ثياباً خُضراً، وفي يده قنديل نور صغير. أمسك الرجل بيدي ورفعني إلى الأعلى. وما هي إلاّ طرفة عين حتّى تلاقى السَّيْلان الصاخبان فامتزجا بحراً متلاطم الأمواج. ومن فوق كنت أحدّق بالبحر الكبير المتلاطم تحت قدميّ. أمّا أنا فقد كنت خفيفاً خِفّةَ النسيم، ناجياً بهذا الطيران الملائكيّ الممتع. إنّ الرجل ذا القنديل الزاهر قد نجّاني من براثن السيل الهادر، في وادي الموت الرهيب.
استيقظت ظهر اليوم التالي.. جائعاً، وبدأت أتناول الطعام برغبة. ويوماً بعد يوم كانت البثور الحمر تختفي من بدني وتزول.
* * *
في حضرة الرضا عليه السّلام.. أنا وأمّي نؤدّي نذر الزيارة. أتطلّع بعيونٍ دامعة إلى الضريح.. فأكاد أبصر لأْلأة القنديل في تلك الليلة الغريبة المضاءة بنور رأفة الإمام الرضا عليه السّلام.
( ترجمة وإعداد من مجلّة الزائر، ص 16 ـ 17، العدد 103، السنة 10، تير ماه 1382هـ. ش )
|
|
|
|
|